عدد رقم 1 لسنة 2020
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
إنَّنا راحِلونَ  

«قالَ موسَى لحوبابَ بنِ رَعوئيلَ المِديانيِّ حَمي موسَى: إنَّنا راحِلونَ إلَى المَكانِ الّذي قالَ الرَّبُّ أُعطيكُمْ إيّاهُ.  اِذهَبْ معنا فنُحسِنَ إلَيكَ، لأنَّ الرَّبَّ قد تكلَّمَ عن إسرائيلَ بالإحسانِ» (عد10: 29).

كانت البرية بالنسبة لموسى هي «القَفْرِ العَظِيمِ المَخُوفِ، مَكَانِ حَيَّاتٍ مُحْرِقَةٍ وَعَقَارِبَ وَعَطَشٍ حَيْثُ ليْسَ مَاءٌ» (تث8: 15).  وفي تثنية 32 يصفها بأنها «خَلاءٍ مُسْتَوْحِشٍ خَرِبٍ» (تث32: 10).  إنما كان قلبه يصبو إلى الأرض التي وعدهم بها الرب.  أيها الأحباء لنتذكر أننا راحلون فلا نسمح لقلوبنا أن تتعلق بما فيها، أو نضع رجائنا في أي شيء عليها، لأننا لسنا من هذا العالم كما قال ربنا.  عندما قرأ الناس يوميات ”كريستوفر كولمبس“ الرحالة الشهير، كانوا يتوقعون أن يركز في مذكراته اليومية على العواصف الشديدة أو الليل الرهيب أو أمواج البحار الهائجة، لكن وجدوا أن العبارة الأكثر تكرارًا في كتاباته هي العبارة الآتية: ”مضى الليل، وأتى يوم جديد، وما زلنا نواصل الارتحال“؛ ”أشرقت الشمس، وها نحن نواصل الارتحال“.  أحبائي ليحدث ما يحدث حولنا ... إنَّنا راحِلونَ!  أمجاد السماء، وأشواق اللقاء، تجذبنا يوم بعد الآخر نحو وجهتنا الحقيقية السامية.

أيديولوجية المؤمن المتغرب:

  إن كان شخص يعيش بمقتضى مجموعة من الأفكار التي تحكم قراراته وتوجهاته وتقييمه للأمور، ونظرته للعالم من حوله، فهو شخص يعيش تحت تأثير أيديولوجية محددة.  وفي ضوء ذلك نجد أن المؤمن الذي يسلك بأيديولوجية كائن سماوي متغرب على الأرض؛ يُقيِّم كل شيء في الحياة على الارض بمقاييس السماء، ويزن الأمور بموازين الله.  كل شيء يراه في حجمه الصحيح، وقيمته الصحيحة، في ضوء الابدية. 

 المؤمن الذي يعيش كالغريب، مدرك أنه الآن يعيش في مجال اسمه الزمان، وفي مكان محدد، لكنه يعلم علم اليقين أنه ستأتيه لحظة - لا يدري متى - سينطلق فيها من مجال الزمان، وحيز المكان، ويكون في المقر الأبدي السعيد.  يا له من شعور مريح وفكر معزي وأمر مشوِّق!  إن الحياة الحقيقية ليست هنا.  إن الحياة في الزمان رحلة لها بداية ونهاية، وهي تصطبغ بالآلام والضعف والنقص والمحدودية.  أما الحياة في السماء فلا نهاية لها، ولا توجد مفردات في اللغة تصف عظمتها ومجدها.  ما يعزينا أن رحلة غربتنا تميزها الأمور التالية:

(1) رحلة تغرب مؤقتة:

الصفة التي اتصف بها مؤمني العهد القديم والجديد أنهم غرباء ونزلاء. ”غرباء“ أي بعيدون عن الوطن الذين وُعدوا به، ويتطلعون بشوق إليه.  لكن فترة الغربة قصيرة نسبيًا لذلك يوصفوا بأنهم ”نزلاء“.  «فِي الإِيمَانِ مَاتَ هؤُلاَءِ أَجْمَعُونَ، وَهُمْ لَمْ يَنَالُوا الْمَوَاعِيدَ، بَلْ مِنْ بَعِيدٍ نَظَرُوهَا وَصَدَّقُوهَا وَحَيُّوهَا، وَأَقَرُّوا بِأَنَّهُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عَلَى الأَرْضِ» (عب11: 13)، «لأَنِّي أَنَا غَرِيبٌ عِنْدَكَ.  نَزِيلٌ مِثْلُ جَمِيعِ آبَائِي» (مز 39: 12)، «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ، أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ الشَّهَوَاتِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تُحَارِبُ النَّفْسَ» (1بط2: 11).

مع أن إبراهيم كان لديه من الممتلكات ما يجعله من أثرياء جيله، ويمكنه أن يعيش في قصر فاخر، لكنه سكن في خيمة لأنه كان يتطلع إلى ما هو أعظم وأبقى «بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ، مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهَذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ.  لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ» (عب11: 9، 10).

وأمثال هؤلاء الأتقياء لا يجذبهم بريق هذا العالم الزائل لأنهم يعلمون حقاً ثمينًا له وجهين، أولاً أنه ينتظرهم وطنًا أفضل في السماء.  ثانيًا: أن هذا العالم المادي مصيره الزوال، لذلك يستعملونه دون أن يكون له في قلوبهم مكانًا «الَّذِينَ يَبْكُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَبْكُونَ، وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَفْرَحُونَ، وَالَّذِينَ يَشْتَرُونَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَمْلِكُونَ، وَالَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ هَذَا الْعَالَمَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَهُ.  لأَنَّ هَيْئَةَ هَذَا الْعَالَمِ تَزُولُ» (1كو7: 30، 31).   

(2) رحلة تغرب في خوف الرب:

ما أحلى وأسمى حياة الغريب!  بقدر ما ندرك أننا غرباء ونزلاء، بقدر ما نسلك بالتقوى وخوف الرب في زمان الغربة.  المؤمنون المتغربون يسلكون في نور الأبدية، ويتعففوا عما هو أرضي: أي أن تكون توجهات قلوبهم توافق سيرتهم ( جنسيتهم) السماوية.  رجاء وصولهم اليقيني إلى هذا الوطن المجيد يستلزم أن يسلكوا سلوكًا يتوافق مع دعوتهم السماوية، ويعينهم أن ينفصلوا عن الشر الذي في العالم، ومبادئ العالم التي يستقونها من رئيس نظام هذا العالم؛ إبليس.  لكنه لا يعلمهم الانعزال عن الناس؛ سواء كانوا زملاء، جيران، مسئولين في مناصب الدولة ... إلخ.  بل وجب عليهم أن يقوموا بواجباتهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه، بأكثر أمانة وإخلاص، لأن قصد الرب أن يكون المؤمنون في العالم، ليضيئوا بين الناس كأنوار.  عندما يتقدسون للرب، ويفرحون في الرجاء، ويتعزون في ضيقهم، سيأتي الناس ويسألونهم عن سر اختلافهم، وعن سبب الرجاء الذي فيهم، وبذلك يكونون شهود أمناء للرب في العالم، كما فعل هو قبلهم. 

(3) رحلة تغرب تهونها المحبة الأخوية:

نفس الرسالة التي تُكلّمنا عن المؤمنين كغرباء؛ رسالة بطرس الأولى، والتي يُمكن ان نُسميها ”رسالة الغربة“، هي أكثر الرسائل التي تحثنا على المحبة الأخوية.  صحيح أن المؤمن غريب في العالم، لكن له إخوة؛ المؤمنون في عائلة الله، يسيرون معه في ذات الرحلة، رحلة الغربة، ويبتغون ذلك الوطن الأفضل في السماء.

·          الأصحاح الأول نرى فيه كيفية المحبة الأخوية: «طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ لِلْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ الْعَدِيمَةِ الرِّيَاءِ، فَأَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا مِنْ قَلْبٍ طَاهِرٍ بِشِدَّةٍ» (1بط1: 22).

·          الأصحاح الثاني نرى فيه إلزامية المحبة الأخوية: «أَكْرِمُوا الْجَمِيعَ. أَحِبُّوا الإِخْوَةَ.  خَافُوا اللهَ.  أَكْرِمُوا الْمَلِكَ» ( 1بط2: 17)

·          الأصحاح الثالث نرى فيه دلائل المحبة الأخوية: «النِّهَايَةُ، كُونُوا جَمِيعًا مُتَّحِدِي الرَّأْيِ بِحِسٍّ وَاحِدٍ، ذَوِي مَحَبَّةٍ أَخَوِيَّةٍ، مُشْفِقِينَ، لُطَفَاءَ، غَيْرَ مُجَازِينَ عَنْ شَرّ بِشَرّ أَوْ عَنْ شَتِيمَةٍ بِشَتِيمَةٍ، بَلْ بِالْعَكْسِ مُبَارِكِينَ، عَالِمِينَ أَنَّكُمْ لِهذَا دُعِيتُمْ لِكَيْ تَرِثُوا بَرَكَةً» (1بط3: 8، 9).

·          الأصحاح الرابع نرى فيه أولوية المحبة الأخوية: «لكِنْ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، لِتَكُنْ مَحَبَّتُكُمْ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ شَدِيدَةً، لأَنَّ الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا» (1بط 4: 8).

(4) رحلة تغرب مدعمة بموارد النعمة:

من أكاذيب الشيطان التي يقنع بها الناس أن الله يريد أن يحرم المؤمنين من كل خيرات الزمان وملذاته، وأن كل شيء مُمتع في خليقة الله لا نصيب للمؤمن فيه.  أي أن المؤمنين المتغربين هم مؤمنون ”مكتئبون“.  هذا غير صحيح على الإطلاق.  فالمؤمن المُتغرب يتمتع بكل ما خلقه الله ليتمتع به الانسان، لكنه يتلذذ بها عندما ينالها من قنواتها المشروعة ولا يختلسها أبدًا.  من آيتين نفهم حق هام: «الَّذِي يَمْنَحُنَا كُلَّ شَيْءٍ بِغِنًى لِلتَّمَتُّعِ» (1تي 6: 17)، «اَلَّذِي لَمْ يُشْفِقْ عَلَى ابْنِهِ، بَلْ بَذَلَهُ لأَجْلِنَا أَجْمَعِينَ، كَيْفَ لاَ يَهَبُنَا أَيْضًا مَعَهُ كُلَّ شَيْءٍ؟» (رو8: 32)؛ نفهم أن الله وهبنا كل شيء بغنى (بوفرة وليس بشح) لكي نتمتع به، لكن التمتع يأتي بالارتباط بشخصه، فمعه يكون للأشياء مذاق مُلذ للمؤمن، وعلى العكس نجد أنه بالاستقلال عنه لا طعم ولا معنى لأي شيء، من خيرات وملذات الزمان.

(5) رحلة تغرب تختم بالعودة للوطن:

موسى كان يعلم الوجهة التي يقصدونها؛ إنها «المَكانِ الّذي قالَ الرَّبُّ أُعطيكُمْ إيّاهُ».  إنها رحلة مبنية على وعد عظيم من شخص عظيم؛ أمين في أقواله، وقدير في أفعاله.  كذلك نحن أيضًا، نعلم وجهتنا الأخيرة بعد انتهاء الرحلة « فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنْتَظِرُ مُخَلِّصًا هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ » (في3: 20).  كثير من الناس يفتخرون بحصولهم على جنسيات لدول متقدمة، والتي يسمونها دول العالم الأول، التي تتميز بالازدهار الاقتصادي، ومظاهر الرقي والحضارة، وكل وسائل الرفاهية.  أما المؤمنون بالمسيح فقد حصلوا على جنسية أرقى بما لا يُقاس، إذ أصبحت السماء هي وطنهم، وما هم إلا غرباء عابرين على الأرض، في طريقهم إلى الوطن السماوي.  هذا الأمر له أثره العميق والمباشر على حالة المؤمنين المتطلعين للسماء، والمنتظرين تحقيق رجائهم.

إننا راحلون ومصيرنا ويقيننا أننا يومًا سنكون مع الرب في السماء، سواء انتهت الحياة بالرقاد أو بالاختطاف.  لكننا لا نرجو الرقاد بل نترجى أن يجيء الرب ويلتقي بنا في لقاء بهي مجيد على السحاب، مع الراقدين الذين أقامهم قبيل اختطافنا، ثم يأخذنا جميعًا إلى بيت الآب، ونكون كل حين مع الرب.  يا له من رجاء معزي وطيب لقلوبنا جدًا!

لا بُدَّ يَوْمًا تَنْتَهِي
وَعِنْدَ ذَا مَعْ سَيِّدِي


 

فِي ذِي الدِّيَارِ غُرْبَتِي
أُوجَدُ يَا لَبَهْجَتِي

أيمن يوسف


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com