(2صم15-18)
ثالثًا: خطورة تعدي وصايا الرب ...
«وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ...» (2صم15: 1) ... مرة ثانية تدوي في مسامعنا تلك الكلمات الثلاث الحافلة بالنذر والإنذارات (2صم13: 1؛ 15: 1). كلمات وردت مفاجئة، تمهيدًا لكارثة مؤثرة مليئة بالتحذير للقديسين اليوم.
ودعونا نتساءل: ما هو «ذَلِكَ» الذي جرى بعده ما جرى في 2صموئيل 15؟! إنه إهمال داود لممارسة التأديب في بيته، وتعدي وصايا الله في القصاص من المُخطئ بحسب ناموس الله (2صم13، 14). لقد أهمل عقاب أمنون الذي خدعه، واغتصب أخته ثامار، وصار واحدًا من السفهاء في إسرائيل! وأيضًا لم يقتص من أبشالوم الذي قتل أمنون بعد ذلك بسنتين (2صم13).
وفي الحقيقة لقد كان عصيان وخطايا أولاد داود نتيجة لفشل داود كأب! ويا للنتائج المُخجلة التي أدَّى إليها تساهل داود مع أولاده! وفي العبارة المختصرة التي يُعلِّق بها الكتاب على فشل داود في تأديب ابنه أدونيا، درسٌ لجميع الآباء؛ ففي 1ملوك1: 6 وردت هذه العبارة «وَلَمْ يُغْضِبْهُ أَبُوهُ قَطُّ قَائِلاً: لِمَاذَا فَعَلْتَ هَكَذَا؟». وهذا معناه أن داود لم يوبخ أدونيا بكلمة واحدة طوال حياته. والأرجح أن ما ورد في هذه العبارة يصح بالنسبة إلى جميع بنيه أيضًا. فلا عجب إن حصد داود الثمر المُرّ إذ أصبح أولاده عصا تأديب له، تتميمًا لقول الرب له بواسطة ناثان: «هَأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ» (2صم12: 11).
لقد كانت محبة داود ومُراعاته لخواطر أولاده فشلاً فظيعًا من جانبه، لأنه لو كان قد أغضب ابنه لأجل مصلحته وخيره، لظهرت في هذا محبة من نحو ابنه أعمق بكثير مما ظهر في عطفه عليه وتدليله وتركه لهواه.
إن التساهل في التأديب أو إهماله بالمرة من جانب الآباء لا بد أن يُولِّد العصيان في الأولاد. ومن المؤكد أن يُغضِب الابن أباه إن كان الوالد لم يُغضِب ولده قط. وإن لم يحكم الوالدان أبناءهم فهؤلاء – مع مضي الزمن – سيحكمون والديهم، لأنه لا بد من حاكم ومحكوم.
وإنها لحقيقة معروفة أن الوالدين اللذين ليسا فقط عطوفين على أولادهما، بل أيضًا يربيانهم في الطاعة والخضوع للسلطان الأبوي، هما على الدوام المحبوبان والمبجلان من جانب أولادهما. بينما نجد الآباء المتهاونين في تربية أبنائهم قلما يفوزون منهم باحترام أو مهابة.
ويحسن بنا أن نورد بعض الآيات الكتابية من سفر الحكمة المُوحى به إلى سليمان:
«مَنْ يَمْنَعُ عَصَاهُ يَمْقُتُ ابْنَهُ، وَمَنْ أَحَبَّهُ يَطْلُبُ لَهُ التَّأْدِيبَ» (أم 13: 24).
«أَدِّبِ ابْنَكَ لأَنَّ فِيهِ رَجَاءً، وَلَكِنْ عَلَى إِمَاتَتِهِ لاَ تَحْمِلْ نَفْسَكَ» (أم19: 18).
«بِمُعَاقَبَةِ الْمُسْتَهْزِئِ يَصِيرُ الأَحْمَقُ حَكِيمًا، وَالْحَكِيمُ بِالإِرْشَادِ يَقْبَلُ مَعْرِفَةً» (أم21: 11).
«اَلْجَهَالَةُ مُرْتَبِطَةٌ بِقَلْبِ الْوَلَدِ. عَصَا التَّأْدِيبِ تُبْعِدُهَا عَنْهُ» (أم22: 15).
«لاَ تَمْنَعِ التَّأْدِيبَ عَنِ الْوَلَدِ، لأَنَّكَ إِنْ ضَرَبْتَهُ بِعَصاً لاَ يَمُوتُ» (أم23: 13).
«اَلْعَصَا وَالتَّوْبِيخُ يُعْطِيَانِ حِكْمَةً، وَالصَّبِيُّ الْمُطْلَقُ إِلَى هَوَاهُ يُخْجِلُ أُمَّهُ» (أم29: 15).
«أَدِّبِ ابْنَكَ فَيُرِيحَكَ وَيُعْطِيَ نَفْسَكَ لَذَّاتٍ» (أم29: 17).
وفي أيامنا الحاضرة ربما كانت للأبناء حرية أوسع مدى، ولكن هذا ينبغي أن لا يُقلل من سلطان الأب في الدائرة العائلية. فإن التساهل في الحزم عند اللزوم قد يجر إلى أوخم العواقب. ولنتذكر عالي وبنيه (1صم2: 11-17؛ 3: 11-11؛ 4: 11-22).
إن كثير من المشاكل كان ممكنًا أن تُتقَى لو أن داود كان أكثر حزمًا في تربية أولاده. وقد ظهر شر أولاد داود وتمردهم بصورة علنية بعد خطية داود، فما عادت له القبضة القوية لكبح جماح تمردهم وعصيانهم. ويا له من إنذار شديد اللهجة يُخاطب قلوب الآباء للسلوك في طريق البر والقداسة (تك18: 19).
ومن اللافت للنظر أنه بعد خطية داود، وحتى بعد أن رُدت نفسه، أصبح ينقصه التمييز الروحي. فالمؤمن الذي يسقط باستسلامه لإرادته الذاتية، مع أن نفسه يُمكن أن تُردَّ ثانية، ولكنها تفقد حدة تمييزها الروحي. فإذا احتقر أو قلَّل من قيمة شركته مع الرب، فإنه يأخذ وقتًا حتى يسترجع تمييزه الروحي الذي يرافق هذه الشركة. ذلك أن السقوط يجلب معه التوقف في النمو الروحي.
فأمنون يتمارض، وداود يأتي إليه ليراه دون أن يستشعر الخداع منه. بل إنه هو داود الذي يُرسل ثامار لبيت أمنون لتصنع أمامه كعكتين فيأكل من يدها! (2صم13: 6، 7).
ولما سمع أن أمنون اغتصب ثامار – أخته غير الشقيقة – اغتاظ جدًا، ولكنه لم يقم بأي إجراء تأديبي (2صم13: 21). ونسى داود أنه الملك وقاضي الأمة، وهو تحت التزام أن يُطبق قوانين الله وأحكامه، وليس فقط أن «يَغْتَاظَ جِدًّا». وكان ناموس الله يقضي بأنه «إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ أُخْتَهُ بِنْتَ أَبِيهِ أَوْ بِنْتَ أُمِّهِ، وَرَأَى عَوْرَتَهَا وَرَأَتْ هِيَ عَوْرَتَهُ، فَذَلِكَ عَارٌ. يُقْطَعَانِ أَمَامَ أَعْيُنِ بَنِي شَعْبِهِمَا. قَدْ كَشَفَ عَوْرَةَ أُخْتِهِ. يَحْمِلُ ذَنْبَهُ» (لا20: 17). ولكن إذا كان داود قد أخفق في تتميم واجبه الملكي بالقصاص من ابنه أمنون، فإن الله لم يُخفق. وهو ما ضاعف أحزان داود.
وعندما ألح عليه أبشالوم في أن يأذن لأمنون بالذهاب إلى وليمته التي اصطنعها لتكون فخًا لقتل أخيه، استسلم لطلب ابنه، مُرسلاً بقية أولاده لحماية أمنون (2صم13: 27).
ولما أَسْكَرَ أبشالوم أمنون، وأمر بقتله، ثم عمد إلى الفرار، تركه داود وشأنه دون أن يفعل شيئًا، لا في أثناء فراره، ولا بعد عودته. بل إننا نقرأ أنه أثناء غياب أبشالوم «وَكَانَ دَاوُدُ يَتُوقُ إِلَى الْخُرُوجِ إِلَى أَبْشَالُومَ، لأَنَّهُ تَعَزَّى عَنْ أَمْنُونَ حَيْثُ إِنَّهُ مَاتَ» (2صم13: 39). وعند لقائه به «قَبَّلَ الْمَلِكُ أَبْشَالُومَ» (2صم14: 33).
إن وصية الرب الصريحة: «لاَ تَقْتُلْ» (خر20: 13).
وقال الرب: «سَافِكُ دَمِ الإِنْسَانِ بِالإِنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ» (تك9: 6).
وكان أمر الناموس: «لا تُدَنِّسُوا الأَرْضَ التِي أَنْتُمْ فِيهَا، لأَنَّ الدَّمَ يُدَنِّسُ الأَرْضَ. وَعَنِ الأَرْضِ لا يُكَفَّرُ لأَجْلِ الدَّمِ الذِي سُفِكَ فِيهَا، إِلا بِدَمِ سَافِكِهِ» (عد35: 33).
وكل ما كان يستطيع أن يفعله أبشالوم الآن أن يهرب إلى جده لأُمِّهِ «تَلْمَايَ بْنِ عَمِّيهُودَ مَلِكِ جَشُورَ» (2صم3: 3؛ 13: 37)، لأن الأرض لم يكن فيها مدينة ملجأ لمثله. وكان داود باعتباره ولي الدم لا بد أن يطلبه للنقمة. لقد سفك دم أخيه، وهو يصرخ لأجل الانتقام، والفدية لا تتمّ دون سفك دم القاتل (عد35: 33). هكذا كان أبشالوم مدينًا للناموس الذي كان داود حارسًا له. وكان داود يضمن عرشه على شرط قراءة الناموس وحفظه باستمرار (تث17: 18-20). ومطاليب وأحكام الله يجب أن تسود فوق ميولنا وعواطفنا الطبيعية، وإلا فالثمن غالٍ، وقد دفعه داود الذي استخدم سلطانه للتمرد على ناموس الله بدلاً من طاعته للشريعة، متناسيًا أن النعمة والرحمة لا تتعاظمان على حساب البر والعدل.
وفي 2صموئيل14 نقرأ أن يوآب – بأساليبه الملتوية، مستخدمًا المرأة التَّقوعيَّة الحكيمة – توسَّط ليُرجِع أبشالوم، قاتل أخيه، دون أن يُظهر أبشالوم أسفه، أو يُذلل نفسه. وكانت هذه غلطة كبرى للملك داود، سوف يدفع عنها حسابًا ثقيلاً. فلم يكن يصلح أن يرجع المنفي إلى وطنه دون استيفاء للعدل، ودون توبة للجاني. وتُقنع المرأة التَّقوعيَّة داود بسهولة، فيعفو عن القاتل غير التائب، ويسمح له أن يرجع إلى أورشليم، وكان هذا القرار هو السبب المباشر لكل الكوارث التي تبعته.
عاد أبشالوم. ولكنه لا يزال هو أبشالوم؛ العنيد عبد شهواته. لقد بَقِيَ طَعْمُهُ فِيهِ، ورَائِحَتُهُ لم تتغير، رغم أنه قد رجع من السَّبْيِ (إر48: 11).
«وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ...» (2صم15: 1). وماذا بعد ذلك؟! أن القاتل يُدبِّر أن يقتل الملك! والابن قام على أبيه. وهكذا بدأت الفتنة والثورة على داود.
أيها الأحباء: حذار من التقصير في تأديب الأولاد، ومن كسر ناموس الله!
(يتبع)