عدد رقم 5 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
عظماء استثمروا الدموع  
   يشهد التاريخ لشخصيات مضيئة، أدرجهم ضمن الأبطال والعظماء لأنهم استثمروا ما عندهم لتقدم شعوبهم.  بعضهم استثمروا شخصياتهم القوية ومهاراتهم القيادية والبعض استثمروا علومهم وقدراتهم الذهنية الفذة.  ورجال الأعمال استثمروا أموالهم وثرواتهم.  لكني أرى مجموعة أخرى قد لا يدرك العالم عظمتهم لأنه لا يعرفهم، لكن يجدر بنا أن ندعوهم نحن - معشر الإيمان- أنهم عظماء بحق لأنهم استثمروا لا أموالهم ولا علومهم بل دموعهم. 
   العالم يرى الدموع دليلاً على الضعف لكننا سوف نرى كيف أن دموع رجال الله هي مشاعر مقدسة وثمينة، عندما تقترن بالإيمان فهي سر قوتهم لبركة الآخرين. 
  دعونا نأخذ جولة بين أسفار الكتاب لنتأمل معاً في هذه الشخصيات الفاضلة:

1- «عزرا» ودموع التوبة والرجوع إلى الرب. 

   «فَلَمَّا صَلَّى عَزْرَا وَاعْتَرَفَ وَهُوَ بَاكٍ وَسَاقِطٌ أَمَامَ بَيْتِ اللهِ، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ إِسْرَائِيلَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالأَوْلاَدِ، لأَنَّ الشَّعْبَ بَكَى بُكَاءً عَظِيمًا.»( عزرا 10: 1 )

   صلى عزرا وبكى لكن لم يبق وحده طويلاً لأن الشعب انضم إليه في اجتماع مهيب وبكوا هم أيضًا.  كانت دموع عينيه أقوى من أبلغ خطاب يمكن أن يحث به شعب الرب للتوبة والرجوع عن شرورهم.  لقد استثمرت دموعه الثمينة التي خرجت من قلب ملتهب بالغيرة المقدسة فانتقلت إلى الشعب الذي التهب قلبه أيضًا فانهمرت دموع التوبة من قلوب صادقة. 

2- «نحميا» ودموع من أجل اعتبارات مجد الرب.

   «فَلَمَّا سَمِعْتُ هذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلهِ السَّمَاءِ»(نح 1: 4)، بعد أن سمع خبرًا كسر قلبه وهو أن أسوار أورشليم منهدمة وأبوابها محروقة بالنار، وحالة الشعب الذين في أورشليم في شر عظيم وعار.  لم يكن نحميا آنذاك كاهنًا أو معلمًا للشعب بل كان ساقيًا للملك أرتحشستا في شوشن القصر. بالنسبة للشعب كان بعيدًا جغرافيًا، لكنه كان قريبًا عاطفيًا.  كان بجسده في شوشن القصر أما قلبه فكان هناك في أورشليم «المدينة المقدسة»، وقد بكى أيامًا كثيرة.  لم يبكِ على خسارة مادية أصابته أو شيئًا قد حرم منه بل احترق قلبه بسبب أمور الرب الثمينة وشعب الرب الغالي.

   بلا شك كانت دموع نحميا لها غلاوة شديدة على قلب الرب لأنها دموع الغيرة المقدسة على مجد الرب.  لذا استثمر هذه الدموع وألهمه بمشروع الترميم العظيم الذي من خلاله نهض شعب الرب وشاركوه في هذا العمل العظيم.

3- «إرميا» ودموع الحزن على قتلى شعب الرب.  

   «يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ، وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ، فَأَبْكِيَ نَهَارًا وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (إر1:9).

 حبا الرب إرميا بمشاعر رقيقة، وصف واحد رقته بالقول: «له عواطف النساء وأعصاب الغزال»، كما يلقب بالنبي الباكي لأنه رثا حالة الشعب قبل وأثناء السبي.  ما أغلى دموع الرثاء لشعب الرب المتألم.  ما يزيد من حرقة القلب هو أن الشعب تحت التأديب والقصاص الإلهي من قبل إله غيور على اعتبارات مجده وقداسته.  إن أي إصلاح وسط شعب الرب لا يأتي عندما نسمع عن أوضاع خاطئة أو نشاهدها، ثم ندينها ونندد بها على المنابر وفي مجالسنا، بل يبدأ الإصلاح بالفعل عندما نسكب قلوبنا وننوح أمام الرب، فيقنعنا الرب أنها شر وعار بمقاييس قداسته.  ثم نصارع مع الرب كثيرًا في مخادعنا قبل أن نوبخها علنًا أمام إخوتنا.  لذا يتعين على كل من لديه كلمة وعظ فيها إدانة لشر واضح بين شعب الرب أن يمثل أمام الرب، بصراع ودموع، فهو صاحب الأمر.  الذي يهمه مجد الرب يشعر أن قلبه يتوجع بمجرد تذكره أخطاء إخوته.  وأول ما يريد فعله هو أن يصارع مع الرب، حتى يتدخل بنعمته ويصلح المنارة والشهادة. 

4- «يوشيا» و دموع الاتضاع أمام أحكام الرب.

   «مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ قَلْبُكَ، وَتَوَاضَعْتَ أَمَامَ اللهِ حِينَ سَمِعْتَ كَلاَمَهُ عَلَى هذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ، وَتَوَاضَعْتَ أَمَامِي وَبَكَيْتَ أَمَامِي يَقُولُ الرَّبُّ، قَدْ سَمِعْتُ أَنَا أَيْضًا» (2 أخ 34 : 27).  نظر الرب لدموع يوشيا ذلك الملك الشاب التقي الذي تمزق قلبه قبل أن يمزق ثيابه عندما رأى هول القصاص المستحق على هيكل الرب وسكان يهوذا.  إنها دموع التواضع الممتزج بتوبة حقيقية.  لقد شهد الرب عنه مرتين أنه اتضع أمامه. دموع يوشيا كانت أمام الرب ولأجل الرب «تَوَاضَعْتَ أَمَامِي وَبَكَيْتَ أَمَامِي»، وكانت ممتزجة بعمل داخلي في القلب «رَقَّ قَلْبُكَ»، وتعبير عن الندم في الخارج «مَزَّقْتَ ثِيَابَكَ».
  سمع الرب لصوت تضرعه ورحمه من معاينة القصاص العتيد أن يقع على الشعب.  إن كان صاحب الجلالة قد بكى ومزق ثيابه كم بالأولى معاونيه ومعلمي الشريعة وعامة الشعب. 

5- «بولس» ودموع الخادم والراعي والأب . 

   «أَخْدِمُ الرَّبَّ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ وَدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، وَبِتَجَارِبَ أَصَابَتْنِي بِمَكَايِدِ الْيَهُودِ....  لِذلِكَ اسْهَرُوا، مُتَذَكِّرِينَ أَنِّي ثَلاَثَ سِنِينَ لَيْلاً وَنَهَارًا، لَمْ أَفْتُرْ عَنْ أَنْ أُنْذِرَ بِدُمُوعٍ كُلَّ وَاحِدٍ» ( أع 20:  19،31)

«لأَنِّي مِنْ حُزْنٍ كَثِيرٍ وَكَآبَةِ قَلْبٍ كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ بِدُمُوعٍ كَثِيرَةٍ، لاَ لِكَيْ تَحْزَنُوا، بَلْ لِكَيْ تَعْرِفُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي عِنْدِي وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ» (2كو2 : 4).  تميز هذا الخادم الرقيق والأمين بدموعه الكثيرة ليس إشفاقًا على نفسه بل من أجل بنيان وتعزية قطيع الرب الغالي ولم يبكِ آلامه الشخصية بل يبكي من أجل خلاص نفوس المقاومين.  لم يكن ينذر إخوته معتمدًا فقط على قوة الألفاظ والتعبيرات البليغة التي تصف الحال ليؤثر بها على مشاعر السامعين، بل يبكي أولاً بقلب منكسر في مخدعه، كي يمتلئ من الروح القدس وهو يتكلَّم، بصراع ودموع، مع الرب، ويوبخ المخطئين بروح الوداعة وبقلب منكسر.

   يا رب، هبنا تلك الأحشاء الرقيقة والمشاعر العميقة، لنذرف دموع  الحنان والحب من أجل إخوتنا لنشاركهم آلامهم وفي عرش النعمة نستودعهم لمراحمك، وعندما نوبخ ليت كلمات الإنذار تمتزج بالدموع الصادقة فنرثي لحال المخطئين مبتغين إصلاحهم وتقدمهم بكل تواضع ووداعة.  

6- «تيموثاوس» ودموع الولاء والإخلاص والحب.

   «.. أَذْكُرُكَ بِلاَ انْقِطَاعٍ ..... ذَاكِرًا دُمُوعَكَ» (2تي1: 4).
 على الأرجح أن تيموثاوس بكى وهو يودع الرسول بولس الذي انتزعه الحرس الروماني من بينهم ووضعوا القيود في يديه ليأخذوه إلى السجن فتحركت مشاعر هذا الشاب الرقيق المخلص الذي خدم الإنجيل مع بولس كابن مع أبيه.  إنها دموع المحبة الأخوية الصادقة والمخلصة.  ظل وجه تيموثاوس المبلل بالدموع مرتسمًا في مخيلة بولس وصوت بكاء ابنه تيموثاوس يمس حنايا قلبه.  لا شك أن تلك الدموع المخلصة كانت كقطرات البلسان على قلب بولس الذي تألم أيضًا لأنه سيحرم من الشركة مع إخوته ومن خدمتهم. 

   وربما كان تيموثاوس من أصحاب الدموع القريبة الذي لا يملك أن يحبسها سواء كان وحيدًا أو وسط الأحباء، مما جعلها ترتبط في ذاكرة بولس كلما تذكر تيموثاوس.  

7- « يسوع»  ودموع ابن الإنسان الرقيق القلب.

   «وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلاً:«إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ» (لو19: 41 ، 42).
 رأيت أن أختم بأروع وأمجد مثال الذي فيه تجسد الكمال، فهو أرق من الكل في دموعه.  وإذا كانت دموع داود تُحفظ عند الرب في زِقه (مز56)، ففي أي مكان ينبغي أن تُحفظ دموع ربنا يسوع؟! وإذا كانت دموعنا ثمينة في عينيه كثيرًا، كيف لا نقدر دموعه كل التقدير.  حسنًا ما علَّق به أحد الكتًّاب الأفاضل على هذه الآية القصيرة «بكى يسوع»، فقال: « إنها قصيدة مُركزة في نبرة، وبحر خضم متجمع في قطرة، وأبدية طويلة مُختزلة في لحظة، وثروة هائلة مُختزنة في لؤلؤة ».

   أمام وجهه الكريم المبلل بالدموع نجثو بالحب في هيبة وخشوع قائلين ما أرق قلبك وأحشائك يا ربي يسوع. إنه ابن الإنسان الكامل في كل صفاته، القدوس الذي لم يعرف خطية ولم يعمل خطية البتة لذلك لم تتبلد مشاعره مثل البشر الساقطين لذا أحاسيسه مرهفة جدًا ومشاعره أرق من أي إنسان عاش على هذه الأرض. وتسجل لنا الأناجيل بكاء يسوع ثلاث مرات، كلها مرتبطة بنتائج الخطية.

في يوحنا 11 كلمة «بكى»، وفي اللغة الأصلية «داكرو»، أي ذرف الدمع بدون صوت، وبعد ذلك بأيام ليست كثيرة، بكى على أورشليم.  وفي اللغة الأصلية« كلايو»، والبكاء هنا هو بكاء بصوت مرتفع.  ثم  في بستان جثسيماني، نقرأ لا عن الدموع الصامتة، ولا الدموع المسموعة، بل الصراخ  الشديد «كروجيه»، أي الإجهاش والنحيب الممتزج بدموع تنزل كقطرات الدم  على الأرض.  «الَّذِي، فِي أَيَّامِ جَسَدِهِ، إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طَلِبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ»  (عب5: 7).

   أيها القارئ العزيز... هل فكرت مرة أنك تمتلك شيئًا ثمينًا، أثمن من المال والعلم والجاه يمكنك أن تستثمره  وتخدم به جيلك؟ إن البكاء المقدس ودموع الصلاة ثمينة جدًا في عيني الله وإن كانت تجف على وجنتيك بسرعة لكنها تبقى محفوظة في وعاء ثمين عند الرب، يقدرها ويستثمرها.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com