المعرفة الكتابية أم القلب المستقيم؟
«فَقَالَ لَهُ: إِنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَاصْنَعْ لِي عَلاَمَةً أَنَّكَ أَنْتَ تُكَلِّمُنِي. لاَ تَبْرَحْ مِنْ ههُنَا حَتَّى آتِيَ إِلَيْكَ وَأُخْرِجَ تَقْدِمَتِي وَأَضَعَهَا أَمَامَكَ. فَقَالَ: إِنِّي
أَبْقَى حَتَّى تَرْجعَ. فَدَخَلَ جِدْعُونُ وَعَمِلَ جَدْيَ مِعْزًى وَإِيفَةَ دَقِيق فَطِيرًا. أَمَّا اللَّحْمُ فَوَضَعَهُ فِي سَلّ، وَأَمَّا الْمَرَقُ فَوَضَعَهُ فِي قِدْرٍ، وَخَرَجَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَى تَحْتِ الْبُطْمَةِ وَقَدَّمَهَا. فَقَالَ لَهُ مَلاَكُ اللهِ: خُذِ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ وَضَعْهُمَا عَلَى تِلْكَ الصَّخْرَةِ وَاسْكُبِ الْمَرَقَ. فَفَعَلَ كَذلِكَ. فَمَدَّ مَلاَكُ الرَّبِّ طَرَفَ الْعُكَّازِ الَّذِي بِيَدِهِ وَمَسَّ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ، فَصَعِدَتْ نَارٌ مِنَ الصَّخْرَةِ وَأَكَلَتِ اللَّحْمَ وَالْفَطِيرَ. وَذَهَبَ مَلاَكُ الرَّبِّ عَنْ عَيْنَيْهِ. فَرَأَى جِدْعُونُ أَنَّهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، فَقَالَ جِدْعُونُ: آهِ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ! لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَلاَكَ الرَّبِّ وَجْهًا لِوَجْهٍ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: السَّلاَمُ لَكَ. لاَ تَخَفْ. لاَ تَمُوتُ».(قض 17:6- 23)
رأينا في الحلقات السابقة كيف ظهر جدعون في المشهد وقت ضعف شهادة شعب الله وتحولها عنه، الأمر الذي جعل الرب يدفعهم ليد المديانيين سبع سنين حتى صرخ الشعب إلى الرب لسبب ذُل المديانيين وليس بسبب شرهم هم الذي استوجب هذا القضاء الإلهي، تمامًا مثلما يحدث الآن إذ يصرخ المسيحيون – المدعو عليهم اسم المسيح - إلى الرب لا لسبب شرورهم أو تمردهم أو تحولهم عن الرب راغبين في التوبة، لكن لسبب المضايقيين – الطبعة المعاصرة من المديانيين – طالبين رفع الضيق ليس إلا.
واللافت للنظر أن ما عمله جدعون في الخفاء كان يهدف فقط إلى فائدة الشعب، دونما تقليد أو تكرار لعمل سابق أو خدمة سالفة للقضاة الذين سبقوه؛ بل ولم يكن جدعون يفكر ولو للحظة أن الرب سيدعوه هو شخصيًا في جيله كله ليكون الأداة التي بها يُخلِّص الرب شعبه من المديانيين.
على أننا نريد أن نركز في هذه المرة على أن جدعون – بمقاييس البشر كلها - لم يكن هو الشخص المناسب إنسانيًا لهذه المهمة مطلقًا ومن كل الوجوه. لكن لأن سبل الله هي في المياه العميقة، ولأن آثار الرب لا تُعرف «فِي الْبَحْرِ طَرِيقُكَ، وَسُبُلُكَ فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، وَآثارُكَ لَمْ تُعْرَفْ» (مز77: 19)؛ فمن العجيب أن يكون نفس هذا الشخص هو الرجل المطابق للمواصفات الإلهية!! أليس في هذا عجبًا فعلاً؟ وأليس هذا دليلاً على علو أفكار الله عن أفكار البشر، ولو أحسن البشر؟ أوليس في ذلك الكثير لتعليمنا نحن اليوم الذين نعيش أيامًا أشبه ما تكون بأيام جدعون؛ أيام الشر في الداخل؛ و«كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه»، والمضايقات من الخارج: المديانيين؟
دعنا نمر أولاً في عجالة على المواصفات البشرية لجدعون لنرى كيف أن جدعون بحسبها ’’غير مطابق ‘‘ شكلاً أو موضوعًا. ثم نحاول كشف الأسباب، أو قل السبب الرئيسي الذي جعل الله يختار هذا الشخص عينه لخدمته.
أولاً: المواصفات البشرية:
1. السبط: هو منسى ... وليس لاوي مثلاً، حيث الخدمة والكهنوت.
2. العشيرة: هي الذلى ... أي الأقل والأفقر.
3. بيت أبيه: هو شخصيًا الأصغر في بيت أبيه.
4. صغر نفسه: أضف إلى ذلك أنه لا يشعر بقيمة عالية في نفسه (كما رأينا في العدد السابق).
5. نفس خائفة غير واثقة: «إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فاصنع لي علامة أنك أنت تكلمني » (ع17).
6. معلومات كتابية غير دقيقة: «فَدَخَلَ جِدْعُونُ وَعَمِلَ جَدْيَ مِعْزًى وَإِيفَةَ دَقِيق فَطِيرًا. أَمَّا اللَّحْمُ فَوَضَعَهُ فِي سَلّ، وَأَمَّا الْمَرَقُ فَوَضَعَهُ فِي قِدْرٍ، وَخَرَجَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَى تَحْتِ الْبُطْمَةِ وَقَدَّمَهَا». (ع19).
لا شك أن جدعون كان يعرف أنه إن كان الشخص الذي يكلمه «ملاك الرب» هو الرب شخصيًا، فإن ما يليق بشخصه هو الذبيحة. وحسنًا فعل عندما توجه ليحضر له جدى معزى وهي ما كانت تقدم عادة «ذبيحة خطية» بحسب الشريعة الموسوية في سفر اللاويين. وجميل أن يقدم معها «إيفة دقيق فطيرًا». فوإن كانت الذبيحة تكلمنا عن موت المسيح الكفاري فإن الدقيق يكلمنا عن حياته الكاملة. على أن الغريب جدًا هو أن جدعون «سلق» الذبيحة!! «وَأَمَّا الْمَرَقُ فَوَضَعَهُ فِي قِدْرٍ، وَخَرَجَ بِهَا إِلَيْهِ إِلَى تَحْتِ الْبُطْمَةِ وَقَدَّمَهَا» (ع19).
وغني عن البيان ما يعنيه هذا التصرف لأي شخص يفهم ولو قليلاً في الذبائح التي ما كانت تُسلق ولا تُطبخ ولا تقدم بأية وسيلة أخرى سوى مذبوحة لتشوى بنيران المذبح فقط لاغير! وكثيرًا ما تخيلت الواقف أمام جدعون في هذا المشهد – وهو خارج بقدر المرق - واحدًا من رجال الدين، كيف سيكون رد فعله؟ ربما وبخه، وأعلن له عدم نفعه وجهله...الخ، الأمور التي أعتقد أن شابًا نفسه صغيرة مثل جدعون يعيش أيامًا رهيبة كأيامه ربما ما كان ليتحملها، لكن العجيب فعلاً أن الواقف أمامه هو الرب نفسه (يهوه) وبكل رحابة قلب، واتساع أفق يصحح الوضع ببساطة في كلمتين اثنتين «اسكب المرق» (ع20) .. ففعل جدعون كذلك.
ثانيًا: المؤهلات الإلهية:
أعتقد أن المؤهل الأساسي هو الإخلاص ونقاء الدوافع، لقد امتلك جدعون قلبًا مستقيمًا موحد الغرض محبًا للرب ولشعبه – حتى أنه لا يفصل نفسه عن الشعب وهو في أحط حالاته كما رأينا - وبينما ينظر الإنسان إلى العينين، فإن الرب ينظر إلى القلب. إن غياب الكثير من المؤهلات الإنسانية التي يقدرها العالم – حتى العالم الديني بكل أسف - ربما كانت وعلى عكس المتوقع؛ أسبابًا إضافية تجعل الرب يتجه نحو نفس هذا الشخص مثل: الاتضاع وصغر النفس وفقر الامكانيات والمؤهلات الذاتية.
على أن الأمر الذي يحتاج أن نتوقف أمامه طويلاً هو: كيف يستخدم الرب شابًا ليست لديه المعرفة الكتابية الكاملة كجدعون؟ والإجابة – حسبما يمكننا أن نفهم - يمكن أن نوجزها في الآتي:
• رغم أن المعرفة الكتابية هامة بل ولازمة لكل مؤمن، وبالحري لكل خادم، فإن الرب يهمه حالة القلب الداخلية قبل المعلومات الذهنية. والواقع يؤكد أنه وإن كان صحيحًا ما أجمل أن يتحد قلب مستقيم مع ذهن ممتلئ بالحقائق الكتابية، إلا أن هذه الصورة بالحقيقة نادرة جدًا. وإذا جاء الاختيار بين: ذهن ممتلئ أم قلب مستقيم فإن جدعون هنا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الرب يهمه حالة القلب الروحية قبل أي اعتبار آخر. ولعل هذا يفسر لنا كيف أن هناك على الجانب الواحد الكثيرين ممن تمتلئ أذهانهم بالحقائق الكتابية الصحيحة لكن دونما أي تأثير يُذكر نظرًا لغياب القلب المستقيم والموحد وكيف أن هناك على الجانب الآخر كثيرين، ممن يفتقرون إلى كامل الحقائق التعليمية الكتابية ولكن لأنهم يمتلكون قلبًا مستقيمًا، فإننا نجد أن لهم تأثيرًا لا يمكن إنكاره على دوائر حياتهم الخاصة والعامة بل وخدمتهم الروحية.
والسؤال الذي يفرض نفسه على ضمائرنا اليوم جميعًا: الكاتب والقارئ، لماذا لا نجمع بين الأمرين؟ ليتنا نسعى بالحق والصدق لنكون كذلك!
على أن في هذه النقطة تحديدًا أجد تشجيعًا رائعًا لكل شاب يشعر، نظير جدعون، بأنه بلا مؤهلات شخصية أو دينية كافية لخدمة الرب، أن المعلومات والحقائق تأتي مع الوقت طالما كان القلب مشغولاً بالسيد والنفس متعلقة به كموضوع الكتاب المقدس وغرضه، وبالتالي فلا داعي للإحجام أو التراجع طالما تلقينا من الرب دعوة واضحة.
كما ياليت كل المتقدمين وسط شعب الله يحرصون بحب وحكمة على الأخذ بيدي كل جدعون صغير بيننا، بصبر على نقص المعلومات والخبرات واضعين نصب أعينهم مثالنا الأعظم الذي عالج الموقف ببساطة متناهية وحكمة عالية «اسْكُبِ الْمَرَقَ»، ويقيناً – منذ هذه اللحظة - لم يفكر جدعون مطلقًا مرة أخرى في سلق أية ذبيحة!