عدد رقم 1 لسنة 2011
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الصراع الدائم بين الأشرار والأبرار  

العالم منذ القديم هو مشهد لصراع دائم.  وهذا الصراع ليس فقط بين الخير والشَّر بل أيضًا بين الشَّر والشَّر، إذ ليس للشَّر مع نفسه وحدة أو سلام.  ومنذ أن دخلت الخطية إلى العالم، وصارت الأرض مُسلَّمة ليد الشِّرير، والعالم يتميَّز بالفساد والشهوة.  والشهوة تعني الصراع والحرب.  وهذا ما قاله الكتاب: «من أين الحروب والخصومات بينكم؟ أليست من هنا: من لَذَّاتكم المُحارِبة في أعضائكم؟» (يع 1:4).  وقال الرب يسوع لليهود الأشرار: «أنتم من أبٍ هو إبليس، وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا.  ذاك كان قتَّالاً للناس من البدء» (يو 44:8). 

وعندما كان «على وجه الغمر ظُلمةٌ» تُغطِّي المشهد كله، لم يكن هناك صراع.  ولكن لما قال الله: «ليكن نورٌ، فكان نورٌ... وفَصَلَ الله بين النور والظلمة»، هنا بدأ الصراع.  

لقد دخل النور إلى المشهد وكافح مع الظلام الذي وجده.  ومن أول يوم في الخليقة صار الصباح بضيائه يتعقب المساء بعتمته على طول الخط.  
وقد جاء النور الحقيقي (المسيح) إلى العالم، والنور أضاء في الظلمة، لكن الظلمة لم تُدْرِكْه (يو 5:1) ولم تتأثر به، بل «أحب الناس الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة» (يو 19:3).

وقبل أن تمضي الظلمة نهائيًا توجد حربٌ مستمرة بين النور والظلمة.  وهذا نراه في داخل كل مؤمن حقيقي مولود من الله.  إنه الصراع بين الطبيعة القديمة والجديدة.  وفي العالم بصفة عامة بين أولاد الله وأولاد إبليس.  أولاد الله ضعفاء في ذواتهم ولكنهم أقوياء في الرب، أما أولاد إبليس فيعتدَّون بقوَّتهم الذاتية، ويُبغضون النور ويُحاربونه أينما وُجد لأنه يوبِّخ أعمالهم.

وفي تكوين 4 نقرأ لأول مرة عن هذا الصراع الذي تمثَّل في قايين وكراهيته لهابيل حتى الموت.  وهنا نجد دم هابيل الصدِّيق يُحدثنا عن حيرة تلازم الأتقياء في كل العصور، وهي ما يبدو للعيان نُصرة الشَّر على الخير، وصمت السماء.  هذه قصة متكررة تُظهر شراسة الأشرار ومعاناة واحتمال الأبرار طالما الأرض مُسلَّمة ليد الشِّرير.

إن قايين يُرَى في شكل وصورة العابد لله، مُقدِّمًا قُربانه لله من ثمر تعبه في الأرض، وهو مُتيقن أن الله حتمًا سيقبل هذا العمل.  لم يكن كافرًا أو مُلحدًا بل مُتدينًا مؤمنًا بوجود الله، وراغبًا أن يُقدِّم له قربانًا.  لكنه كان يجهل أو يتجاهل الشرخ الذي أحدثته الخطية بين الإنسان وخالقه.  ثم رفض الطريق الوحيد لاسترداد العلاقة الذي يُرضي مطاليب الله من خلال الذبيحة الدموية.  وإذ جاء بهذا التوجه إلى الله فكان رفض الله له هو النتيجة الحتمية.  وهذا حال كل المتدينين في كل العصور وإن اختلف الشكل.   

على العكس من ذلك نرى هابيل يقترب إلى الله ولكن ليس بعمل يديه بل بذبيحة طاهرة، بريئة لم تفعل خطية.  وكانت ذبيحة هابيل وليدة الإيمان.  فـ «بالإيمان قدَّم هابيل لله ذبيحةً أفضل من قايين.  فبه شُهِدَ له أنه بارٌ، إذ شهد الله لقرابينه» (عب 4:11).  هذه الذبيحة الدموية كانت بحسب ترتيب الله وإعلانه.  وهي ولا شك ترمز لذبيحة الابن الوحيد على الصليب.

ومن البدء ظهر في قصة هابيل أن ’’الشاهد‘‘ و’’الشهيد‘‘ كلاهما واحد.  وعلى ذات القياس فإن المُتدين طبقًا لأفكاره الخاصة هو نفسه القاتل والشرس.  ولهذا فإن قايين قد استاء واغتاظ من الشهادة التي شهد بها أخوه عن ذنب الإنسان واحتياجه إلى الكفَّارة، وطريق الله لرفع هذا الذنب، لأنها شهادة تطعنه في كبريائه الدينية.  إنها شهادة تكشفه كخاطئ عاجز عن خلاص نفسه.  والذي جعله يغتاظ أكثر هو شهادة الله نفسه لقبول هابيل وقربانه.  إذ في هذا يرى قايين أن الله يقبل الخطاة، ويرفض الأبرار نظيره.  وقد قال المسيح: «لم آتِ لأدعو أبرارًا بل خُطاةً إلى التوبة» (مت 13:9).  وهذا أغاظ الفريسيين لأنهم كانوا «واثقين بأنفسهم (أنهم أبرارٌ)، ويحتقرون الآخرين» (لو 9:18).

ومن ثم عبثًا حاول الله في غنى نعمته وصبره أن يُقنع قايين بأنه خاطئ يحتاج إلى توبة، ويحتاج من جانب الله إلى رحمة على أساس الذبيحة.  لكن هذا البار قام على هابيل أخيه وقتله ليتخلَّص منه ومن شهادته.
  وبعد أن ارتكب جريمة قتل بشعة، عبثًا حاول الله أن يستدرجه للاعتراف والتوبة.  فلم يبق له إلا أن يُمسَك مُتلبسًا بجريمته، ويواجَه بالتهمة، ويصدر عليه الحكم باللعنة والتشرد في أرض التيهان.

ومن الواضح جدًا منذ بدء التاريخ أن الديانة الجسدية تنتج إنسانًا وحشيًا.  وهذا ما ظهر في قايين ومَنْ ساروا على دربه.  ودائمًا «ليس الروحاني أولاً بل الحيواني، وبعد ذلك الروحاني» (1كو 46:15).  هذا ما نراه في قايين، وفي إسماعيل، وفي عيسو، ... إلخ.  
عندما ولدت حواء قايين ظنت أنه النسل الموعود، وكانت فخورة به، فقالت: «اقتنيتُ رجلاً من عند الرب» (تك 4).  لكن رجاءها وتوقعاتها قد خابت في قايين.  فسمَّت الابن الثاني «هابيل» أي ’’نفخة أو بُطل‘‘.

«كان هابيل راعيًا للغنم، وكان قايين عاملاً في الأرض» (تك 2:4).  وبينما قايين يُمثِّل القسوة والشراسة فإن هابيل يمثِّل العطف والرفق والحنان.  ويبقى السؤال: «ولماذا ذبحه؟» ما الذي عمله هابيل؟ لا شيء.  الجواب نجده في رسالة يوحنا الأولى أنه «كان قايين من الشِّرير»، وأن «أعماله كانت شريرةً، وأعمال أخيه بارةٌ» (1يو 12:3).
قايين وهابيل وُلِدَا خارج الجنَّة، ولم يكونا ابني آدم الطاهر البريء، بل آدم الساقط.  وقد دخلا إلى العالم بهذه الطبيعة الساقطة.  تعلَّم هابيل من أبيه أنه لا يمكن الدنو من الله والوقوف أمامه، ولا يمكن أن يكون مقبولاً ومرضيًا أمام الله إلا من خلال الذبيحة الدموية، وهي شيء خارج عنه تمامًا.  فقدَّم «من أبكار غنمه ومن سمانها» ذبيحة للرب.  لقد ذهب إلى حيث أقام الرب الإله شرقي جنة عدن، بين الكروبيم، ومَثَل في هذه الحضرة الإلهية بخشوع واتضاع شاعرًا بمذنوبيته، مؤمنًا وواثقًا في كفاية الذبيحة التي تجعله مقبولاً أمام الله.  وقد قبل الله ذبيحته، والأرجح أن ذلك من خلال نار نزلت من السماء وأكلت الذبيحة.  ومضى هابيل في طريقه فرحًا متأكدًا أن الله صار راضيًا عنه. 

هذا ما لم يحدث مع قايين الذي كان سبَّاقًا في تقديم قربانه، في ذات المكان، حيث يحل الله شرقي جنَّة عدن بين الكروبيم الذين يحرسون طريق شجرة الحياة.  فلم ينظر الله إلى قربانه ولا نظر إليه.  وهذا يؤكد أنه بدون الذبيحة لا قبول للإنسان أمام الله.  وكل صور التدين مرفوضة شكلاً وموضوعًا من الله طالما كانت من نتاج فكر الإنسان وعمله، بعيدة عن الطريق الذي حدَّده الله وهو الذبيحة، باعتبارها رمز لذبيحة المسيح في ملء الزمان في الجلجثة. 
«اغتاظ قايين جدًا وسقط وجهه».  ولا شيء يُثير غضب الإنسان الطبيعي أكثر من عدم التقدير لديانته.  حاجج الرب قايين بكل لُطف وحب موضحًا له سهولة تصحيح الموقف، فالذبيحة قريبة وفي متناول يده.  لقد أعطاه فرصة أخرى ليُحْسِن اختيار ما يُقدِّمه للرب ويحظى بالقبول، وفي هذه الحالة سيرفع وجهه مثل أخيه.  وأكد له مكانته وحقوقه وامتيازاته كالبِكْر، وأن هابيل يحبه ويحترمه ولن ينافسه في شيء.  كما حذَّره من أنه لو أصرَّ على موقفه الخاطئ وتمادَى في طريقه فهناك خطرٌ شديد يُحْدِق به، إذ أن الشيطان سيقوده إلى جريمة قتل، هي ليست بعيدة عنه.  فماذا فعل قايين؟
«كلَّم قايين أخاه.  وحدث إذ كانا في الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه وقتله» (تك 8:4).  لقد خرج من محضر الله، وسمع كلامًا من فمه، لكنه رفض المشورة وامتلأ غيظًا، وقاده الشيطان ليرتكب جريمة قتل.  وهل نستغرب بعد ذلك أن نرى نفس الشيء يتكرر، فيخرج مَنْ كانوا يُصَلُّون حالاً مُمتلئين بمشاعر الغضب العَارم ليُمارسوا كل صور العنف والشراسة! أين القلب الخاشع والضارع والمُرتعد من كلامه؟ لقد صارت الصلاة الجماعية مثار ذُعر للناس الآمنين وللأمن ذاته!

إن الخطية تتطور بالتدريج كما يقول الكتاب: «الشهوة إذا حبلت تلد خطيةً، والخطيةُ إذا كَمَلَتْ تُنتج موتًا» (يع 15:1).  وهذا ما حدث مع قايين.
من تلك اللحظة بدأ الصراع بين الشَّر والخير، وهو صراع مُمتدٌ طوال يوم البشر، ولن ينتهي إلا في الأبدية، في «يوم الله»، حيث السماوات الجديدة والأرض الجديدة التي يسكن فيها البر.  

ومن تلك اللحظة أيضًا بدأت طلائع الاستشهاد، فهابيل هو أول شهيد في تاريخ البشرية.  لقد كان هو الشاهد الأول لمبدأ الإيمان، والشهيد الأول لأجل البر.
وماذا كان موقف الله من قايين بعد أن قتل أخاه؟ لقد أتى إليه بكل الحب واللطف وتكلَّم معه مُعطيًا إيَّاه فرصة للاعتراف والتوبة، وكان على استعداد أن يصفح.  إنها مبادرة رحمة تليق بالله الذي هو «غنيٌّ في الرحمة».  لقد سأله سؤالين: «أين هابيل أخوك؟»، «ماذا فعلت؟»، فماذا كان جواب قايين؟ لقد قال: «لا أعلم! أحارسٌ أنا لأخي؟».  إنه لم يُظهر شعورًا بالندم أو الحزن على خطيته، بل تبجَّح في رده على الله الذي «لا يُشْمَخُ عليه».   

  رفض قايين مشورة الله واستهان بلطفه وإمهاله وطول أناته، فاستحق القضاء واللعنة، إذ قال له الله: «صوت دم أخيك صارخٌ إليَّ من الأرض. فالآن ملعونٌ أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك.  متى عملتَ الأرض لا تعود تُعطيك قوَّتها.  تائهًا وهاربًا تكون في الأرض» (تك 10:4-12). 

وهنا نقرأ عن أول إشارة للدم في الكتاب.  إنه دم البريء الذي سُفِكَ بواسطة الشِّرير.  وهو رمز لدم أفضل سُفِكَ بواسطة الأشرار، دم المسيح الذي لم يطلب الانتقام بل الغفران.  

ويلفت النظر أن قايين لم  يذرف دمعة واحدة على أخيه، ولم يشعر بالحزن أو الارتعاد.  إنه يذكرنا باليهود الذين قتلوا المسيح وصرخوا قائلين: «دمه علينا وعلى أولادنا».  وكما حُكم على قايين بالتشرد والتهيان، هكذا حُكم على اليهود بالتشتت في كل الأرض.

  طُرِدَ آدم من الجنَّة في عدن إلى الأرض في عدن، أما قايين فقد طُرِدَ من الأرض في عدن إلى أرض التيهان، «فسكن في أرض نود» التي تعني التيهان.  وهناك أراد أن يُسكِّن ضميره ويملأ فراغه بالماديات الحسيَّة، فخرج يركض في ميدان الأنشطة في كل المجالات مستقلاً عن الله، فبنى أول مدينة في الأرض ودعاها باسم ابنه «حنوك» لكي يشعر فيها بالأمان والاستقرار، ويضع فيها ما يجلب له السعادة الأرضية.  إنها تُمثل بداية العالم الذي يحفظ الإنسان بعيدًا عن الله.  وكان قايين هو أول الساكنين على الأرض، الذين يفتكرون في الأرضيات والذين نهايتهم الهلاك.
 


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com