عدد رقم 1 لسنة 2020
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
مَنْ هو الله؟  


منذ القدم وقف الإنسان مذهولاً بالظواهر الطبيعية.  رأى فيها جلالاً وقوة وعظمة وابداعًا.  بهرت الظواهر الطبيعية الإنسان إلى درجة أنه خرّ أمامها وسجد لها.  عبد الإنسان القمر والشمس والشجر والحيوان والكواكب وارواح الاجداد.  خلق أساطير، روى من خلالها قصة الخلق، فابتدع آلهة مثله؛ تُولد وتحيا، وتتزوج وتلد، وتأكل وتشرب، وتتقاتل حتى أنها تموت.  من هنا كان ”زوس“ رئيس الآلهة الإغريق، فيما ”جوبيتر“ هو رئيس آلهة روما، و”إيل“ رئيس آلهة كنعان، و”رع“ رئيس آلهة مصر وإله الشمس.

لم يختلف الحال كثيرًا في الكثير من بقاع الارض.  كانت الهند تسير في ركاب تعدد الآلهة التي وصل تعدادها في بعض الاحيان في الى مئات الآلاف، وحسب بعض المصادر الملايين.  من هذا البحر الهندوسي غرف ”سيدارتا غوتاما“، المعروف بـ”بوذا“، لتصل تعاليمه الى الصين، باحثًا عن التطور الروحي، واكتشاف جوهر الحياة والتنوير.  في حقبة قربية منها علّم ايضًا ”كونفوشيوس“ الذي يُعتبر متأملاً وباحثًا ومُعلمًا، أكثر منه نبيًا.

وسط هذا التزاحم الديني والتشتت الروحي، كانت يد الله تخط بصمت «فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ» (تك1: 1).  لم تكن هذه العبارة تشبه أيا من سابقاتها، كما أن الله الذي يُكلمنا من خلال هذه الآية لم يكن يشبه أيا من آلهة تلك الشعوب.  كان ”زوس وجوبيتر ورا وإيل“ يشبهون البشر بكل ما للكلمة من معنى.  كانوا يأكلون مثلنا، ويتزاوجون، وتنتابهم المشاعر التي تنتابنا مثل الكراهية والحسد والحب والقلق والخوف والجوع والعطش.  كانوا يتقاتلون ويجمعون جيوشًا من الآلهة لمحاربة بعضهم البعض.  كانت تنتابهم نوبات جنون وغضب وهستيريا.  كان حب السلطة والقوة والجشع والجنس يحركهم.  لم يكونوا مثل الله الذي عرفناه في كتابنا المقدس.  إلهنا واحد أوحد، وليس واحدًا من كثيرين. هو روح (يو4: 24)، والروح لا يأكل ويشرب ويتزاوج ويتناسل.  «ليْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ» (عد23: 19)، بل هو القوي اللامتناهي في قوته وجبروته «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ، وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظُّلْمَةِ، وَالظُّلْمَةُ لَمْ تُدْرِكْهُ» (يو1: 4، 5).  هذا الإله الذي عرّفنا بنفسه في سفر التكوين، لحظة الخلق، عاد وكشف نفسه لنا أكثر في إنجيل يوحنا؛ هو الكلمة: «فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ ... وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يو1: 1، 14).

فكر الكتاب المقدس عن الله يمشي عكس التيار، ولا يشبه أي فكر آخر قبله ولا بعده.  فآلهة الشعوب القديمة لم تكن فقط تشبه الناس بتصرفاتها، لا بل هي ايضًا لم تكن صديقة الإنسان، إنما في أحيان كثيرة هي عدوته.  تقول الأسطورة السومرية أن الآلهة الأقل شأنًا أُنهكت بعد خلق العالم، ولم تكن ترغب بالعمل والحصاد.  فاشتكت الى ”ناما“؛ الإله الأم.  استدعت ”ناما“ ابنها ”أنكى“؛ إله الحكمة، وطلبت منه إيجاد بديل لإراحة الآلهة.  جبلت ”ناما“ بعض الطين، ووضعته في أحشائها، وهكذا خلق الناس الأوائل.  وهكذا أصبح الإنسان مخلوقًا للعبودية، الهدف من وجوده خدمة الآلهة، والعمل بدلاً عنها!  إلا أن إلهنا مختلف تمامًا.  الله يعمل من الأزل.  لم يحتج لخلق إنسان كيما يريحه من عمله.  قال يسوع لليهود: «أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ» (يو5: 17).  وضع الله لنا مثالاً في ذاته، كيما نقتدي به.  في الأيام الستة الأولى خلق الله السماوات والارض بكل ما فيها من نبات وحيوان ونور وهواء، وكلَّلها بالإنسان «فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ.  عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ.  ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ» (تك1: 27).

كانت آلهة الشعوب القديمة عشوائية في تفكيرها وتصرفاتها ونزواتها.  لم يكن الإنسان يعني لها شيئًا.  كانت أنانية ولا تحب سوى ذاتها.  عندما سرق ”بروميثوس“ - الجبار الإغريقي - شعلة النار من “زوس“، وأعطاها للانسان، غضب ”زوس“ منه وربطه الى صخرة، وجعل نسرًا يأكل أحشاءه كل يوم، بعد أن كان كبده يتعافى ويسترد حجمه الطبيعي ليلاً.  على عكس ”زوس“؛ الله يحب الإنسان، ويُعطيه مما لديه.  لذته مع بني آدم (أم8: 31).  الله هو مَن أعطى الحياة للإنسان «وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ.  فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً» (تك2: 7)، «فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ، وَالْحَيَاةُ كَانَتْ نُورَ النَّاسِ» (يو1: 4).

لم يخش الله على نفسه من الإنسان، بل أراد له التقدم والمعرفة والنجاح «وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ» (تك1: 28).  أحب الله الانسان كما يحب الأب أبناءه.  وبدورنا «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1يو4: 19).  «وَمَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ» هكذا يعلن لنا الرب في إرميا 31: 3.  وتتجلى محبة الله لنا «لأَنَّهُ هَكَذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يو3: 16).  عندما اقتاد إبراهيم ابنه إسحاق لكي يُقدّمه ذبيحة لله، عربونًا عن حبه له، قال له الله: ”لست أنت مَن يُعطيني ابنه، بل أنا هو مَن يُعطيك ابنه وحيده، كيما تحصل على الحياة الأبدية“.

إن الله محبة، والمحبة هي جوهر الله، وهو يريدنا أن نحيا معه للأبد.  عمل الخلق بالنسبة له هو عمل محبة.  لم يخلق الانسان كيما يكون عبدًا له، يُريحه من أتعابه ومشقاته، إنما خلقه كيما يُشاركه صفاته، جوهره وحياته «فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ.  عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ.  ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ» (تك1: 27).  عندما يحب رجل امرأة يحلم كلاهما بعائلة يكون الأطفال فيها مشابهين لهما.  يشارك الوالدان أطفالهم بما لهما.  يُعطيانهم أحيانًا أكثر مما يعطيان أنفسهما.  يُضحيان في سبيلهم، ولا يرجوان منهم تعويضًا ماليًا أو معنويًا على حبهما لهم.  إنما كل ما يطلبانه منهم هو أن يبادلوهما الحب بالحب.

خلال المائة عاما المنصرمة، تخلى الكثير من الغرب عن إيمانه المسيحي، ولكي يملأ فراغه الروحي، اتجه الكثير من الناس الى روحانيات الشرق بما فيها الهندوسية والبوذية.  نمت في الغرب حركات روحية شرقية كثيرة منها فلسفة العصر الجديد (New Age)، أو كنيسة العلوم (The church of scientology)، فيما سلك آخرون طريق العلم الذي قادهم إلى الإلحاد والمادية البحتة التي تقول إنه لا وجود لأي كائن او شيء خارج إطار العالم المادي الذي نعرفه.  أما بالنسبة لنا نحن المؤمنين، فإننا نختبر عمل الله في حياتنا كل يوم.  نختبر حبه وعطاءه اللامتناهي.  نرى فيه التفسير المنطقي الوحيد لوجودنا ووجود الكون.  نتمتع بصلاحه اللامحدود.  نتحد به بروحه القدوس.  نقف مذهولين أمام ذبيحة ابنه على الصليب.  نخر له مع النساء والتلاميذ عند قيامته.  نرجو اللقاء القريب معه، ونهتف مع الروح والعروس قائلين: «آمِينَ.  تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ»

توني سماحة

 

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com