عدد رقم 3 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
موسى كخادم  


2-الخادم والإدراك الثلاثي

   استكمالاً لتأملاتنا في حياة موسى رجل الله كخادم، نجد فرقًا شاسعًا بين موقف موسى من خدمة الله وشعبه، حين كان فى أرض مصر وهو فى الأربعين من عمره، وعندما ظهر له الرب وهو في أرض مديان، بعد أن أصبح شيخًا يناهز الثمانين.  ففي الموقف الأول نجد اندفاعًا للخدمة دون دعوة حقيقية من الله، وهذا الاندفاع لا تبرره الدوافع النقية.  «وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم» (خر11:2).  من دعاك يا موسى وعلى من تعتمد؟ هل تعتمد على نفوذك وسلطانك وكونك ابن ابنة فرعون؟ أم على قوتك العضلية وأنت في أوج القوة، في الأربعين من عمرك، فتقتل المصري وتطمره في الرمل؟ هل ظننت أنه بحكمتك التي اكتسبتها في القصر تستطيع أن تخفف أثقال شعبك؟ يقول استفانوس عن موسى إنه: «خطر على باله أن يفتقد إخوته بنى إسرائيل» (أع7).  وما جدوى الاندفاع للخدمة بلا تأييد من الله؟ وأية نتيجة نتوقعها سوى الفشل؟ ولكن عندما ظهر الرب لموسى فى العليقة فإننا نجد رجلاً بلا إمكانيات لكنه يملك دعوة حقيقية من الله.  أما المشكلة فتكمن في تحول الاندفاع إلى تباطؤ، وكلاهما خطأ.  «لا تكونوا كفرس (مندفع) أو بغل (متباطئ) بلا فهم» (مز9:32).  وإن كان موسى أظهر تباطُأً في تلبية الدعوة، وكان ذلك نوعًا من ضعف الإيمان، لهذا نجده يكثر الأسئلة والاعتراضات، إلا أننا نجد هذه الأسئلة في محلها والاعتراضات لها مدلولها.  لذلك نجد الله بطول أناته يحتمل موسى مجيبًا على أسئلته متفهمًا لاعتراضاته.  فيخرج موسى من هذه المناقشة ولسان حاله: «قد أقنعتني يا رب فاقتنعتُ وألححتَ عليَّ فغلبتَ» (إر7:20).  وعند مراجعة موسى وتقييم اعتراضاته في ضوء إجابات الرب نفهم أنه لا تتم الخدمة كما ينبغي إلا عندما يدرك الخادم ثلاثة أمور هامة: 

1- الخادم وضعفه       2- الله وعظمته       3- الشعب وحالته

   أولاً: الخادم وضعفه:

   فهمنا مما سبق أن موسى في ذات يوم كان مقتدرًا في الأقوال والأفعال، واثقًا من إمكانياته معتدًا بذاته، فلم يحصد سوى الفشل، إذ أن منهج الله أن يستخدم من يشعر بضعفه، ويضع كل ثقته في إمكانيات الله.  «ولكن لنا هذا الكنز فى أوانِ خزفية ليكون فضل القوة لله لا منَا» (2كو7:4).  لذلك نجد موسى يستعفي من المهمة العظيمة التي كلَّفه بها الله قائلاً: «فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر» (خر10:3).  فيا لعظمة الدعوة ويا لغرابتها، فهل يصلح مثل هذا الشيخ المُسن لقيادة شعب الله؟ وهل يقف راعي غنم بعصاه أمام فرعون بصولجانه؟ ألم يكن من الأنسب الاعتماد على من هو أكفأ وأقدر للقيام بهذه المهمة؟ لكن الأنسب عند الناس هو بعينه الغير مناسب على الإطلاق في نظر الله الذي لا يعطي مجده لآخر.  فقد يفتخر الأكفأ بكفاءته ويتعظم الأقدر بقدرته، وحاشا أن نقبل بوجود من يزاحم الله ليتصدر المشهد.  فلذا نجد الله كعادته لا يدعو مؤهلين لكنه يؤهل مدعوين.  فمن غير اللائق أن يفتخر أحد أمام الله ولهذا تم تنحية موسى عندما ظن أنه بالقوة يغلب الإنسان، وها هو الآن يُدعى من الله وهو يدرك أنه لا بالقوة ولا بالقدرة بل بالاستناد على قوة وذراع القدير.  فنجده مخاطبًا الله: «من أنا حتى أذهب إلى فرعون وحتى أخرج بنى إسرائيل من مصر» (خر11:3).  وكم هو من الضروري أن نشعر بضعفنا إزاء دعوة الله، «فمن هو كُفوءٌ لهذه الأمور» (2كو16:2).  فنحن لا نرحب بصغر النفس ولكن الله يرفع المتضعين.  لم يكن موسى محقًا في عدم قناعته بدعوة الله لكنه كان محقًا تمامًا في إدراك ضعفه لتتميم هذه الدعوة.  وهذا عين ما يريده الله منا أن نقر بضعفنا ونعترف بلا شيئيتنا وتنكسر كبرياؤنا فينا بدل أن تكسرنا الكبرياء.  وهذا لم يكن منهج الله مع موسى وحده بل مع كل من استخدمهم وفعل العظائم من خلالهم.  فعلى السبيل المثال نرى موقف جدعون إزاء الدعوة: «فقال له أسألك يا سيدي بماذا أخلص إسرائيل؟ ها عشيرتي هي الذُلَّى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي» (قض15:6)، أما داود «فدخل ... وجلس أمام الرب وقال: من أنا يا سيدي الرب وما هو بيتي حتى أوصلتني إلى ههنا» (2صم18:7).  ويعترف إرميا: «فقلت آه يا سيدي الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد» (إر6:1).  فلم يكن غريبًا أن يقول موسى: «لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول من أمس، ولا من حين كلمت عبدك، بل أنا ثقيل الفم واللسان» (خر10:4).  وهكذا فإن الله لا يستخدم إلا من يشعر بضعفه مدركًا لطبيعة الإناء الخزفي فيعود كل المجد لصاحب المجد.

   ثانيًا: الله وعظمته: 

   إن لم يدرك الخادم سوى ضعفه فحتمًا سيصاب بالإحباط ويستسلم لصغر النفس.  أما مع إدراك عظمة الله يتبدل المشهد تمامًا، فهو يعطي المعي قدرة ولعديم القوة يكثر شدة.  وها هو موسى يغير السؤال فلا يقول ”من أنا“ ؟ بل يقول لله ”من أنت“؟ وما أعظم أن نحول أبصارنا من على أنفسنا متى أدركنا لا شيئيتنا ونرفع أعينا إلى من هو يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أمر.  ومرة أخرى نجد اعتراض موسى: «فقال موسى لله ها أنا آتي إلى بني إسرائيل وأقول لهم إله آبائكم أرسلني إليكم، فإذا قالوا لي ما اسمه فماذا أقول لهم؟» (خر13:3)، ونجد مع الاعتراض الإجابة الشافية وكأن الله يقول لموسى سؤالك في محله لا بد أن تعرف اسمي وتدرك عظمتي لتعرف أن تخدمني.  «فقال الله لموسى: أهيه الذي أهيه»، أنا الكائن والذي يكون، أنا الأول والآخر، أنا المتسلط في مملكة الناس، أنا هو الذي أنا هو، لك ولكل من أريد أعلن ذاتي، هذا ما تُخبر به إخوتك.  «فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به» (خر 12:4).  فيا لرهبة التكليف ويا لعظمة المُكلف!

   ثالثًا: الشعب وحالته:

   على الرغم من غياب موسى عن شعبه أربعين سنة إلا أنه يصف حالتهم ويعرف ضربتهم، كأنه لم يغب عنهم.  «فأجاب موسى وقال: ولكن ها هم لا يصدقونني ولا يسمعون لقولي بل يقولون لم يظهر لك الرب» (خر1:4).  وبالحقيقة كانت مشكلة الشعب تكمن في عدم الإيمان.  وإن قال موسى ها هم لا يقبلونني لكان محقًا، إذ مرة رفضوه ودفعوه قائلين: «من أقامك رئيسًا وقاضيًا علينا»؟ إلا أنه لم يجعل تجريحهم له عائقًا لأن يخدمهم كما يفعل الكثيرون، لكنه اهتم بعرض حالتهم الروحية أمام الرب، وكل من استخدمهم الله كانوا على دراية تامة بحال المخدومين، لذا يقول الكتاب: «معرفة اعرف حال غنمك واجعل قلبك إلى قطعانك» (أم23:27).  فعلى سبيل المثال نجد نحميا يهتم بأن يسأل عن إخوته ويعرف أحوالهم، وعندما عرف أن الشعب في شر عظيم وعار، جلس وبكى وناح وصلى، فكانت الخدمة المثمرة والحياة المؤثرة.  أما في العهد الجديد فنجد بولس واهتمامه بجميع الكنائس بل وبحالة الأفراد.  ومن هنا انطلق موسى لخدمة الله بعد أن أدرك:

1- من أنا؟ أنا لا شيء.      

2- من أنت؟ أهيه الذي أهيه.       

3- من هم؟ هم لا يستحقون شيئًا، ولكن الله سيتعامل معهم بنعمته السامية. 

   عظيم ورائع هو الله الذى يستخدم من هم لا شيء لبركة من هم لا يستحقون شيئًا. 

يتبع

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com