(أع 6 و7)
نختم أحاديثنا في هذه السلسلة عن عداوة الأشرار وشراستهم، ومعاناة الأبرار وصبرهم، في عالم يسوده الشيطان وأرض يُميِّزها الظلم والطغيان، منذ دخول الخطية وحتى يملك المسيح على العالم العتيد حيث يسود البر والسلام.
وفي هذا العدد سنتحدث عن الشهيد الأول في المسيحية: استفانوس، كما بدأنا الحديث بالشهيد الأول في البشرية: هابيل.
استفانوس .. معنى اسمه ’’إكليل‘‘. لقد عاش شاهدًا أمينًا للمسيح، ومات شهيدًا لأجل المسيح، فاستحق «إكليل الحياة» (رؤ 10:2) الذي سيحظى به في ذلك اليوم أما كرسي المسيح. لقد ظهر استفانوس عندما ظهرت مشكلة في الكنيسة في أيامها المُبكرة، مرتبطة برعاية الأرامل والاهتمام بالاحتياجات المادية لهم (أع 1:6). وقد أشار الكتاب إلى اعتناء الله بالأرامل 28 مرة في العهد القديم، وهو جزء هام في العمل التدبيري والراعوي في كنيسة الله. تم اختيار سبعة شمامسة للقيام بهذه الخدمة حتى يتفرَّغ الرُّسُل للصلاة وخدمة الكلمة، وكان من بينهم استفانوس (أع 3:6-5). وكان مشهودًا له في الأمانة والتقوى، ممتلئًا من الروح القدس والحكمة والإيمان. كان خادمًا مباركًا دارسًا للكُتب المقدسة، وخادمًا للأمور المالية في الكنيسة. وهناك فارق بين المؤهلات الجسدية التي تروق للناس والمؤهلات الروحية التي تُرضي الله.
كانت كلمة الله تنمو وعدد التلاميذ يتكاثر جدًا، وجمهور من الكهنة يطيعون الإيمان. وأما استفانوس فكان مملوًّا إيمانًا وقوة وكان يصنع عجائب وآيات عظيمة في الشعب، مع أنه لم من الرُّسُل الاثني عشر (أع 7:6 و8).
نهض قومٌ من مجمع اليهود من جنسيات مختلفة، وكانوا يحاورون استفانوس، ولم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلَّم به، هؤلاء أهاجهم الشيطان ضده، فدسوا لرجال يقولون: إننا سمعناه يتكلَّم بكلام تجديف على موسى وعلى الله، وهيجوا الشعب والشيوخ والكتبة فقاموا وخطفوه وأتوا به إلى المجمع وعقدوا جلسة طارئة ليحاكموه. فأقاموا شهدوًا كذبة يقولون: هذا الرجل لا يفتر عن أن يتكلَّم كلامًا تجديفيًا ضد هذا الموضع المقدس والناموس، لأننا سمعناه يقول: إن يسوع الناصري هذا سينقض هذا الموضع ويُغيِّر العوائد التي سلَّمنا إياها موسى (أع 10:6-14). ونحن لا نقرأ أن استفانوس تكلَّم شيئًا عن الهيكل أو الناموس. والحقيقة أن الرب يسوع هو الذي أشار إلى نقض الهيكل في (يوحنا 19:2، متى 61:26، متى 40:27). وبالطبع كان الرب يتكلَّم عن هيكل جسده وليس الهيكل المادي.
وبينما كان استفانوس يُحاكَم ويواجه شراسة اليهود الأشرار وعداوتهم، وكان على وشك أن يُرجَم، شخصوا إليه ورأوا وجهه كأنه وجه ملاك (أع 15:6). لقد انعكس عليه سلام وهدوء المسيح فبدا وجهه مشرقًا لامعًا مبتسمًا. كان هذا إحساس جميع الذين في المجمع بما فيهم الصدوقيين الذين لا يؤمنون بالملائكة. لم يكن استفانوس يخشى الموت بل كان واثقًا أنه في لحظات سينطلق ويكون مع المسيح متمتعًا بالمجد.
أُعطيت الفرصة لاستفانوس ليتكلَّم أمام مجمع اليهود، وكان مُقتدرًا في الكُتب ومُمتلئًا من الروح القدس، فاستعرض تاريخ إسرائيل من بدايته حيث دعوة إبراهيم مرورًا بعصر الآباء، حيث توقف عند يوسف ليُظهر عداوة ورفض إخوته ومقاومتهم لفكر الله وإعلانه من خلال الأحلام التي أعطاها له أنه سيملك مُلكًا ويتسلَّط تسلطًا، وهم سيسجدون له. أما هم فرفضوه وحاولوا أن يقتلوه ثم باعوه. لكن الله استخدم شرهم في تحقيق مقاصده. وهو نفس ما حدث من اليهود نحو المسيح.
ثم توقف مرة أخرى عند موسى الذي ظهر عندما جاء موعد خروج بني إسرائيل من مصر. واستفانوس هو الذي قسَّم حياة موسى إلى ثلاثة أربعينات: في مصر وفي مديان وفي البرية. وركز على رفض الشعب لموسى ليظهر أيضًا فشل إسرائيل ومقاومتهم لعمل الله (أع 20:7-43).
يوسف وموسى حاولا خدمة إخوتهم لكنهم قاوموهم ورفضوهم، كذلك الرب يسوع جاء من عند الآب برسالة الحب لا لكي يُخدَم بل لكي يَخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين. جاء إلى نفس الشعب، إلى خاصته جاء لكن خاصته لم تقبله. لقد رفضوه وأبغضوه وقتلوه مُعلِّقين إياه على خشبة. وأوضح استفانوس لقادة الأُمَّة أن الخلاص في كل الحالات تم بواسطة الشخص الذي رفضوه.
المرحلة الثالثة التي أشار إليها استفانوس وهو يستعرض تاريخ إسرائيل هي أيام داود وسليمان الذي بنى الهيكل (أع 45:7-47). وقد أوضح لهم أن الله العلي لا يسكن في هياكل مصنوعة الأيادي، مشيرًا إلى تنحية البيت الأرضي ليحل محله البيت الروحي الذي هو الكنيسة. وفي ختام خدمة المسيح على الأرض أشار إلى خراب الهيكل قائلاً: «هوذا بيتكم يُترَك لكم خرابًا» (مت 38:23).
كانت عظة استفانوس هي الأطول والأقوى بين اثني عشر عظة وردت في سفر أعمال الرُّسُل. وقد ختمها بتوبيخ اليهود بلهجة عنيفة أكثر مما فعل بطرس في عظاته لهم. لقد حمَّلهم خطية رفض المسيح ومقاومة الروح القدس دائمًا، كما كان آباؤهم كذلك هذا الجيل أيضًا. فالآباء قتلوا الأنبياء الذين أنبأوا بمجيء البار، وهم الآن صاروا مُسلِّميه وقاتليه. كأنه يقول لهم: يا مَنْ تفتخرون بموسى تذكروا أن آباءكم رفضوا موسى ودفعوه ورجعوا بقلوبهم إلى مصر. وأنتم رفضتم الذي تنبأ عنه موسى قائلاً: «نبيًا مثلي يُقيم لكم الرب إلهكم ... له تسمعون» (أع 37:7). ويا مَنْ تفتخرون بالناموس، لقد أخذتم الناموس بترتيب ملائكة ولم تحفظوه (أع 53:7). وذات الشيء قاله الرب يسوع عن موسى الذي كتب عنه، لكنهم لم يصدقوا موسى. وكذلك عن الناموس قائلاً: «أ ليس موسى أعطاكم الناموس، وليس أحد منكم يعمل الناموس؟» (يو 19:7).
فلما سمعوا هذا حنقوا بقلوبهم وصرُّوا بأسنانهم عليه (أع 54:7). وأما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله، مثلما حدث مع إبراهيم الذي ظهر له إله المجد، ومع موسى الذي رأى مجد الله في وسط العُليقة. رأى استفانوس هذا المجد الذي رحل من جبل الزيتون شرق أُورشليم ليستقر في يمين العظمة في الأعالي. لقد حوَّل نظره عن الأرض وما فيها من شرور وظلم وعداوة وشراسة إلى السماء حيث الراحة والهناء بعيدًا عن كل ما يؤلم ويعكر ويكدر. لقد رأى مجد الله، ورأى يسوع، الذي صلبوه وقتلوه، قائمًا عن يمين الله. قائمًا وليس جالسًا كما نفهم من مواضع كثيرة أنه بعدما صنع بنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي. لكن هنا نراه قائمًا لكي يشجع استفانوس ويشدده ويسنده ويتابع بعناية فائقة كل ما يحدث. إنه يقف في صف خادمه الأمين بكل عواطف قلبه الرقيق شاعرًا بصعوبة الموقف الذي يواجهه. قائمًا لكي يستقبله ويرحب به في المجد. ويا لها من تعزية وتشجيع لاستفانوس في هذه اللحظات العصيبة. ومن ناحية أخرى كانت هذه هي الفرصة الأخيرة والرسالة الأخيرة لإسرائيل قبل أن يُغلق الباب في وجوههم نهائيًا كأُمَّة. لقد أعطاهم الله فرصة ومهلة إضافية بعد أن صلبوا المسيح. فقد نزل الروح القدس، وبطرس كان لا يزال يوجه نداءه لهم لكي يتوبوا ويرجعوا فتُمحَى خطاياهم وتأتي أوقات الفرج لهم من وجه الرب، ويُرسل لهم يسوع المسيح المبشَّر به لهم قبل (أع 19:3 و 20). أي أن المسيح القائم كان على استعداد أن يرجع إليهم ليملك عليهم ويحقق المواعيد بالبركات في مُلكه بحسب كل ما جاء في النبوَّات، إذا تابوا ورجعوا بكل قلوبهم كأُمَّة. وهذا يذكرنا بمثل التينة الذي قاله المسيح: «هوذا ثلاث سنين آتي أطلب ثمرًا فيها ولم أجد. اقطعها» لكن الكرَّام تشفَّع لأجلها قائلاً: «اتركها هذه السنة أيضًا ... فإن صنعت ثمرًا، وإلا ففيما بعد تقطعها» (لو 6:13-9). وبكل أسف لم يستفد اليهود من هذه المهلة الإضافية بعد مجيء الروح القدس ولم يتوبوا.
قال لهم استفانوس: «ها أنا أنظر السماوات مفتوحة، وابن الإنسان قائمًا عن يمين الله» (أع 56:7). ولقب «ابن الإنسان» يرتبط بمجده ومُلكه، وقد ورد عن المسيح في دانيآل 13:7 هذا اللقب الذي يفهمه اليهود جيدًا. وهو نفس التعبير الذي استعمله المسيح في المُحاكمة أمام رئيس الكهنة «تبصرون ابن الإنسان جالسًا عن يمين القوة وآتيًا على سحاب السماء» (مت 64:26). وهو ما جعل رئيس الكهنة يُمزق ثيابه ويعتبره قد جدَّف ويستوجب الموت. هنا استفانوس يقول لهم إنني أرى ابن الإنسان الذي رفعتموه على خشبة، ها هو مُمجَّدٌ في السماء في أعلى مكان عن يمين الله.
لم يحتمل اليهود هذا الإعلان وهذه الشهادة عن ابن الإنسان المُمجَّد في الأعالي، فصاحوا بصوت عظيم وسدوا آذانهم، وهجموا عليه بنفس واحدة، وأخرجوه خارج المدينة ورجموه. ويا لمشاعر الغضب والكراهية نحو الله الذي أرسل لهم ابنه الوحيد فقتلوه، وأرسل الروح القدس ليشهد لهم عن المسيح ويقودهم للتوبة، فقتلوا استفانوس الممتلئ من الروح القدس، كأنهم قتلوا الروح القدس أيضًا. ومن ذلك الوقت فصاعدًا أُغلق الباب على اليهود كأُمَّة، وتحول نهر النعمة عن إسرائيل ليصل إلى الأُمم.
وبينما كان اليهود يرجمون استفانوس كان يدعو ويقول: «أيها الرب يسوع اقبل روحي. ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم: يا رب، لا تُقم لهم هذه الخطية. وإذ قال هذا رقد» (أع 59:7 60). ويا لها من أخلاق ملوكية ظهرت في هذا الشهيد الأول الذي تمثَّل بسيِّده الذي صلَّى لأجل صالبيه قائلاً: «يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون» (لو 34:23).
ليت هذه الروح - روح الغفران وليس الانتقام- تكون فينا وتُجملنا في هذه الأيام التي نواجه فيها مشاعر العداء والاضطهاد من العالم الذي يرفض المسيح ويرفض تابعيه.