عدد رقم 2 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
بين هِجرتين 2  


o         ها أنا عدت لألتقي حضرتك من جديد، وفي ذهني كلامك الهام عن هجرتك الأولى التي اختبرتها وكانت في تمام مشيئة الله.

Å      وأنا سعيد أيضًا بالالتقاء بك مجددًا، وأتمنى أن تعتبر مما حدث معي.

o         بالطبع سأفعل، ولكنني تذكرت أن حضرتك أخبرتني، أنك جربت الهجرة مرة ثانية، ولكن كانت على النقيض من المرة الأولى، فكيف حدث هذا؟!

Å      الحقيقة أنها كانت ”هجرة مُرة جدًا“ على أقل وصف، وهي لم تبعد زمنيًا عن هجرتي الأولى من أرض مولدي في أور الكلدانيين[1] إلى الأرض التي كان الله مزمع أن يورِّثها لي ولنسلي من بعدي.

o         شوقتني لأعرف التفاصيل.

Å      ها هي إذًا، بعد أن سكنت في أرض كنعان، حدث جوع شديد في المكان، فقررت أن أنزل إلى الجنوب حيث أرض مصر، مع زوجتي وابن أخي لوط وكل ماليَّ، وكان من أسوأ قرارات حياتي.

o         ولكن حضرتك كنت مضطرًا لذلك، فهل كان الله يريدك أن تموت في أرض كنعان هذه؟ أليست الظروف التي دفعتك لهذه الهجرة؟!

Å      الأمر ليس كما تظن يا ابني، ولكنه كان خطأً جسيمًا مني، ليس فقط لأني لم أنتظر أمر صريح من الرب لكي أنزل إلى مصر، ولكن لعدم إيماني به، فكان علىَّ أن أثق في قدرته على استحيائي حتى في الجوع[2]، وطالما هو من وعدني بنسل في غربتي، فهو قادر أن يحفظ حياتي وحياة أسرتي في الأرض التي أوجدني فيها؛ فالظروف لا تكفي لتكون سببًا وحيدًا للهجرة.

o         يا له من درس عميق لم أفكر فيه من قبل، ولكن هل توقف حجم الخطأ في هذه الهجرة على دافعك الخاطئ لها بفعل الظروف؟

Å      الحقيقة لا، ولكن الخطأ الأول جرني لسلسة أخطاء أخرى أكبر، أو كما تقولون أنتم ما بُني على باطل فهو باطل.

o         كيف حدث هذا؟

Å      بعد أن اتخذت قراري الخاطئ بالهجرة إلى مصر، والتي كانت وقتها أرض الأحلام بكل معنى الكلمة، فإني تذكرت أمرًا قد يحول هذا الحلم إلى كابوس مُريع.

o         وما هو هذا الأمر؟

Å      امرأتي سارة كانت جميلة جدًا، رغم تقدمها في السن، وخفت أن يأخذها مني المصريون، فطلبت منها أن تقول أنها أختي، وهي سمعت كلامي كعادتها.

o         ولكن اسمح لي أن أسأل حضرتك بكل احترام وتوقير، هل كان دافعك من هذا الطلب هو الخوف عليها فعلاً، أم ماذا؟!

Å      سأكون صريحًا معك يا بُني، لقد كان دافعي الظاهري هو خوفي عليها، ولكن دافعي الحقيقي كان له وجهين رديئين، الأول كان خوفي على نفسي لئلا "يقتلونني ويستبقوها[3]"، وهذا الأمر كان قمة الأنانية، وهو ضد الإيمان أيضًا، لأنه لديَّ وعد من الله أنه سيحييني حتى أنجب نسل البركة له.

o         وما هو الوجه الثاني لدافعك؟

Å      الوجه الثاني كان إعجابي بأرض مصر؛ حيث التطور والرفاهية والعلم والحضارة الفرعونية، وهي توازي أمريكا في وقتكم الحالي، ففكرت في داخلي أن "يكون لي خير[4]" منها، وأنال من الحب جانبًا كما تقولون، فدوافع الهجرة يجب أن تختبر في محضر الله أولاً ومرارًا.

o         وماذا حدث، هل تعطلت خطتك المُحكَمة وفسد السيناريو الذي كتبته؟

Å      بالعكس تمامًا؛ بل المصيبة والكارثة أن كل ما رسمته وخططته تم كما أردت!!

o         كيف حدث هذا؟

Å      بالفعل لما نزلنا إلى مصر، رأى المصريون زوجتي وأعجبوا بجمالها، ولما أخبرتهم أنها أختي، استحيوني، وأعطوني من خيرات مصر؛ 7 أنواع؛ غنم وبقر وحمير وعبيد وإماءٌ وأتن وجبال.

o         واو ... هذه ثروة هائلة، قادرة على تعويضك عن وقت الجوع الذي عانيت فيه في موطنك، فلابد أنك كنت في قمة السعادة.

Å      بل كنت في قمة التعاسة، فقد أخذوا امرأتي الحبيبة، لتكون زوجة لفرعون، وقضيت ليلتي في حضن الحمير، بينما تقترب زوجتي من حضن رجل أخر!!

o         ياه ... أنا آسف لهذا الأمر، ولكن كيف انتهى هذا الوضع المؤلم؟

Å      انتهى بتدخل إلهي الرؤوف، الذي ضرب ملك مصر بضربات كثيرة من أجل امرأتي[5]، ودعاني ليسألني ويوبخني عما فعلت، ثم أمر بمعجزة أن يصرفها معي إلى أرضي.

o          ولكن اسمح لي أن أسأل حضرتك، وأنا أطالع قصتك في الكتاب المقدس، لاحظت أنك كنت صامت أمام أسئلة فرعون؛ ما هذا الذي صنعت؟ لماذا لم تخبرني؟ لماذا قلت: أنها أختي؟!

Å      لا أعلم بالتحديد سبب الصمت، ربما شعورًا بالذنب بسبب ما فعلته بزوجتي العزيزة، التي أطاعت أمري لها بسلامة نية، وتخليت عنها بكل سهولة، وربما شعورًا بالخزي لأني خسرت قيادة الله لي، وربما شعورًا بالصدمة في نفسي، لأني اكتشفت أنني أجهل الخير المناسب لي.

o         يا لها من لحظات صعبة، ولكن حمدًا لله على سلامتك ورجعوك سالمًا وغانمًا لأرضك، فالرجوع عن قرار الهجرة الخاطئ قد يكون أصعب بكثير من قرار الهجرة نفسه.

Å      عندك حق يا بُني، ولكني للأسف رجعت بخسائر أيضًا أذتني وأذت أسرتي.

o         هل أخذ منك فرعون ما سبق وأعطاك في مصر؟!

Å      لا، ولكن الخسائر لم تكن مادية هذه المرة، وقد طالتكم أنتم نتائج هذه الهجرة حتى في زمنكم هذا

o         كيف حدث هذا؟!

Å  لقد رجعت من مصر، وكان من ضمن الإماء هاجر المصرية، والتي تزوجتها فيما بعد بدافع من زوجتي[6]، وسمعت كلامها في لحظة تململ من انتظار الله، وأنجبت منها إسماعيل ابني.

o         فهمت مقصدك.

وليس هذا فقط، ولكن ابن أخي لوط، ظل مهووسًا بما رآه في مصر معي، وهذا جعله يختار فيما بعد أن يهاجر إلى سدوم وعمورة، ظنًا منه أنها "كأرض مصر[7]"، وهذه الهجرة خسر فيها كل شيء، امرأته وبناته وسمعته وممتلكاته وكل ما له.

o         في النهاية هل من نصيحة أخيرة من حضرتك لي؟

Å      تأكد يا بني أن الخير الحقيقي ليس في مكان معين أو دولة محددة، ولكن في وجودك في ظل إلهك، ولو اخترت قرارًا مثل الهجرة بدونه سيكون وبالاً عليك كما كان عليَّ، وستخسر ما ذهبت لأجله؛ سواء تعليم أو صحة أو أولاد أو أمورًا لن يشعر بها سواك.

o         أنا مديون بالعرفان العميق لك، وبالشكر العميق لله الذي عرفنا في كتابه عليك، فإلى لقاء قريب.

فادي كيرلس

 



[1]  أعمال الرسل 7:4

[2]  يستحييهم في الجوع (مزمور 33: 19)

[3]  تكوين 12: 12

[4]  تكوين 12: 13

[5] تكوين 12: 17

[6] تكوين 16

[7]  تكوين 13: 10

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com