عدد رقم 2 لسنة 2011
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
جدعون  
الله يستخدم الوسائل البسيطة
تحدثنا في المرة الماضية عن "جدعون" باعتباره: "شاب صغير لعمل كبير"، ورأينا حال الشعب وقت ظهوره في المشهد في أيام حكم القضاة، وهي الأيام التي لا تختلف كثيرًا عن أيامنا الحاضرة حيث حلقات الضعف والفشل المتكررة، ورأينا كيف لخَّص الرب في عبارة موجزة سبب فشل الشعب وتحوله عنه في كلمات النبي: «ولم تسمعوا لصوتي» (قض6: 7-10).  وتكلمنا بالتفصيل في هذه الحالة وأسبابها في وقتنا الحاضر من حيث رغبتنا أحيانًا في سماع موضوعات بعينها دون سؤال الرب، أو أشخاص معينين دون رغبة حقيقية في سماع الرب نفسه، أو نسمع صوت الرب فعلاً ونفوته لسبب أو لآخر في قلوبنا الخادعة.

على أنه في وسط هذا الجو القاتم يتدخل الرب نفسه في المشهد، فيُجهِّز "رجلاً" وإن كان في الواقع شابًا صغيرًا، كعادة من يستخدمهم الرب فعليًا بصفة عامة، وفي أيام الضعف الروحي بصفة خاصة.

«وَأَتَى مَلاَكُ الرَّبِّ وَجَلَسَ تَحْتَ الْبُطْمَةِ الَّتِي فِي عَفْرَةَ الَّتِي لِيُوآشَ الأَبِيعَزَرِيِّ. وَابْنُهُ جِدْعُونُ كَانَ يَخْبِطُ حِنْطَةً فِي الْمِعْصَرَةِ لِكَيْ يُهَرِّبَهَا مِنَ الْمِدْيَانِيِّينَ» (ع11).  والصورة هنا جميلة ومُعبرة.  فالأعداء هم المديانيون الذين استعبدوا الشعب نتيجة غضب الرب عليهم، لأنهم عملوا الشر في عينيه ولم يسمعوا لصوته.  وكل ضيق يسمح به الرب لشعبه هو دائمًا ليس بدون سبب فينا يحتاج إلى العلاج، وليس دون محبة في قلب الله العظيم.

فهل يتعمق هذا الفكر فينا في هذه الأيام المزعجة التي تحياها كنيسة الله على الأرض؟ ليته يكون كذلك.  مديان تعني "نزاع" أو "صراع"، وهل هناك أيام ارتفعت فيها نغمة النزاع والصراع والاحتجاج، سواء في العالم الواسع المحيط بنا، أو المجتمع الصغير الذي نعيش فيه، أو حتى داخل شعب الله نفسه نظير أيامنا الحالية؟ فأين العلاج إذًا؟ أين الحل؟ إن النزاعات الداخلية لا بد أن ينتج عنها مجاعة روحية، فثمر البر يُزرَع في السلام (يع 18:3)، والحياة المطمئنة في كل تقوى ووقار (1تي2:2) هي الجو الذي يتهيأ فيه المرء للشبع الروحي.

وجاء العلاج في "الحنطة" التي تحدثنا عن كلمة الله، وعن شخص المسيح موضوع الكتاب المقدس وغرضه( زك9: 17).  إن كلمة الله دائمًا فيها العلاج لكل داء، والحل لكل مشكلة، والجواب على كل سؤال، وبالإجمال «كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ» (2تي3: 16) والرجوع إلى الكتاب هو أساس كل نهضة كتابية حقيقية.  ولكن أيضًا، وهذا هو الأهم، تطبيق الكلمة اليومي على حياتنا الفردية والكنسية بصورة عملية، وهذا ما نحتاج إليه في أيامنا.

شاب صغير، يخبط حنطة، أي يستخلصها من القشرة الخارجية ليُهيِّئها طعامًا جاهزًا لشعب الله، ثم يُهرِّبها من الأعداء (المديانيين) لفائدة وبركة إخوته، هي الصورة الجميلة التي تجعل ملاك الرب، أي الرب نفسه - حسبما نفهم هنا وفي مواضع أخرى من العهد القديم (تك7:16؛ تك17:21؛ خر2:3؛ قض6: 11، 22؛ قض3:13 وغيرها) - يأتي إليه.  وبعد هذا المشهد بنحو أكثر من ألف سنة تحدث الرب يسوع عن سروره بمن يُقدِّر كلمة الله ويطيعها بالقول: «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يو14: 23).

وهنا نحن أمام ثلاثة دروس هامة نحسب أننا في مسيس الحاجة إليها.
الأول:
 هو أن الله لم ولن يترك شعبه مهما بلغ من ضعف روحي، أو مهما أحاط به من أعداء ومضايقات ونزاعات.  إنه دائمًا يحتفظ لنفسه بالتوقيت الصحيح والحاسم الذي يتدخل فيه حلاً للأزمة أو درءًا لخطر أو تفعيلاً لبركة لخير شعبه.  هذه هي محبته غير المتغيرة، وصلاحه غير المحدود، ونعمته السيادية التي تسمو على كل شيء.  ياليتنا نثق في هذه الحقيقة الساطعة ثقة كاملة.
والثاني:
 أن الرب يبحث دائمًا عن شخص أولولياته صحيحة ومُرتَّبة حسب فكر الله، مُتخليًا عن روح الأنانية البغيضة التي تُميِّز الإنسان المستقل عن الله عمومًا، وإنسان الأيام الأخيرة خصوصًا (2تي3: 2)، حيث في مقدمة شرور الناس في المسيحية اليوم هو أنهم «يَكُونُونَ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ، مُجَدِّفِينَ، غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، غَيْرَ شَاكِرِينَ، دَنِسِينَ، بِلاَ حُنُوٍّ، بِلاَ رِضًى، ثَالِبِينَ، عَدِيمِي النَّزَاهَةِ، شَرِسِينَ، غَيْرَ مُحِبِّينَ لِلصَّلاَحِ، خَائِنِينَ، مُقْتَحِمِينَ، مُتَصَلِّفِينَ، مُحِبِّينَ لِلَّذَّاتِ دُونَ مَحَبَّةٍ ِللهِ» (2تي3: 2-4) أو لشعبه بالتبعية.

ما كان أسهل في زمن مجاعة المديانيين أن يفكر شاب صغير نظير جدعون في مصالحه الشخصية ومنافعه المادية من توفير الحنطة لإخوته نظير مقابل مادي، مستغلاً الظروف التي يحيا في ظلها الشعب محرومًا من قوت الحياة الضروري، وتَمَكُّنه هو بالذات من خبط الحنطة وتهريبها.  إن إمكانية كهذه كانت كفيلة بأن تجعل منه شابًا غنيًا -وهو لازال في عنفوان شبابه وقوته- يكنز ثروة كبرى لنفسه نظير الملايين "المولعين بالكسب" في هذا العالم، والذين يعرفون جيدًا كيف يتاجرون بآلام البشر وآمالهم، ويستفيدون –لأنفسهم- من كل أزمة أو مشكلة على حساب الملايين. 
نعم كان سهلاً على جدعون أن يبيع الحنطة ليُحقق لنفسه مكاسب كبيرة بأقل مجهود وفي وقت قياسى، كما نرى اليوم، ليس فقط على مستوى العالم المادي فحسب، بل وعلى مستوى العالم الديني بكل أسف، حيث تحوَّلت التقوى إلى تجارة رابحة في كثير من الأنشطة الدينية الكنسية، وعبر كثير من موجات البث الفضائي بكل لغات العالم!!

إن التربح المادي أو المعنوي من وراء عمل الرب لهو مأساة مروعة ذات صوتٍ عالٍ في أيامنا!  كما نلاحظ أيضًا قيام جدعون بالعمل في الخفاء، ليس فقط لمجرد الخوف من الأعداء، ولكن لعدم رغبة في الشهرة أو الاستعلاء.  فأين أنا وأنت من هذا يا عزيزي القارئ؟ 
أحبائي الشباب:
 ليتنا نتحذَّر من الجري والسعي وراء مصالحنا وإهمال مصالح الرب وبركة قطيعه الغالي، وليتنا نحترس بشدة من روح "جيحزي": «أجري وآخذ» (2مل5: 20)، التي لا ينتج عنها سوى برص نعمان السرياني الذي تلحظه بكل وضوح أعين الأتقياء المُميِّزين في كنيسة الله اليوم، في الذين فضلوا نجاحاتهم الزمنية ومصالحهم الشخصية على العمل لأجل الرب ولأجل شعبه الغالي.  ليتنا إلى الرب نعود وبنشيد العودة نتوب وبقلب صادق نعيد ترتيب أولوياتنا وأوراقنا وبرامجنا، فالرب وحده يستحق الأولوية، وعمل الرب وحده هو الذي سيبقى تأثيره إلى الأبد.  «كُونُوا رَاسِخِينَ، غَيْرَ مُتَزَعْزِعِينَ، مُكْثِرِينَ فِي عَمَلِ الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ، عَالِمِينَ أَنَّ تَعَبَكُمْ لَيْسَ بَاطِلاً فِي الرَّبِّ» (1كو15: 58).

أما الدرس الثالث والأخير:

فهو أن الرب يُرسل هنا رجلاً عاديًا.  في نظر رجال الدين هو شاب "علماني"، وفي نظر صفوة المجتمع هو إنسان "عادي".  وياله من تحذير وتشجيع في آن معًا!! التحذير من نغمة منتشرة ومعروفة منذ زمن، تقدم المؤهلات الدينية على التدريبات الروحية، وتعتبر الدراسات الدينية المُتخصصة مؤهلاً حقيقيًا لأصحابها للتصدي لعمل الله وخدمة شعبه، في إهمال تام لأسلوب الله في دعوة خدامه وإرسالهم.  وإننا نتذكر مقولة رجل الله الفاضل ماكنتوش في معرض حديثه عن موسى وإرساليته: (إن الله لا يدعو مؤهلين للخدمة ليُرسلهم، بل يؤهل مدعوين ثم يرسلهم) والفارق شاسع وخطير.  إننا لا نقلل مطلقًا من قيمة الدراسات الكتابية الحقيقية، وليس الإنسانية الفلسفية، في خدمة الرب.  لكن المبدأ الصحيح هو الدعوة الإلهية، والتأهيل الروحي، والإرسالية من الرب رأسًا في الوقت المناسب.

كما أن التحذير يتضمن صوتًا علت نبرته في أيامنا الحاضرة، يركز على فئات بعينها من بين أولاد الله، فئات علمية أو اجتماعية "عُليا" في نظر المجتمع، هم "النُخبة"، و"المثقفون" في نظر الناس، ليقودوا هم عمل الرب باعتبارهم الأكثر أهلية عن غيرهم.  إننا لا نجد في الكتاب مانعًا من تركيز على الخدمة الروحية بشكل أو بآخر وسط فئة معينة أو أصحاب مهنة معينة.  لكن ما لدينا من الموانع الكثير بصدده هو سيطرة فكر العالم على تقسيم القديسين إلى فئات على أساس المؤهل العلمي أو الثقافى أو ما يُسمى "بالنخبة" باعتبار هؤلاء –بالضرورة- هم المؤهلون أكثر للتصدي للخدمات "الكبرى" وقيادة عمل الرب في نظرالبعض.

نعم لقد استخدم الرب - ولا يزال - رجالاً من الصفوة نظير موسى، إلا أن تأهيلهم روحيًا استلزم سنوات طويلة من الإفراغ من هذه النقطة بالذات ليصبحوا مُؤهلين – إلهيًا لا بشريًا- للخدمة.  كما أن الرب استخدم- ولا يزال- الكثير والكثير من غير ذوي المؤهلات العليا والشهرة الكبرى، والأسماء الرنانة في دنيا العلم والثقافة نظير جدعون وعاموس وصيادي السمك الذين فتنوا المسكونة من تلاميذ سيدنا له المجد.  ياليتنا نُحكَم أكثر بكلمة الله ومبادئها النقية لا بأفكار الناس واستحساناتهم البشرية. 
أما التشجيع فهو لكل واحد منا أحبائي الشباب، إنه بغض النظر عن السن أو الجنس أو الثقافة أو العائلة أو أي مؤهل إنساني آخر، فالرب على أتم الاستعداد لأن يستخدمك –كما أنت- إن وضعته في حياتك أولاً، وكنت مُهتمًا بإخلاص ودوافع نقية بمصالح شعبه.  وتأكد أن القليل الذي في يدك أن تفعله وأنت لا تشعر بسمو قيمتك، لهو ذو قيمة عظمى في نظر الرب، وذو تأثير رائع على جميع المخدومين.  وهذا نراه بكل وضوح في جدعون في بداياته المبكرة.  ولكن لهذا حديث آخر إن شاء الرب وعشنا.                                                                                                                                       

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com