عدد رقم 5 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الصبي صموئيل  
   رأينا في العدد السابق كيف جاوب لنا الصبي صموئيل عن السؤالين الأولين من خلال عبارتين وردتا عنه من جهة بيت الله وتقديره، وحياة القداسة ونتيجتها.  وفي هذا العدد سنرى كيف سيجيبنا عن السؤال الثالث من خلال العبارة الثالثة التي قيلت عنه.
العبارة الثالثة: فيما يخص “مصداقية الخدمة وتأثيرها”

   «وَكَانَ الصَّبِيُّ صَمُوئِيلُ يَخْدِمُ الرَّبَّ أَمَامَ عَالِي. وَكَانَتْ كَلِمَةُ الرَّبِّ عَزِيزَةً فِي تِلْكَ الأَيَّامِ. لَمْ تَكُنْ رُؤْيَا كَثِيرًا» (1صم3: 1).

ها نحن أمام العبارة الثالثة، وما زال أمامنا “الصبي” صموئيل وهو يخدم الرب أمام عالي. إنه ما زال صبيًا، وما زال يتعلم ممن حوله.  لقد تعلم في البداءة أن يودع سني الطفولة، وينتقل سريعًا إلى مرحلة النضوج، ومن ثم يعمل أعمال الرجال، وهو ما زال صبيًا. وتعلم وهو صبي أيضًا أن يلبس الأفود التي من كتان، ويتصرف بما يتناسب مع هذا الرداء المميَّز. وهنا نجده أمام درس جديد، ولا أبالغ إن قلت إنه أصعب الدروس، إنه هنا لا يتعلم من عالي “الكاهن” كما في العبارة الأولى، بل من عالي فقط، وأستطيع أن أضيف عالي “الإنسان”.  إن ما سيتعلمه صموئيل هنا من عالي لا يختص بممارسات ومراسيم يتقنها عالي باعتباره رئيس الكهنة، بل سيتعلم ما يمكن أن يصدر من عالي كإنسان أمام مواقف عصيبة قد تعصف بأي إنسان، وقد تغير من أطواره وانطباعاته.

لقد كانت الحالة في هذا الوقت أكثر ظلامًا وتشويشًا: “كلمة الرب عزيزة .. لم تكن رؤيا كثيرة .. عالي عيناه ابتدأتا تضعفان .. سراج الله كاد أن ينطفئ”.  في هذا المشهد الكئيب أ يمكن للصبي صموئيل أن يكون له تأثير؟ وهل يمكن للأمور أن تتغيَّر إلى الأفضل؟ وما هو دور عالي الكاهن، وقد وهنت قوته وذهبت عنه نضارته؟

وكم نتعجَّب ونحن نرى الصبي صموئيل وهو مضطجع في بيت الرب أن يسمع صوت الرب ينادي عليه! ها قد انقطعت فترة صمت السماء، وها الرب يعود يتكلم من جديد! وها الرب يوجِّه حديثه إلى صموئيل! ولأنه ما زال صبيًا، وما زال قليل الخبرة لم يستطع أن يميز صوت الرب، فنراه يركض مسرعًا إلى عالي ظانًا أنه ينادى عليه! ولأول وهلة لم يدرك عالي أن الرب يتكلم إلى صموئيل، لكن مع تكرار الأمر فطن عالي إلى ذلك، وأخال أن زلزالاً عنيفًا عصف بعالي بكل قوة وشدَّة، وأخاله يتساءل بحيرة واندهاش: هل الرب عاد يتكلَّم مرة ثانية؟ هل الرب عاد يتكلم ولكن ليس من خلالي؟ هل الرب عاد يتكلم من خلال هذا الصبي صموئيل؟! هل قصد الرب أن يزيحني جانبًا ويجعل هذا الصبي يحل محلي؟ ما وقع هذا الأمر على الشعب؟ كيف سيستقبلون تخلي الرب عني واختياره لصموئيل ليتكلم إليه بدلاً مني؟ أ هكذا يؤول مصيري وأنا القاضي ورئيس الكهنة؟ أ هكذا تُختم حياتي بعد فترة خدمة هذه مدتها كنت أنا قبلة أنظار الشعب، والآن أصير مهملاً ومُهمشًا لا قيمة لي؟ أقول بكل يقين: أية حالة عصيبة كانت عليها مشاعر ونفسية عالي؟! أي إعصار عنيف اجتاحه، وعصف بكيانه؟!

لكن أمام هذا الموقف الصادم هل تغيَّرت نظرته تُجاه صموئيل؟ هل امتلأ قلبه بالمرارة أو الغيرة من صموئيل؟ لا .. لم يحدث هذا على الإطلاق!! بل لم نسمع من عالي كلمات لصموئيل تُعبِّر عن المحبة والحنان سوى هنا إذ يدعوه بالقول “يا ابني”، ولم نلمس روح عالي الراعوية سوى هنا، فعندما أخفق صموئيل في تمييز صوت الرب، لم يترك صموئيل في جهله وعدم إدراكه، بل أرشده ونصحه كيف يتصرف وماذا يقول عندما يأتيه صوت الرب، نعم لم نلمس في هذا المشهد من عالي سوى كل رقي وسمو أدبي.  لقد ارتفع فوق المشاعر الإنسانية الطبيعية، من غيرة وحقد وحسد، وتصرف بكل رحابة قلب وسماحة صدر! إننا هنا نرى ليس عالي السلبي والغير مبالٍ بأمور الله، بل عالي الشيخ الناضج، الذي يتعامل بكل رفق وحنو مع من سيحل محله.  إنه لم يرَ في صموئيل منافسًا أو خصمًا له، كما رأى بعد ذلك شاول الملك في داود، بل رأى فيه صبيًا واعدًا غضًّا يحتاج منه كل النصح والإرشاد!

وكم انطبع هذا المشهد الرائع في وجدان صموئيل، وأتخيله بعد أن تكلم الرب معه، وكان كلام قضاء على بيت عالي (1صم3: 11-14)، أتخيله يتعجب من رد فعل عالي، وكيف تعامل معه بهذا اللطف والرقَّة؟ بل كيف بعد أن استمع إلى القضاء المزمع أن يوقعه الرب عليه وعلى بيته لم يثر أو ينفعل، بل سمعه يتكلم بكل انكسار وخضوع قائلاً: «هُوَ الرَّبُّ. مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ يَعْمَلُ» (1صم3: 18).

وتدور الأيام ويشيخ صموئيل، وكما رفض الرب عالي سابقًا واختاره هو، ها الشعب يرفضه ويطلب منه أن يمسح لهم ملكًا كسائر الشعوب، وكم اغتاظ صموئيل آنذاك من ذلك حتى تكلم الرب معه قائلاً: «اسْمَعْ لِصَوْتِ الشَّعْبِ فِي كُلِّ مَا يَقُولُونَ لَكَ. لأَنَّهُمْ لَمْ يَرْفُضُوكَ أَنْتَ بَلْ إِيَّايَ رَفَضُوا حَتَّى لاَ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ» (راجع 1صم8: 1-8).  وهكذا مسح صموئيل للشعب شاول ملكًا، مسح من سيحل محله.  وشاهد بعينيه ترحيب الشعب بشاول ملكهم، وتجاهلهم إياه، وهو الذي أفنى حياته في خدمتهم! ها هو يرى تحول الشعب بكامله وراء شخص آخر سواه!

ولم تمر فترة طويلة حتى أظهر شاول تعديه وصايا الرب، وعدم تقديره لأمور الرب، وإذ بالرب يكلم صموئيل قائلاً: «نَدِمْتُ عَلَى أَنِّي قَدْ جَعَلْتُ شَاوُلَ مَلِكًا، لأَنَّهُ رَجَعَ مِنْ وَرَائِي وَلَمْ يُقِمْ كَلاَمِي» (1صم15: 10، 11). فماذا كان رد فعل صموئيل؟ هل شمت في الشعب الذي اختار شاول بدلاً منه؟ هل اعتبر شاول منافسًا له، ومن ثمَّ فرح أن الرب رفضه وأزاحه، وها هو يراه وقد خرج من حلبة المنافسة بخزي وعار؟ هل اعتبر أن الرب أطال في عمره ليرى بعينيه النهاية المأساوية لاختيار الشعب شاول عوضًا عنه، وكيف أن ما رغبوه وطلبوه بلهفة ها قد انتهى بالفشل المريع؟ هل روحن هذا الموقف، واعتبر أن الرب أنصفه على الشعب، وعلى شاول، وكأن لسان حاله “أنت تصمت والرب يدافع عنك”؟ هل هكذا تصرف صموئيل؟ كلا بل انظر معي ما فعله صموئيل عندما أعلن الرب له أنه قد رفض شاول: «فَاغْتَاظَ صَمُوئِيلُ وَصَرَخَ إِلَى الرَّبِّ اللَّيْلَ كُلَّهُ» (1صم15: 11)! إنه لم يرَ في شاول منافسًا أو خصمًا له، بل رأى فيه مسيح الرب، والذي يحق له أن يحزن عليه، بل أن يبكي عليه الليل كلَّه. والعجيب أنه لم يكتفي بما أظهره من حزن ليلة أن سمع من الرب أنه قد رفضه، بل استمر في النوح عليه بعد ذلك، حتى اضطر الرب أن يتدخل ويوبخه على ذلك قائلاً: «حَتَّى مَتَى تَنُوحُ عَلَى شَاوُلَ، وَأَنَا قَدْ رَفَضْتُهُ عَنْ أَنْ يَمْلِكَ عَلَى إِسْرَائِيلَ؟» (1صم16: 1).

ما أروع مشهد صموئيل هنا، وإن تساءلنا ممن تعلم صموئيل سمو الأخلاق هذه؟ نقول: من عالي وما سبق أن أظهره معه أيضًا من سمو أخلاق عندما اختاره الرب ليحل محله.  لقد أدرك صموئيل وهو صبي يخدم الرب أمام عالي أن أروع الدروس وأعمقها تأثيرًا عليه، لم يكن ما سمعه من فم عالي، بل ما رآه من سلوكيات عالي في هذا الموقف يوم رُفض! ليس شرحه طقوس الخدمة في بيت الرب، بل تصرفه أمام المواقف العصيبة.  نعم تعلم من “عالي الإنسان” أكثر مما تعلم من “عالي الكاهن”!

من أجل ذلك لا نتعجب أن تأثير خدمة صموئيل امتدت سريعًا لتشمل كل أنحاء إسرائيل في فترة وجيزة، إذ نقرأ: «وَكَبِرَ صَمُوئِيلُ وَكَانَ الرَّبُّ مَعَهُ، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ كَلاَمِهِ يَسْقُطُ إِلَى الأَرْضِ. وَعَرَفَ جَمِيعُ إِسْرَائِيلَ مِنْ دَانَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ أَنَّهُ قَدِ اؤْتُمِنَ صَمُوئِيلُ نَبِيًّا لِلرَّبِّ. وَعَادَ الرَّبُّ يَتَرَاءَى فِي شِيلُوهَ, لأَنَّ الرَّبَّ اسْتَعْلَنَ لِصَمُوئِيلَ فِي شِيلُوهَ بِكَلِمَةِ الرَّبِّ» (1صم3: 19-21).
كيف ذاع صيته بهذه الكيفية رغم صعوبة تناقل الأخبار آنذاك؟ لا شك أن قوة حياة صموئيل وتأثيرها العظيم كان مصدره مصداقية ما كان يعلمه ويتكلم به فكانت أقواله تُعبِّر عن حياته، ولذلك كان رجلاً عظيمًا، وانطبقت عليه كلمات الرب يسوع في عظة الملكوت: «وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ فَهَذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ» (مت5: 19).
وهكذا استطاع صموئيل أن يجيبنا إجابات رائعة على هذه الأسئلة الثلاث، وكم نحتاج في هذه الأيام ليس فقط أن نعرف إجابات الأسئلة، بل نجتهد أن تكون هذه الإجابات مصدر إلهام لنا في هذه الأيام الأخيرة.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com