(2صم15-18)
المشهد الثاني: عند البيت الأبعد في أورشليم (2صم15: 17-22)
ذكرنا في العدد السابق أن لنا درسين نتعلّمهما مِن الشخصيات التي تعامل معها داود عند ”الْبَيْتِ الأَبْعَدِ“:
الدرس الأول: الْجَلاَّدُون وَالسُّعَاة وَالْجَتِّيِّيون ... وقوة تأثير الرب ونعمته.
الدرس الثاني: إِتَّاي الْجَتِّيِّ ... وروعة تبعية الرب وخدمته.
وقد تحدثنا في العدد السابق عن الدرس الأول، ونواصل تأملاتنا في هذا العدد عن:
الدرس الثاني: إِتَّاي الْجَتِّيِّ ... وروعة تبعية الرب وخدمته ...
الاتحاد بالرب والتكريس له ضرورة حتمية
«فَقَالَ الْمَلِكُ لإِتَّايَ الْجَتِّيِّ: لِمَاذَا تَذْهَبُ أَنْتَ أَيْضًا مَعَنَا؟ ارْجِعْ وَأَقِمْ مَعَ الْمَلِكِ لأَنَّكَ غَرِيبٌ وَمَنْفِيٌّ أَيْضًا مِنْ وَطَنِكَ. أَمْسًا جِئْتَ وَالْيَوْمَ أُتِيهُكَ بِالذَّهَابِ مَعَنَا وَأَنَا أَنْطَلِقُ إِلَى حَيْثُ أَنْطَلِقُ؟ ارْجِعْ وَرَجِّعْ إِخْوَتَكَ. الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ مَعَكَ. فَأَجَابَ إِتَّايُ الْمَلِكَ: حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ وَحَيٌّ سَيِّدِي الْمَلِكُ، إِنَّهُ حَيْثُمَا كَانَ سَيِّدِي الْمَلِكُ، إِنْ كَانَ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلْحَيَاةِ، فَهُنَاكَ يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضًا. فَقَالَ دَاوُدُ لإِتَّايَ: اذْهَبْ وَاعْبُرْ. فَعَبَرَ إِتَّايُ الْجَتِّيُّ وَجَمِيعُ رِجَالِهِ وَجَمِيعُ الأَطْفَالِ الَّذِينَ مَعَهُ» (2صم15: 19-22)
إلى جانب المجموعة الكبيرة من الأمم الأوفياء الذين ارتبطوا بداود من وقت طويل (2صم15: 17، 18)، كان هناك وافدٌ أتى منذ وقت قصير نسبيًا. والروح القدس يتعمد أن يُلقي الضوء، ويُلفت انتباهنا إليه؛ إنه ”إِتَّاي الْجَتِّيِّ“، الذي كان شخصًا وفيًا مُحبًّا مُخلصًا لداود، لدرجة أن داود جعله قائدًا لجزء من جيشه في معركته الأخيرة مع جيش أبشالوم (2صم18: 1، 2).
كان ”إِتَّاي“ جتيًّا أي مِن ”جَتّ“، ومن هذه المدينة أيضًا جليات الفلسطيني الذي قتله داود، وأحرز انتصارًا عظيمًا يُشير رمزيًا إلى النصر الأعظم الذي أحرزه ربنا يسوع المسيح، على صليب الجلجثة. لقد قُتل جبار جَتّ بذات سيفه، كما أباد المسيح بالموت ذاك الذي له سلطان الموت (عب2: 14). وجَتّ معناها ”معصرة“ وفيها إشارة إلى غضب الله. ومن جَتّ جاء ”إِتَّاي الْجَتِّيِّ“ ليلتصق بداود. وكان ذلك الجَتيّ غريبًا ومنفيًا من وطنه (2صم15: 19)، ولكن في كلماته التي نطق بها لداود عبَّر عن ولائه للملك، وعن تطوعه ورغبته أن يكون معه، سواء للموت أو للحياة.
وكلمات ”إِتَّاي“ كانت تعبيرًا عما هو أكثر من مجرد علاقة بينه وبين داود. إنها كانت تشتمل على الاعتراف بالإيمان بالله الحي الحقيقي. إنه يبدأ كلماته بالقول «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ». إنه كراعوث الموآبية، أصبح مؤمنًا حقيقيًا ”بيهوه“، ومن المحال أن يعود مرة أخرى لشعبه وآلهته القديمة.
ورغم أن كل الظروف اتحدت لتستبعد ”إِتَّاي“ مِن أن يُلقي قرعته ونصيبه مع داود؛ فلقد كان غريبًا ومنفيًا، ولم يكتسب بعد حقوق المواطنة في إسرائيل، فقد جاء بالأمس القريب فقط، وأيضًا كان معه عدد كبير من الأطفال – وبالطبع النساء – وهو ما كان سيُمثل عبئًا ثقيلاً في حال قرر أبشالوم مطاردتهم. بل إن داود نفسه لم يتوَّقع من ”إِتَّاي“ اتخاذ أي خطوة لاتباعه، بل ويأذن له بالانصراف، ويُحرضه على الرجوع «ارْجِعْ وَرَجِّعْ إِخْوَتَكَ. الرَّحْمَةُ وَالْحَقُّ مَعَكَ». إنه يُباركه لكي يجعله متيقنًا إنه تحت هذه الظروف لا يُحسب عليه أي تقصير أو عجز، إذا ما قرر المكوث في أورشليم.
ولكن لا شيء يُقنع ”إِتَّاي“ الذي يُقرر أن يلتصق بداود، ويبقى معه؛ إنه لا يعرف مكانًا، ولا سيدًا آخر. فمَن يخدم بخلاف داود؟! أَ فليس أبشالوم عدو سَيِّده؟ وما الذي يُعوّقه عن تبعية داود؟ هل الموت؟ إذا كان لا بد لداود أن يموت، فمرحبًا بالموت لإتَّاي أيضًا. إنه يتوقعه ويضعه أولاً «إِنْ كَانَ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلْحَيَاةِ». وبالنسبة له فالحياة تأتي بعد الموت، بأية طريقة، وفي أي مكان. وإلى أن يأتي الموت، فحيث يجب أن يكون داود، يكون خادمه أيضًا. يا لها من مشاعر منعشة لقلب الملك المُطارد؛ مسيح الرب.
ويا لروعة إيمان ”إِتَّاي“ الذي يلمع متوهجًا في عباراته! «حَيٌّ هُوَ الرَّبُّ وَحَيٌّ سَيِّدِي الْمَلِكُ، إِنَّهُ حَيْثُمَا كَانَ سَيِّدِي الْمَلِكُ، إِنْ كَانَ لِلْمَوْتِ أَوْ لِلْحَيَاةِ، فَهُنَاكَ يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضًا». فسواء مات أو عاش، هو يريد أن يكون برفقة داود. وكأن هذه الكلمات الرنانة صدى جواب راعوث (را1: 16، 17)، أو رفقة (تك24: 58)، وهي ترجمة كل نية معقودة على طاعة الرب يسوع.
ولدينا من موقف ”إِتَّاي الْجَتِّيِّ“ هذا بعض الدروس الأدبية الهامة:
أولاً: أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ: التصق ”إِتَّاي“ بداود، ورافقه، ولكن ليس وحده، بل «عَبَرَ إِتَّايُ الْجَتِّيُّ وَجَمِيعُ رِجَالِهِ وَجَمِيعُ الأَطْفَالِ الَّذِينَ مَعَهُ». هذه صورة مُشجعة للآباء الذين يتجردون لخدمة الرب مع كل ذويهم وكل عائلاتهم وأطفالهم، ويكون لديهم الاستعداد لتحمّل المشقّات لأجل الرب يسوع المسيح (2تي2: 3)، واثقين أن الرب هو الذي يُدبر سلامتهم، وسلامة كل ذويهم، حتى الأطفال منهم. لقد أعطى ”إِتَّاي“ ظهره للعدو المُنتصِر، «وَعَبَرَ ... نَحْوَ طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ» (2صم15: 23). ولكن ماذا يهمه؟ إن راعيه معه فلن يُعوزه شيئًا.
ثانيًا: ابدأ مُبكرًا: إن ”إِتَّاي“ الذي كان قد أتى إلى داود منذ وقت قصير نسبيًا، يُمثل الكثير من المؤمنين الذين تغيّروا حديثًا، والذين لهم نور قليل، ولكنهم يُظهرون إيمانًا وتكريسًا عظيمين، بخلاف مَن يستسلمون في يوم التجربة، وربما تكون معرفتهم أكثر بكثير من الفريق الأول.
إنه لكي يُصبح لك إيمان عظيم فأنت لا تحتاج إلى معرفة عظيمة، ولا حياة مسيحية طويلة، فيكفي أن يكون لك تقدير عظيم للرب، لكي تعرف أنه لا شيء يُساويه، ولا شيء يُقارن به، ولكي تعرف أيضًا أنه هو وحده القادر أن يُشبع أعوازك تمامًا.
ثالثًا: التسلح بنية الألم: لم يكن لدى داود في ذلك الوقت أي شيء يُقدمه لأتباعه إلا المشاركة في رفضه، ومع ذلك ظلت هناك جاذبية خاصة فيه لأولئك الذين عرفوا شخصه، وهذه الجاذبية هي التي ربطتهم به في كل الأوقات، فاستطاعوا أن يبكوا معه، وأيضًا أن ينتصروا معه.
هل فكرنا بالحقيقة فيما سنفعله إذا تعرّضنا كمسيحيين للاضطهاد، للسجن أو للموت، كما حدث مع المسيحيين الأوائل؟ الذين يُحبون الرب يسوع بالحق سيظهرون، وسيكونون مستعدين لاتِّباعه، ليس فقط عندما يكون الطريق سهلاً، بل أيضًا في وقت الضيق والمشقة، واضطرارهم للتضحية. ويا ليتنا جميعًا نتمثل بإِتَّاي في تصرفه مع داود!
رابعًا: الاتحاد بالرب يسوع المسيح: إن عبارات ”إِتَّاي“ تُذكرنا باتحادنا المُبارك بربنا يسوع المسيح؛ الاتحاد الذي أدخلتنا إليه نعمة الله. لقد تكلَّم عن التصاقه بداود سواء للموت أو للحياة. ونحن اتحدنا والتصقنا بربنا في كلا الأمرين؛ في موته وفي حياته.
لقد مات المسيح بدلاً عنا، وحمل في جسمه خطايانا على الخشبة. ونحن «قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ ... عَالِمِينَ هَذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا الْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ الْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضًا لِلْخَطِيَّةِ» (رو6: 5، 6). لقد مات المسيح لأجلنا، ونحن متنا معه «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ» (غل2: 20). لقد فصلنا موت المسيح عن العالم إذ قد «صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غل6: 14).
وصحيح بالمثل أيضًا أننا متحدون مع المسيح في حياته. فالحياة التي له قد أخذناها بالإيمان به. أخذنا حياته؛ الحياة الأبدية، فهو حبة الحنطة ونحن الثمر الكثير.
لقد أُقمنا مع المسيح «إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ» (رو6: 5). بل أيضًا نحن وصلنا إلى ما هو أعلى من هذا لأننا أُجلسنا معًا في السَّماويات في المسيح (أف2: 6)، وكل أمجاد ربنا يسوع المسيح المُكتسبة - أمجاده التي استحقها كابن الإنسان، صانع الفداء، كل أمجاده هذه قد اشتركنا فيها.
إننا مقرونون به في حياة القيامة والمجد المرتبط بها. شاركناه البنوية في القيامة، وسنشاركه عرشه في يوم مجده وقوته «أَمِينٌ هُوَ اللهُ الَّذِي بِهِ دُعِيتُمْ إِلَى شَرِكَةِ ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا» (1كو1: 9).
خامسًا: التكريس للرب يسوع المسيح: إن عبارات ”إِتَّاي“ تُذكرنا أيضًا بالتكريس الذي ينبغي أن نُظهره نحو ربنا يسوع المسيح، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة ومن الغضب الآتي.
إن اتحادنا به وشركتنا معه وتقديرنا لشخصه ينبغي أن تظهر جميعها في عيشتنا اليومية؛ عيشة الطاعة والتكريس له. كل هذا نطق بصوت عال في تصرف ”إِتَّاي“ الذي قرر أمام داود أنه التصق به حيثما ذهب.
إن رفض داود وهروبه من أمام أبشالوم أخرج هذا الإقرار النبيل من قلب ”إِتَّاي“. ولكن للأسف كثيرين من شعب الله يعرفون حق اتحادهم بالمسيح، ويعترفون به بشفاههم، ويتطلعون إلى المجد العتيد، لكنهم يفشلون فشلاً كاملاً في إظهار هذا الاتحاد به في الموت والحياة إظهارًا عمليًا. إن حياتهم لا تشهد لحقيقة وحدتهم مع المسيح وتكريسهم له، وطاعتهم الكاملة لشخصه المبارك. والروح القدس دائمًا يحث ويُحفز أولاد الله على إعطاء الرب يسوع مكانه اللائق في حياتنا. إن المسيح مرفوض من الناس، ويا له من شرف في هذه الأيام أن نعترف به، ونلتصق به، ونتعلَّق به، ونُخْلص لشخصه، ونُطيع كلماته. وينبغي أن تملأنا كلماته بغيرة مقدسة لخدمته ولإكرامه في كل طرقنا. لقد قال له المجد: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ» (يو12: 26).
لقد ذهب ”إِتَّاي“ تابعًا داود إلى كل مكان، وقال هذه الكلمات بالذات: «إِنَّهُ حَيْثُمَا كَانَ سَيِّدِي الْمَلِكُ ... هُنَاكَ يَكُونُ عَبْدُكَ أَيْضًا». وربنا المعبود يطلب أن نتبعه، ويؤكد لنا أننا سنكون معه، وسنُكرَم من الآب. ولاحظ أن قلب الآب يشبع بالتكريس لابنه، فإذا خدمناه في زمن رفضه، وشاركناه عاره أمام العالم، فلنتيقن عندئذٍ أن الآب سيُعطينا مكان الإكرام «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي يُكْرِمُهُ الآبُ». إن هذا الإكرام ربما يكون في الحياة، أو ربما في الموت، ولكنه بالتأكيد في المجد.
يا ليتنا نتمتع بتبعيته ونُعبّر تعبيرًا قلبيًا عن شركتنا معه بحياة التكريس والخضوع والطاعة «إِلَى أَنْ يَجِيءَ»، «وَهَكَذَا نَكُونُ كُلَّ حِينٍ مَعَ الرَّبِّ» (1كو11: 26؛ 1تس4: 17).
(يتبع)