عدد رقم 3 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كلمة الله والمشورة النفسية  


   مقدمة

   كثرت التساؤلات في الآونة الأخيرة حول مدى كفاية كلمة الله في التعامل مع المشاكل النفسية والسلوكيات الخاطئة والعلاقات الأسرية، وظن البعض أن الكلمة غير كافية وأنه ينبغي الاعتماد على العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع. 

   وتزايد الاعتقاد أن من ليس له دراية جيدة بهذه العلوم لا يصلح أن يُقدم مشورة صحيحة حتى وإن كان دارسًا لكلمة الله وفاهمًا لها.  هذا الفكر جعل كثيرين يقبلون على الدراسة النفسية والفلسفية أكثر من دراسة كلمة الله، ويكفيك أن تلقي نظرة على أعداد المشاركين في دراسات المشورة وأعداد الحاضرين في اجتماعات درس الكتاب!!

   ترى هل نضع كلمة الله جانبًا ونستبدلها بالعلوم الإنسانية؟ ألسنا ندرك أن كلمة الله تعطي حكمة كما قال بولس لتيموثاوس: «الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص»؟ ألا تعطي فهمًا وفطنة في كل جوانب الحياة ؟(راجع تث 4: 6-8 ، يش 1: 8 ، مز 119: 97- 100 )

   ماذا عن دور الخدام في مجالاتهم المختلفة؟ هل نُقدم العلوم الإنسانية التي تجذب الناس عوضًا عن كلمة الله؟ هل نمزج الإثنين معًا؟ أم نُقدم الكلمة فقط ونعتمد على عمل الروح القدس لتتويب الخاطئ وتقديس المؤمن؟ ماذا قال بولس لتيموثاوس عن الأيام الأخيرة التي فيها الناس لا يحتملون التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين، مُستحكة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات؟

  «اكْرِزْ بِالْكَلِمَةِ، اعْكُفْ عَلَى ذلِكَ فِي وَقْتٍ مُنَاسِبٍ وَغَيْرِ مُنَاسِبٍ» (2تي4: 2). 

   ماذا عن تقديم المشورة للآخرين؟ قال الرسول بولس أيضًا: «لِتَسْكُنْ فِيكُمْ  كُمْ كَلِمَةُ الْمَسِيحِ بِغِنىً، وَأَنْتُمْ بِكُلِّ حِكْمَةٍ مُعَلِّمُونَ وَمُنْذِرُونَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، بِنِعْمَةٍ، مُتَرَنِّمِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ» (كو3: 16).

   أنريد مشورة صحيحة؟  «أَيْضًا شَهَادَاتُكَ هِيَ لَذَّتِي، أَهْلُ مَشُورَتِي» (مز119: 24).

   عندما نلقي نظرة على المزمور التاسع عشر نرى عمل كلمة الله في النفس الإنسانية وتأثيرها الرائع على الكيان.  


   كلمة الله وأثرها: 

   مزمور 19 يُحدثنا عن إعلانين من الله للإنسان: إعلان الخليقة التي تشهد لقدرته، وإعلان الكلمة التي تشهد عن أفكاره.  إعلان الخليقة يضع الإنسان أمام حقيقة وجود الخالق ويخبره أنه بلا عذر «إِذْ مَعْرِفَةُ اللهِ ظَاهِرَةٌ فِيهِمْ، لأَنَّ اللهَ أَظْهَرَهَا لَهُمْ،  لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ» (رو19:1 ،20).  أما كلمة الله فعملها أبعد من ذلك فهي تتعامل مع نفس الإنسان لتقوده للخلاص.  فالنفس التي تشوهت بفعل الخطية تولد ثانية بفعل كلمة الله  فتحيا من موتها الروحي، وذات الكلمة تصبح مصدر غذائها فتنمو وتتغير تدريجيًا، وكل عيوب النفس تعالج بفعل كلمة الله التي تستحضر النفس وجهًا لوجه مع الله. 

   كيف تعمل  كلمة الله في حياة المؤمن؟

   يستخدم داود عدة تعبيرات في مزمور 19 ليبين عمل كلمة الله في النفس:

   «ناموس الرب كامل يرد النفس» (يرد تعني يحيي ويسترد وينعش ويغير)، أي أنها تنعش الحياة وتحفظها من الذبول وتملؤها بالحيوية «لأَنَّ قَوْلَكَ أَحْيَانِي» (مز119 :50). 

   «شهادات الرب صادقة تُصيِّر الجاهل حكيمًا» أي تضمن عمق البصيرة فتجعل المؤمن لا ينخدع بالأمور البراقة الكاذبة المزيفة، ولا يحكم في الأمور بحسب ظاهرها بل بحسب ما هي في حقيقتها.  اسمع ما قاله الرب لصموئيل: « لأنه ليس كما ينظر الإنسان، لأن الإنسان ينظر على إلى العينين أما الرب فإنه ينظر إلى القلب» (1صم16: 7).  

   «وصايا الرب مستقيمة تفرح القلب»، هذا كان اختبار إرميا وسط آلامه وأحزانه: «وُجد كلامك فأكلته، فكان كلامك لي للفرح ولبهجة قلبي» (إر15: 16). 

   «أمر الرب طاهر ينير العينين» ( أي أنها تعطي فهمًا صحيحًا)، والفهم هو القدرة على تمييز الأمور واختيار الأحسن.  وقد قال سليمان كمن منحه الرب فهمًا: «لأن الرب يعطي حكمة.  من فمه المعرفة والفهم» (أم 2: 6).

   «خوف الرب نقي ثابت إلى الأبد»: معنى كلمة نقي أنه خال من الشوائب، من شوائب الحكمة الإنسانية غير النافعة.  لماذا؟ لأنها مصدر ثابت ودائم وغير متغير للنصح والإرشاد «أيضًا شهاداتك هي لذتي أهل مشورتي» (مز119 :24). 

  «أحكام الرب حقٌ عادلة كلها» أي أنها بلا أي أثر للزيف الذي يملأ العالم ونظامه الشرير.  ولا عجب فرئيسه لم يثبت في الحق، وكل ما يتكلم به فهو كذب، ثم إن الكلمة وحدها هي القادرة أن تنتج البر الصحيح إذ أنها نافعة للتعليم والتوبيخ، للتقويم والتأديب الذي في البر لكي يكون إنسان الله كاملاً متأهبًا لكل عمل صالح (2تي3 :16،17).


   كيف نتعامل مع الكلمة وما هو تقديرنا لها؟

   «أَشْهَى مِنَ الذَّهَبِ وَالإِبْرِيزِ الْكَثِيرِ، وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَقَطْرِ الشِّهَادِ» (مز19: 10).

   كيف كانت نظرة داود لكلمة الله؟ 

   كانت بالنسبة له أكثر من مجرد كتاب يقرأه، فقد أعطاها الأوصاف التالية: ناموس الرب ( آية 7) أي شريعته، وشهاداته (آية 7) أي أنه فيها يشهد الرب لذاته.  ثم وصايا وأمر الرب ( آية 8) فهي ليست اختيارية بل ينبغي إطاعتها.  كما أنها هي خوف الرب (آية 9) أي تنشئ مخافة الله، ثم أحكام الرب (آية 9) أو أقضية أي مراسيم إلهية.  بالإضافة لذلك كانت في عينيه أشهى من الذهب وأجود أنواعه، ولمذاقه أحلى من العسل بل القطر السائل من قرص الشهد.  هذا هو الأسلوب الصحيح الذي به ننظر إلى كلمة الله. 


   ماذا أنشأت الكلمة فيه؟

   كان لها تأثير جذري على حياته فقد جعلته يأخذ مركز العبد الخاضع: «أيضًا عبدك يُحذَّر بها» (آية 11)، بل قادته لكشف كيانه أمام الرب فقال : «اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا»؟ سؤال إجابته: لا أحد.  «مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. أَيْضًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ احْفَظْ عَبْدَكَ» (آية 12، 13).  ما هي الخطايا المستترة؟ إنها الخطايا غير المعروفة التي يسقط فيها الإنسان لسبب عدم اكتشافه لوجودها وعدم توبته عنها.  ولماذا لم يكتشفها؟ لقلة تعرضه لنور كلمة الله أما ما يقصده بالمتكبرين فهي الخطايا الكبيرة التي يرتكبها صاحبها وهو على دراية بها، ونتيجة ذلك تستعبده.  هذه الصلاة الصريحة تبين أن الكلمة قامت بدورها إذ كشفت قلبه فاستحضرته قدام الله فاكتشف نفسه وطلب أن يتحرر من كل خطية.  ثم تقدم خطوة أبعد إذ اشتهى أن تكون أفعاله بل أفكاره كلها ترضي الرب «لتَكُنْ أَقْوَالُ فَمِي وَفِكْرُ قَلْبِي مَرْضِيَّةً أَمَامَكَ يَا رَبُّ، صَخْرَتِي وَوَلِيِّي» (آية 14).  

   لا شيء في كل العلوم الإنسانية يمكنه أن يتعامل مع نفس الإنسان بهذا الشكل.

   إن كلمة الله تخترق إلى مفرق النفس والروح، فهي ليست فقط تميز النفس عن الروح بل تميز النفس إلى أجزاء والروح إلى أجزاء لدرجة أنها تصل إلى أفكار القلب ونياته.  وبعملها هذا تستحضرنا إلى ذات حضرة الله الذي «لَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا» (عب4: 13)، لهذا لا يمكن أن نستبدلها بما هو إنساني من الفلسفة وعلم النفس والاجتماع.

   لو تعاملنا مع الكلمة بشكل صحيح لقلت أخطاؤنا وتغيرت حياتنا ونضجت أذهاننا

   هذه هي كلمة الله العظيمة وهذا هو أثرها الفعال، وحسنًا نفعل أن نحفظها وندرسها ونقدمها للآخرين في كل مجال للتعليم والنصح والمشورة والإرشاد والإنذار.  


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com