عدد رقم 6 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
نفس الإنسان  

مكان طعم الحياة وجاذبيتها

منطقة الإغواء والخداع

عرفنا سابقًا التركيب الثلاثي للإنسان؛ روح ونفس وجسد، ورأينا أن الجسد هو الغلاف الخارجي الذي يحوي بقية مكونات الإنسان في داخله طالما هنا على الأرض.  وهذا الجسد هو الذي من خلال انطباعاته وتفاعلاته وتحركاته يُعبِّر الإنسان عن نفسه.

النفس واحدة من أهم مكونات الإنسان، والتي تلعب دورًا كبيرًا في نوعية حياته التي يعيشها؛ في طعمها وفى حالته المزاجية.  وتؤثر كثيرًا على قراراته، وكثيرًا ما تحدد مستقبله الزمنى، بل وتؤثر أيضًا على مصيره الأبدي.

النفس: ما هي؟  وما دورها؟

ما الذي يدفع هذه التعبيرات إلى الجسد، ويجعله جسدًا معبرًا؟  ما الذي يجعلنا نعرف هل هذا الشخص فرحان أم حزين!  يحب أم يكره ... إلخ؟  ما الذي يجعل هذا الجسد ليس جامدًا بل مُعبِّرًا؟  إنها النفس.  النفس هي الجزء المُعبِّر - بداخل الإنسان - عن أحاسيسه ومشاعره وتفاعلاته وردود أفعاله، وهي تدفع هذا التعبير إلى الجسد فنرى: ابتسامات الفرح، تكشيرات الرفض، دموع الحزن، تحفز الغضب، حمرة الخجل ... إلخ. هي الحيوية التي تسري في كيان الإنسان وتظهر من خلال جسده وتعبر عما بداخله.

كلمة ”نْفْس“ مشتقة من كلمة ”نَفَس“ والتي تعنى النشاط غير المنظور المعبر عن الحياة.  وكما أن نَفَس الإنسان غير منظور ولكن وجوده يعبر عن أن الجسد تسري فيه الحياة، كذلك نْفْس الإنسان هي النشاط غير المنظور الذي يدفع تعبيرات الحياة إلى كيانه ويعبر عن حيوية هذا الكائن.

النفس هي ما صاره الإنسان، أو ما يُعبِّر عنه، بعدما نفخ الله في أنفه نسمة حياة «جَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ.  فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً» (تك2: 7).  هي التي تُخرجه من حالة الجمود والسكون، إلى الحيوية والحركة والتفاعلات.

لو كان الإنسان روحًا وجسدًا فقط، بدون النفس، لأصبح مثل الروبوت الذي يؤدى وظائف مفيدة، وقد تكون مفهومة، لكنها بلا حيوية ولا طعم بل جامدة غير معبرة.

ربما يكون أقرب شيء لها بحسب العلوم النفسية هي شخصية الإنسان.  أحيانًا يطلق على ذات الإنسان كله كلمة ”نفس“ «أَقُولُ لِنَفْسِي: يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!» (لو12: 19)، باعتبار أن الروح لا تُرى، والجسد بدون النفس جامد غير مُعبِّر.  والنفس هنا مُعبِّرة عن الكيان الإنساني كله.

ولأنها المكان الذي به يتذوق الإنسان الحياة، لذلك تحوي العواطف والغرائز.  هي مكان الأحاسيس والمشاعر. مكان الجاذبية والنفور.  مكان الإغواء والخداع في الإنسان.  لكنها ليست مصدر هذه العواطف، أو سبب صحة أو سلامة هذه المشاعر المختلفة.  هي المكان الذي يُحدد أن هذا الشيء حلو أم مر، جذاب أم منفر.  لكنها لا تحدد لي هل هذا الأمر الحلو صح أم خطأ، بنّاء أم هدّام، مفيد أم مؤذٍ.  لا تقول لي لماذا هو حلو، هي فقط تحدّد الطَعم.

النفس ونوعية الحياة:

النفس جزء من تركيب كل الكائنات الحية. كل ما فيه حياة، سواء إنسان أم حيوان. ويقال عن كل منهم: «نَفْسًا حَيَّةً» (تك1: 20؛ 2: 7، 19).  ونفس الكائن الحي هي التعبير عن نوعية حياة هذا الكائن.

نفس الحيوان هي التعبير عن حياته الحيوانية، وهو يتكون من جسد ونفس فقط، ليس فيه روح.  وقد أُعطيت له هذه الحياة بناءً على أمر إلهي: «وَقَالَ اللهُ: لِتُخْرِجِ الأَرْضُ ذَوَاتِ أَنْفُسٍ حَيَّةٍ كَجِنْسِهَا: بَهَائِمَ وَدَبَّابَاتٍ وَوُحُوشَ أَرْضٍ كَأَجْنَاسِهَا.  وَكَانَ كَذَلِكَ» (تك1: 24).  فجسد الحيوان يجوع، وله نفس حية تشعره بالاحتياج للأكل، وفى النفس الحية غرائز تجعله يبحث عن وسيلة لإشباع جوعه.

ونفس الإنسان أيضًا هي التعبير عن حياته الإنسانية، وهي لم تعط له بناء على أمر إلهي فقط مثل الحيوانات، بل عندما نفخ الله في أنفه نسمة حياة، فاستودع فيه الروح «وَلَكِنَّ فِي النَّاسِ رُوحًا، وَنَسَمَةُ الْقَدِيرِ تُعَقِّلُهُمْ» (أي32: 8)، فصار هذا الكائن إنسانًا مُعبِّرًا «نَفْسًا حَيَّةً»، يتكون من روح ونفس وجسد (1تس5: 23)، ونوعية حياته أُعطيت بدخول الروح فيه، والتعبير عنها هو من خلال النفس.  فالنفس في الإنسان مرتبطة بالروح الإنسانية.

النفس وحالة البراءة:

قبل السقوط ودخول الخطية كان الإنسان «نَفْسًا حَيَّةً» تُعبِّر عن حياة إنسانية بريئة، تحوي العواطف والغرائز البريئة، وتتذوق السلام، والفرح، والرقة والعطف.  ليس هناك حزن أو ما يُسبّبه، ولا خوف أو ما يُخيف.  كانت النفس تحوي كل العواطف الإيجابية.  لم تكن هناك عواطف الحزن، أو الخوف أو الخجل «وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ» (تك2: 25).  كما كانت النفس تحوي الغرائز لإشباع الاحتياجات الضرورية مثل الأكل والشرب «مِنْ جَمِيعِ شَجَرِ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ أَكْلاً» (تك2: 16)، أو الغريزة الجنسية «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ» (تك1: 28)، ولم تكن هذه الاحتياجات قد تحولت إلى رغبات جامحة.

كان الإنسان كائنًا روحيًا له نفس معبرة عنه (الملائكة كائنات روحية فقط)، وكان بروحه في إدراك واعٍ للأشياء الإيجابية الصحيحة، ولوجود الله، وأن الله الخالق له السلطة العليا التي يخضع لها الإنسان.  وكان يستمتع بالخضوع لله وبالوجود في حضرته بنفسه، أي نفس تابعه للإدراك الصحيح في روح الإنسان، لأن الروح مركز الإدراك؛ نفس تستمتع بما يعرف بروحه أنه صحيح. هذه هي ”نَفْسًا حَيَّةً قبل السقوط“.

لكن ماذا فعل السقوط في النفس البشرية؟  هذا ما سنعرفه في العدد القادم إن شاء الرب.


 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com