عدد رقم 6 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إذا عُرفَ السبب... (5)  
تعلَّمنا في الحلقات الأربعة الماضية الكثير عن أسباب السقوط من عثرات مؤمنين في الكتاب المقدس.  وفي عددنا هذا نختم بأن نتعلم من ملكين تقيين في مملكة يهوذا لنضيف بعض الأسباب، ثم نأتي إلى الختام.

راسب في مادة تفوقه!!

كان آسا، ثالث ملوك مملكة يهوذا، من ذوي البداية الحسنة والإنجازات الروحية الطيبة ومن الحاصلين على تقرير “الأيزو” الإلهي «وَعَمِلَ آسَا مَا هُوَ صَالِحٌ وَمُسْتَقِيمٌ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ إِلهِهِ»، وصاحب الصلاة الشهيرة التي تعلن أفضل اتكال على الرب «أَيُّهَا الرَّبُّ، لَيْسَ فَرْقًا عِنْدَكَ أَنْ تُسَاعِدَ الْكَثِيرِينَ وَمَنْ لَيْسَ لَهُمْ قُوَّةٌ. فَسَاعِدْنَا أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُنَا لأَنَّنَا عَلَيْكَ اتَّكَلْنَا وَبِاسْمِكَ قَدُمْنَا عَلَى هذَا الْجَيْشِ. أَيُّهَا الرَّبُّ أَنْتَ إِلهُنَا. لاَ يَقْوَ عَلَيْكَ إِنْسَانٌ»، وعلى هذا الأساس الراسخ انتصر (اقرأ 2أخ 14؛ 15).  

على أن الحال لم يستمر هكذا بكل أسف!!

بعد سنوات من الانتصار التاريخي على جيش زارح، وقوامة مليون جندي مدججين بالمعدات الحربية، تعرض آسا لبعض المضايقات والمناوشات من جاره بعشا ملك إسرائيل (أرجو أن تقرأ القصة في 2أخ 16).   ولعلنا كنا نتوقع أن يلجأ لذات الملجأ الذي لا يخيب والذي على أساسه انتصر سابقًا.  لكن العجب أن هذا الذي لجأ للرب عند التحدي الرهيب، لجأ للبشر عندما كان الأمر أبسط بكثير!!  يتساءل رجل الله باستهجان «ألَمْ يَكُنِ الْكُوشِيُّونَ وَاللُّوبِيُّونَ جَيْشاً كَثِيراً بِمَرْكَبَاتٍ وَفُرْسَانٍ كَثِيرَةٍ جِدّاً؟  فَمِنْ أَجْلِ أَنَّكَ اسْتَنَدْتَ عَلَى الرَّبِّ دَفَعَهُمْ لِيَدِكَ».  ثم نسمع تقدير الله لفِعلة آسا «قَدْ حَمِقْتَ (تصرفت بحماقة) فِي هذَا».  ونرى الأمر يتدهور بآسا؛ فإذ به يرفض التوبيخ معاندًا الرب، ويضايق الشعب، ثم إذ يمرض مرضًا تأديبيًا يستمر معاندًا رافضًا الرجوع إلى الرب!

وفي اختصار، دعونا نلتقط بعض الدروس عن أسباب سقوطه:
* الاتكال على غير الرب، آفة كفيلة بتدمير حياة المؤمن.  فاتكالك على شخص ما، أو شيء ما، أو واسطة، أو حيلة، أو إمكانية، أو على أي شيء في نفسك؛ اتكالك على أي من هذه الأمور يعلن بشكل ما رفضك للحماية الإلهية، ومحاولتك نفض الستر الإلهي من فوقك، ومن يضمن النتائج عندئذ؟  هل تتوقع أن الرب يضع يده في يد متكلك الآخر ليتمم قصدك أنت؟!  أعتقد أنه لغو فارغ أن نفكر هكذا.

 * كثيرًا ما ننسى أن العدو لا يحاربنا في نقاط فشلنا فقط، بل أيضًا يحاربنا في نقاط انتصرنا فيها.  ولقد سقط آسا في نفس نقطة نجاحه السابقة؛ الاتكال على الرب.  لعلنا اعتدنا على أسلوب امتحان الفصل الدراسي “التيرم” الذي لا نعود لمذاكرة المادة التي نجحنا فيها ولا نمتحن فيها ثانية، وعمَّمناه ليس فقط على الدراسة بل أيضًا على حياتنا الروحية.  لكن علينا أن نَعي أنه في الحياة الروحية الدرس والامتحان قد يتكررا عدة مرات، وعلينا أن نظل مستعدين في كل المواد حتى “الامتحان النهائي” الذي بعده نغادر المدرسة نهائيًا حاملين شهادة النجاح إلى البيت الأبدي.

* المأساة الكبيرة أن آسا لكي يتمم خطته بالاعتماد على البشر أخرج فضة وذهبًا من خزائن بيت الرب ليدفع لمتكله ثمن اتكاله عليه.  وأستطيع أن أعبِّر عن هذا الأمر بلغة اليوم أن الاتكال على غير الرب يصاحبه تقديم تنازلات في أمور إلهية روحية.  وكما رأينا أن التنازل الواحد لا يفتأ يَجُرّ خلفه عشرات التنازلات بل مئاتها!

* وبالإضافة إلى ما تقدَّم، فقد خسر آسا فرص الانتصار على آرام مستقبلاً «مِنْ أَجْلِ أَنَّكَ اسْتَنَدْتَ عَلَى مَلِكِ أَرَامَ وَلَمْ تَسْتَنِدْ عَلَى الرَّبِّ إِلَهِكَ لِذَلِكَ قَدْ نَجَا جَيْشُ مَلِكِ أَرَامَ مِنْ يَدِكَ»، وهذا ما حدث تاريخيًا بالفعل.  وأي مُتَّكل نتكل عليه في الأغلب سيتحول يومًا إلى عدوٍ لنا، وإذ سبقنا واتكلنا عليه، فمن غير المتوقع أن نستطيع الانتصار عليه.

* وبالطبع نلحظ من جديد أثر رفض التوبيخ الذي قدَّمه حنَّاني، ومعنى اسمه “حنان الرب”، وهذا هو مصدر كل توبيخ يرسله الرب لنا.  يقول الحكيم « اَلْكَثِيرُ التَّوَبُّخِ، الْمُقَسِّي عُنُقَهُ (المعاند)، بَغْتَةً يُكَسَّرُ وَلاَ شِفَاءَ» (أم29: 1).

أخيرًا ليتنا لا ننسى هذا القول الكريم «لأَنَّ عَيْنَيِ الرَّبِّ تَجُولاَنِ فِي كُلِّ الأَرْضِ لِيَتَشَدَّدَ مَعَ الَّذِينَ قُلُوبُهُمْ كَامِلَةٌ نَحْوَهُ»، فليت قلوبنا بالكامل تكون نحوه، لا ترجو غيره، ولا تنتظر عداه، ففيه وحده كل كفايتنا، وتكثر أوجاع من أسرع وراء غيره.

خطأ العلاقة غير المباشرة

 يوآش مثال آخر.  لقد اختبر في بداية حياته صورة رمزية للخلاص، فقد كان في حكم الموت بأمر ملكة شريرة، لكن الله حفظه بفضل رجل تقي هو يهوياداع الكاهن. وعند ملكه بدأ حسنًا وصنع المستقيم في عيني الرب وأمورًا طيبة على رأسها تجديد بيت الرب؛ إلا أن نهايته – بكل أسف - لم تكن على المستوى ذاته حتى أنه مات مقتولاً على يد الأعداء بقضاء إلهي (اقرأ 2أخ 24).  فما الذي أحدره من قمة إلى قاع؟  تعالَ لنرى:

يقول الكتاب عنه «وَعَمِلَ يُوآشُ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ»، ورغم أن هذا التقرير رائع في حد ذاته ووسام على صدر من يناله، إلا أن الوحي يستدرك التقرير بجملة تكشف لنا الكثير إذ يقول إنه صنع المستقيم «كُلَّ أَيَّامِ يَهُويَادَاعَ الْكَاهِنِ»، ومن باقي القصة نعرف أن انحداره بدأ بعد موت يهوياداع.  كم كان دور يهوياداع عظيمًا حيويًا لازمًا في سني طفولة يوآش، لكن المشكلة، على ما يتضح من سرد القصة، أن يوآش استمر معتمدًا في علاقته بإلهه على يهوياداع، فلم تكن العلاقة مباشرة، بل من خلال شخص، يتلقى منه التوجيهات، ويتفهم من خلاله فقط أمور الله.  وما أن اختفى يهوياداع من حياة يوآش فقد سقط هذا الأخير سقوطًا مدويًا.  وفي حياة كل مؤمن منا يهوياداع؛ قد يكون أبًا تقيًا، أو أمًّا مُصلّية، أو شخصًا ربحه للمسيح، أو قائدًا روحيًا، أو اجتماعًا ناجحًا تعلمت فيه الحق، أو مجموعة من المؤمنين الأفاضل.  ولكل هذه الأمور، منفردة ومجتمعة، ضرورة في حياتي، سيما في بدايات معرفتي بالرب.  لكن الخطأ الكبير هو أن أبقى في هذا الوضع، لا اتصال شخصي مباشر بالرب، بل من خلال ما أسمعه وأتعلمه من يهوياداع.  فإذا ما سمح الرب باختفاء يهوياداع، وهذا يحدث بطرق كثيرة، كأن يسافر أحد الطرفين (يهوياداع أو يوآش) أو غير ذلك؛ فما أن يختفي يهوياداع من حياتي حتى أبدأ في السقوط.  أسألك يا عزيزي: لماذا نجح يوسف في أرض مصر ولم يسقط في خطية دبَّرتها بشرٍّ له امرأة شريرة؟  ولماذا نجح صموئيل الصبي في الهيكل ولم يسقط في خطايا بني عالي؟  ولماذا نجح دانيآل الفتى في بابل ولم يتنجس بنجاساتها وبقي العمر كله أمينًا لإلهه؟  علمًا بأنهم جميعًا نجحوا وهم في غربة عن كل من حولهم.  الإجابة، بلا شك، لأنهم كانوا من ذوي العلاقة المباشرة بالرب.  فليتك تقترب إلى سيدك المحب، القدير الحكيم، حافظك الذي لا ينعس ولا ينام، الذي لا يفارق لأي سبب، والذي وحده فيه السند.  هيا تعلم أن تقضي الوقت معه، أفرغ قلبك أمامه، واملأ ذهنك بكلامه، وتلقى تعليماتك منه؛ ففي هذا كل الضمان.

على أن هناك آفات أخرى كانت سبب سقوط يوآش؛ إذ نقرأ «وَبَعْدَ مَوْتِ يَهُويَادَاعَ جَاءَ رُؤَسَاءُ يَهُوذَا وَسَجَدُوا لِلْمَلِكِ. حِينَئِذٍ سَمِعَ الْمَلِكُ لَهُمْ.  وَتَرَكُوا بَيْتَ الرَّبِّ إِلهِ آبَائِهِمْ وَعَبَدُوا السَّوَارِيَ وَالأَصْنَامَ، فَكَانَ غَضَبٌ عَلَى يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ لأَجْلِ إِثْمِهِمْ هذَا».  لقد  قبل سجود رؤساء يهوذا له، فكانت النتيجة أنه هو نفسه قَبِلَ أن يسجد لآلهة غير الرب!!  لا تدع أحدًا يداعب الجسد فيك ويدغدغ كبرياءك، لا تنتشِ بالمديح ولا تطلبه، لا تستعذب استحسان الناس وكلمات الإعجاب؛ وإلا فالنتيجة أنك ستقع في ما يغضب الرب.  بل عند سماعك كلمات المديح والإعجاب، اذهب إلى محضر الرب، وقيِّم الأمور تقييمًا حياديًا منطقيًا واقعيًا، وضع نفسك في حجمها الطبيعي «تراب ورماد»، وانسب كل الفضل إلى مصدره الحقيقي: الله ونعمته.

سبب آخر نراه في الرسالة التي أرسلها الرب لهم «لِمَاذَا تَتَعَدَّوْنَ وَصَايَا الرَّبِّ فَلاَ تُفْلِحُونَ؟».  وأي نجاح لمن ترك كلمه الله جانبًا؟  صديقي اقرأ الكتاب المقدس على اعتبار أنه أوامر الملك، خذ كل كلمة ووصية وأمر وتحريض على أنه لك أنت شخصيًا وعلى أنه واجب التنفيذ دون أي مساومة.
ومرة أخرى نرى معاندًا للتوبيخ الأمين، وعوضًا عن أن يستمع يوآش لزكريا النبي، وهو بالمناسبة ابن يهوياداع الذي أنقذه وربّاه، أي أن زكريا في مكانة أخ له، لكن يوآش بدلاً من الاستماع لزكريا «رَجَمُوهُ بِحِجَارَةٍ بِأَمْرِ الْمَلِكِ فِي دَارِ بَيْتِ الرَّبِّ»، أخ يقتل أخاه في بيت الرب!!!  واسمع معي تقرير الروح القدس «وَلَمْ يَذْكُرْ يُوآشُ الْمَلِكُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي عَمِلَهُ يَهُويَادَاعُ أَبُوهُ مَعَهُ، بَلْ قَتَلَ ابْنَهُ»، فخيانة المعروف أمر لا يمُرّ على عيني الله، بل يسجِّله عنده، في الوحي!  وهكذا ليتنا ندرك دقة عيني إلهنا، وأن ما قد نراه نحن بسيطًا هو في الواقع مسجَّل عنه.  يختم الكتاب القصة المؤلمة أن زكريا «عِنْدَ مَوْتِهِ قَالَ: الرَّبُّ يَنْظُرُ وَيُطَالِبُ»، وقد كان.  فلنعلم أن هناك مطالبًا يتأنى لكن لا يبرئ إبراءً.

في الختام

 وصلنا لنهاية حديثنا عن أسباب السقوط، ليس لأن الأسباب انتهت - فيمكنك استنتاج الكثير من أحداث مشابهة - لكن لأننا لا ينبغي أن نبقى أكثر من ذلك في السقوط.  بل علينا أن نتحصن فلا نسقط، ونلتفت للبناء فنرتقي.

على أني في الختام أود أن أترك معك كلمات قليلة تلخِّص كل ما سبق وتكلمنا فيه.

 1- التصق بإلهك.  «الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقِي. إِيَّاهُ تَعْبُدُ، وَبِهِ تَلْتَصِقُ» (تث 10: 20).  لا ترضى بأقل من أن تكون في علاقة مباشرة معه، تلتقي معه كل يوم، تحكي معه كل الطريق.  لا تتبعه من بعيد بل استمتع بقربه.  اتكل عليه ودعك من سواه.

 2- ليكن لكلمة الله الدور الأعظم في حياتك.  اقرأها.  احفظها.  عش في نورها.  اعرف من خلالها وصايا الرب، وأطعها ففي ذلك خيرك.  تعلَّم الحكمة منها، فهي فطنتك.  دعها تكشفك أمام نفسك، ومن ثم تعالجك.  لا ترفض توبيخها لتصرفاتك، بِغضِّ النظر عن الشخص الذي وجَّهه لك طالما أنها كلمة الله، بل اتضع أمامها لترفعك.  ولا تقدِّم تنازلات عن الحق الذي تتعلمه منها مطلقًا.

3- تذكَّر أن لحياتك هدفًا عظيمًا خطَّه الله «مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا» (أف2: 10).  فلا تضيّع حياتك في هباء، لا تهدر طاقاتك بالكسل، ولا تدع أوقات الفراغ تفرِّغ حياتك من معناها.  تذكَّر أن حياتنا ليست ملعبًا، بل هي ساحة معركة مع عدو الخير.  فهيا لتأخذ موقعك ولتتمم دورك لمجد الله.

 4- احكم على نفسك الحكم الصحيح.  لا تقدِّر ذاتك كثيرًا، «لأَنَّهُ إِنْ ظَنَّ أَحَدٌ أَنَّهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ شَيْئًا، فَإِنَّهُ يَغُشُّ نَفْسَهُ» (غل6: 3).  لا تعطِ لرغباتك الأولوية في حياتك.  دعك من تدليلك لنفسك والرثاء لها، بل ضعها في مكانها الصحيح: حكم الموت.  عِش عمليًا القول «مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ» (غل2: 20).

 5- احذر ما بعد الانتصار.  حين يكرمك الرب وتنتصر في مجال روحي، أو يستخدمك استخدامًا خاصًا، فتحذَّر.  بدلاً من أن تسمح للشيطان أن يستغِل تلك النقطة في مداعبة كبريائك، عُدْ إلى محضر الله وأعِد تقييم الأمور هناك، ولا تترك نفسك تخدعك.  تحذر من خطورة ما بعد الانتصار.  ولا تنس أن ما انتصرت فيه عرضة لأن يعود العدو فيحاربك فيه.

أخيرًا أستودعك لذلك الكريم المنعم «الْقَادِرُ أَنْ يَحْفَظَكُمْ غَيْرَ عَاثِرِينَ، وَيُوقِفَكُمْ أَمَامَ مَجْدِهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي الابْتِهَاجِ، الإِلهُ الْحَكِيمُ الْوَحِيدُ مُخَلِّصُنَا، لَهُ الْمَجْدُ وَالْعَظَمَةُ وَالْقُدْرَةُ وَالسُّلْطَانُ، الآنَ وَإِلَى كُلِّ الدُّهُورِ. آمِينَ» (يه 24، 25).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com