عدد رقم 2 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
روزي  

قصة واقعية مؤثرة

   روزي فتاة من بنجلاديش لها قصة رائعة، حيث صلت بإيمان لكي يغيّر الرب ظروفها المؤلمة، واستجاب الرب لها بطريقة عجيبة.  ولندع روزي تحكي لنا قصتها: 
   "وُلدت في بنجلاديش في عائلة فقيرة جداً حتى أننا لم نكن نجد ما يسد الرمق.  كنت السابعة بين إخوتي التسعة، وكان والدي يتغيب عن بيتنا (كوخنا الصغير)، لشهور متوالية يبحث عن رزقه ورزق عائلته.  لا أستطيع أن أقول أنني كنت تعيسة لأني كنت قد تعودت الفقر ولأن سعادتي وقتئذ لم تكن تتعدى دائرة اللعب في الحارات التي تكتظ بالأطفال الفقراء مثلي، وكنت بذلك سعيدة .
   كنا خمسة إخوة ذكور وأربعة إناث.  الأولاد الذين يكبروني التحقوا بالمدارس فكانوا عبئًا كبيرًا على والديَّ.  البنتان اللتان تكبراني عملتا خادمتين في بيوت الأثرياء وبقيت أنا وأخي وأختي الصغار بلا مدرسة ولا عمل.  عندما أصبحت في العاشرة من عمري أرسلني والدي إلى أحد البيوت لأعمل خادمة.  وهنا بدأت مأساتي! 
   كانت السيدة جسي ربة المنزل سيدة متسلطة، ليس علىّ فقط وإنما أيضًاعلى زوجها السيد يوهان وعلى بناتها الثلاث.  وهنا بدأت أعرف طعمًا جديدًا للحياة لم أختبره من قبل.  أصبحت الحياة بالنسبة لي عملاً وجهدًا وتعبًا متواصلاً، وخضوعًا وطاعة عمياء واحتمالاً لكذب وافتراءات لا تنتهي. 
   عندما كنت أخلو إلى نفسي كنت أتذكر بأسى حياتي الأولى في الكوخ المتهدم.  كم كنا نلعب ونمرح، وكم كنت أحب صديقاتي الفقيرات مثلي، وكم كانت الأمهات تحنو على أبناء الجيران وكأن الفقر قد ربطهن جميعًا برباط أساسه الشعور بأنهن يتقاسمن حظًا واحدًا تعيسًا، فحاولن أن يجمّلنه بالموّدة ويزيّنه بالعطف والحنو.  آه كم كنت سعيدة في تلك الأيام السالفة التي تبدو لي الآن بعيدة جدًا وكأنها حلمٌ قد تبخر.
   بعد مرور ثلاثة أعوام تقريبًا فوجئت بوالدي يحضر لزيارة مستخدميَّ، وفي حجرة الضيوف كان هناك حديث خاص بينه وبين السيد يوهان لم أستطع أن أميّز مُفاده.  لاحظتْ السيدة جسي أنني أحاول أن أسترق السمع فانتهرتني بشدة، ومع ذلك استطعت أن أفهم أن هناك مساومة مادية على شيء ما. 
   في نهاية الجلسة استدعاني السيد يوهان، وعندما دخلت الغرفة وضع والدى يده على كتفي وقال: "روزي أنت محظوظة جدًا فستذهبين مع هذه العائلة الكريمة إلى بلد جميل ورائع لتعيشي معهم.  هذا البلد اسمه انجلترا.  يا ليتني كنت أنفع أنا للذهاب معهم.
   نظرتُ إلى والدي فوجدت الدموع تترقرق في عينيه، فهتفت رغمًا عني: "لا يا أبي ..لا يا أبي .. أرجوك لا تتركني.. أريد أن أذهب معك الآن".
   وجدت الدموع تتزايد في عيني أبي وعضّ على شفتيه بينما قال السيد يوهان بلطف: "تأكدي يا روزي أنك ستسعدين جدًا في ذلك البلد الجميل، ولو خيّرناك فلن ترضي بالعودة أبدًا إلى بنجلاديش".
   هتفت: "لا لا أرجوكم. أرجوكم أنا لا أريد الذهاب إلى... إلى ... إنجلترا هذه"
   همّ السيد يوهان بالكلام قائلاً: "ولكن يا روزي ..."
   قاطعته السيدة جسي بحزم: "يوهان.. اتركها .. لا داعي للتدليل.  لقد اتفقنا مع والدها وهذا يكفي".
   لم يجب أبي ولم ينظر نحوي وإنما حوّل وجهه وخرج بينما يده المرتعشة تخرج منديلاً كبيرًا من جيبه غطى به وجهه، وكان آخر ما سمعته منه هو شهقة كبيرة، بعدها لم أره ولم أسمع صوته لسنوات طوال. 
   في إنجلترا لم يكن الحال أفضل بل أسوأ.  لم يكن هناك في المنزل الواسع مكان لمبيتي سوى حجرة بدون نوافذ في الفناء الخلفي بجوار حجرة الكلاب التي تتمتع باحترام وتدليل لم أظفر أنا به.  كانت المعاملة أسوأ لأنه لم يكن هناك توجس من أي شكوى مني أو عودة إلى أهلي. 
   لا أتذكر يومًا واحدًا ذهب فيه السيد يوهان وعائلته إلي كنيسة ما، ولم أر في حياتي كتابًا مقدسًا في بيتهم، غير أنه في يومٍ من الأيام حضر شيخٌ وقورٌ لزيارة العائلة، وكان هذا بعد حوالي عامين من وصولنا إلى إنجلترا.  كان هذا الشخص صديقًا حميمًا لوالد السيد يوهان. وبدأ الرجل يتكلم عن الرب، وعن الفداء، وعن غفران الخطايا وعن الخلاص الأبدي. كانوا يستمعون في صمت ويحاولون أن يخفوا مللهم.  أما أنا فقد حاولت أن أركز ذهني في كل كلمة أسمعها، وتذكرت مريم الشابة الوديعة التي كانت تزورنا في منطقتنا الفقيرة في بنجلاديش وتصطحبنا إلى مدارس الأحد في كنيسة قريبة، حيث هناك تعلمت بعض الترانيم وتعلمت شيئًا عن موت المسيح لأجلنا على الصليب. 
   أثناء حديث الرجل كنت في المطبخ أعد بعض المشروبات والحلوى، ولأن المطبخ وغرفة الاستقبال كانا في مكان واحد، فقد وصلتْ كل كلمة إلى أذنيّ بوضوح. 
   سمعت عن الدينونة العتيدة أن تلحق كل من لا يؤمن، وشعرت برغبة شديدة أن أعرف المزيد ولكنني لم أتجرأ أن أسأله عن أي شيء رغم  أن زياراته تكررت وحديثه عن الرب وعن الخلاص تكرر.  كنت أترقب زيارته وانتظرها بفارغ الصبر، وتولدت في قلبي أشواق صادقة لتسليم حياتي للرب، إلى أن جاء اليوم الذي رحل فيه هذا الشيخ عن البلدة التي نعيش فيها، وهكذا انقطعت زياراته لنا.
   رحل الرجل لكن كلماته وتأثيرها لم يفارقني.  وذات ليلة شعرت بحضور الرب في غرفتي جليًا وكان كمن يربت على كتفي في حنان، وعندها جثوت وصليت وسلمت نفسي بالتمام للرب وشعرت بفرح غامر استطعت به أن أحتمل الكثير من الضيق والألم الذي كنت أكابده في بيت السيد يوهان والسيدة جسي.
   في تلك الآونة كنت أصلي بلجاجة إلى الرب لكي يغيّر من وضعي.  وضعت طلبات أمام الرب وكنت أصلي من أجلها يوميًا، كنت أصلي بل وأصوم أحيانًا لكي ينقلني الرب من هذا البيت إلى بيت آخر أجد فيه مؤمنين حقيقيين أستطيع أن أذهب معهم إلى الكنيسة وأتعلم الحق الذي كنت أشتاق من قلبي أن أتعلمه، كما كنت أصلي أن يمنحني الرب فرصة لتعلم القراءة لأقرأ كلمة الله، وأن يمنحني أيضًا فرصة لأخدمه ولو بإمكانياتي الوضيعة والبسيطة. 
   كنت أقول للرب: أنا أعلم أن هذه الطلبات مستحيلة ولكن لأنك أنت الله فلن تستحيل عليك.  أنا أؤمن أنني سأحصل عليها وإن كنت لا أعرف كيف.  نعم لم أكن أعرف كيف، ولكن الله عرف. 
   ذات يوم طرق بابنا شرطيان لاستجواب السيد يوهان في أمر شكوى من أحد المواطنين كان قد تعرض لخدش من أحد الكلاب التي نقتنيها حيث أن كل واحدة من بنات السيد يوهان كانت تقتني كلبًا، وحدث ذات يوم أن عادت السيدة جسي وبناتها من الخارج ونسيْن الباب الأمامي مفتوحًا لمدة تزيد عن العشر دقائق فخرج أحد الكلاب وهاجم ذلك الشخص فخدشه ولذلك قدم الرجل بلاغًا بهذا الأمر في قسم الشرطة.
   كان على السيد يوهان أن يدفع غرامة مالية ويسلم الكلب إلى الشرطة لإيداعه في إحدى المستشفيات البيطرية لوضعه تحت الملاحظة. 
   عندما فتحتْ السيدة جيسي الباب للشرطيين وعرفت منهما أمر الشكوى، نظرت إليَّ بغضب مفتعل وصاحت: "هذه الفتاة .. إنها هي السبب لقد نسيتْ الباب الأمامي  مفتوحًا فخرج الكلب.  إنها هي التي يجب أن تُغرَّم".
   هتفتُ وقد تولاني الخوف: "كلا. لست.."
   قاطعتني السيدة جسي: " اذهبي واحضري رباط الكلب من حجرتك"
   كانت حجرتي بجوار حجرة الكلاب وعندما فتحتها سألني أحدهم: "ما هذه؟"
   أجبته بلغتي الركيكة: "إنها حجرتي"
   نظر الرجلان داخل الغرفة حيث كان السرير الذي أنام عليه مكسورًا وهابطًا، والمرتبة متسخة وممزقة، ولا يوجد بالغرفة سوى صندوق قديم أضع به ملابسي كما لا يوجد بالغرفة منفذ واحد للهواء. 
   نظرا بعضهما لبعض بتعجب مشوب بالغضب ولم يتكلما، ولكن يبدو أن السيدة جسي قد اغتاظت جداً لأنني قلت إنها حجرتي فلكزتني لكزة آلمتني وهي تقول: "إنها غبية وحمقاء وسأرسلها غدًا إلى قسم  الشرطة للإدلاء بأقوالها".
   اعتراني فزع شديد فهتفت وأنا انتفض رعبًا: "لست أنا .. لست أنا بل.. صدقوني لست أنا" 
   هنا لطمتني السيدة جسي على وجهي وهي تقول: "تقصدين إني أكذب ؟"
   لم أستطع أن أتكلم ولكنني انفجرت في البكاء، فنظر الرجلان نحوالسيدة بغضب شديد وقالا: "بل ستحضرين أنت وزوجك إلى قسم الشرطة"، وسلّماها خطاب الاستدعاء الخاص بزوجها وخرجا وهما في قمة الغضب.
   في اليوم التالي وصلنا خطاب استدعاء آخر للسيدة جسي إلى قسم الشرطة للتحقيق معها في قضية أخرىموضوعها "سوء المعاملة أو المعاملة اللا آدمية"، وبعد يومين استُدعيت أنا لاستجوابي في أمر سوء معاملتهم لي.  حاولت ألا أظهر كل القسوة التي يعاملوني بها حتى لا أضرهم، وحتى لا ينتقموا مني، غير أن الأسئلة التي كانت تتعدى الخمسين سؤالاً كانت تستدعي الإجابة بنعم أو لا فقط، لذلك فقد جاءت كلها تعبّر عن الحقيقة كاملة.
   رفض قسم الشرطة إعادتي إلى بيت السيد يوهان وخيّرني بين إعادتي إلى بنجلاديش أو الإنتقال إلى بيت أحد القساوسة كان قد قدم تبرعًا برعاية فتاة تحتاج إلى رعاية فقبلتُ العرض الأخير. 
   انتقلت إلى بيت القس، لا كخادمة، بل ابنة عزيزة ومحبوبة، وآه عزيزي القارئ إنه ليعوزني الوقت لأصف التغيير العجيب والفجائي الذي حدث في حياتي.  فجأة وجدت نفسي محبوبة جدًا ومُكرَّمة للغاية.  وجدت والديْن يحاولان إسعادي وتعويضي بكل ما لديهم من مشاعر وإمكانيات.  وأصبحت أمتلك ملابس جميلة وراقية ولي حجرة خاصة رائعة ومريحة أتأملها كل ليلة بانبهار شديد قبل أن أركع شاكرة الرب على إحسانه العظيم.
    وحكمت المحكمة على مُستخدميَّ القدامى بتعويضي بما يوازي خمس سنوات خدمة هي مدة خدمتي في بيت السيد يوهان (وذلك بحسب تقديرهم هم) مخصومًا منه المبلغ الذي كان يرسله إلى والدي، بالإضافة إلى مبلغ أكبر يوازي الإيذاء النفسي الذي تسببا فيه لي.  كان المبلغ ضخم جدًا فنصحني والدايّ بشراء سيارة  لتنقلاتي الخاصة ودفع رسوم معهد لتعليم الكبار واحتفظا لي بباقي المبلغ، هذا بالإضافة إلى هدايا كثيرة منهم ومن أصدقائهم حتى لم أعد أجد مكانًا لحفظ الهدايا من كثرتها.
   بعد مرور عامين عدت إلى وطني في بنجلاديش، وكم كانت فرحتي عارمة برؤية أسرتي بعد سبع سنوات من الفراق.  كنت قد حدثتهم قبلاً عبر الهاتف عما تم في أمري مع مستخدميّ، أما الآن فقد طالت أحاديثنا حتى خيّل إلينا أنها لن تنتهي.
   بعد انتهاء مدة الزيارة عدت إلى إنجلترا لاستكمال دراستي وخدمتي في الكنيسة في مدارس الأحد وفي دار للمُسنين، والآن قارئي العزيز أنا ليس لي أمنية سوى أن أنفِق وأن أُنفَق في خدمة الرب الذي أكرمني إكرامًا سأظل مدى حياتي أحكي به. 
   قارئي العزيز .. لقد أكدّتْ لي قصتي أنه ليس عند الله مستحيلاً وأنا أكتب قصتي لكي  تتأكد أنت أيضًا – مهما كانت ظروفك -  أنه ليس عند الله مستحيلاً.  آمن فقط!

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com