عدد رقم 2 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
جسم الإنسان  

بعد أن أنهي المسيح حديثه مع التلاميذ والمعروف بــ”حديث الْعِلِّيَّةِ“، يُسجل لنا البشير يوحنا تتابع الأحداث، فيقول: «قَالَ يَسُوعُ هَذَا وَخَرَجَ مَعَ تلاَمِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ، حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتلاَمِيذُهُ» (يو18: 1)

”وَادِي قَدْرُونَ“ هذا يقع بين الأسوار الشرقية لأورشليم وجبل الزيتون.  أما كلمتي ”قَدْرُونَ“ و”جَثْسَيْمَانِي“ فلهما دلالات هامه؛ فالأولي تعني ”الكدر“، والثانية معناها ”معصرة الزيت“.  وفي البستان ارتسم أمام ربنا طريق الأهوال والكدر، وارتسمت أيضًا المعصرة التي سيجتازها وحده.

وكيف كان حاله قبل دخوله البستان؟

كنا نتوقع أن نري ربنا يسوع مرتعبًا مرتبكًا عندما أتت ساعته، لكن علي العكس نسمعه يشدو بنغمة الشكر وعبارات الانتصار! 

(1) شاكرًا مُسبحًا: «أَخَذَ الْكَأْسَ وَشَكَرَ» (مت26: 27).  وما أبعد الفارق بين مفهوم الكأس بالنسبة لنا الآن، وبالنسبة للمسيح!  فهي لنا «كَأْسُ الْبَرَكَةِ الَّتِي نُبَارِكُهَا» (1كو10: 16)، إذ تحمل كل معاني الخير لنا، لكن بالنسبة للمسيح، فهي تعني آلام الصلب الرهيبة، ومع ذلك شكر ثم سبح أيضًا مع تلاميذه «ثُمَّ سَبَّحُوا وَخَرَجُوا إِلَى جَبَلِ الزَّيْتُونِ» (مت26: 30).  وهذه هي أول مره نسمع ربنا يسوع يُسبح في الأناجيل، إذ كان متيقنًا أنه لا بد أن يعود بالترنم حاملاً حزمه.

(2) لغة الانتصار: لقد أعلن ربنا يسوع، وقبيل الصليب، انتصاره الأكيد علي الشيطان قائلاً: «اَلآنَ دَيْنُونَةُ هَذَا الْعَالَمِ.  اَلآنَ يُطْرَحُ رَئِيسُ هَذَا الْعَالَمِ خَارِجًا» (يو12: 31).  لقد فارقه العدو بعد التجربة إلي حين، وبالتأكيد عاد اليه مرة أخري في البستان، مُحاولا إزعاجه، ألا أن سيدنا الكريم كان قد حسم انتصاره في المعركة قبل أن تبدأ.

 «نَفْسِي حَزِينَةٌ جِدًّا حَتَّى الْمَوْتِ»!

سجل لنا الوحي بالروح القدس صلاة المسيح للآب في حزنه، وهو يُعبِّر عن آلامه المُبرحة، ساكبًا قلبه، ليُتمِّم المكتوب: «صَلاَةٌ لِمِسْكِينٍ إِذَا أَعْيَا وَسَكَبَ شَكْوَاهُ قُدَّامَ اللهِ» (عنوان مز102)، لذلك نقرأ عنه القول: «ثُمَّ تَقَدَّمَ قَلِيلاً وَخَرَّ عَلَى الأَرْضِ، وَكَانَ يُصَلِّي لِكَيْ تَعْبُرَ عَنْهُ السَّاعَةُ إِنْ أَمْكَنَ.  وَقَالَ: يَا أَبَا الآبُ، كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لَكَ، فَأَجِزْ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ.  وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ» (مر14: 35، 36).  ولاحظ معي عزيزي الآتي:

(1) إن أكثر ما كان يزعج المسيح هو أن يُحرم من الشركة مع الله، وهو الذي من الأزل والي الأبد «كل يَوْمٍ لَذَّتَهُ فَرِحَةً دَائِمًا قُدَّامَهُ» (أم8: 30).    

(2) إن الكأس التي شربها - له كل المجد - هي تلك الآلام والآثام وكل معاصينا التي ألقت عليه حملنا الثقيل.  وكان يُدرك جيدًا كيف سيتعامل معه العدل الإلهي، عندما يأخذ مكان الآثمين، ويواجه الله وعدله يوم حمو غضبه!  وهذا أمر لا تحتمله طبيعته القدوسة الكاملة.  لقد عبَّر عن تلك الساعات في النبوة قائلاً: «غَرِقْتُ فِي حَمْأَةٍ عَمِيقَةٍ، وَلَيْسَ مَقَرٌّ.  دَخَلْتُ إِلَى أَعْمَاقِ الْمِيَاهِ، وَالسَّيْلُ غَمَرَنِي ... يَا اللهُ أَنْتَ عَرَفْتَ حَمَاقَتِي، وَذُنُوبِي عَنْكَ لَمْ تَخْفَ» (مز69: 2-5).  أننا نقشعر ونخشع أمام العظيم وهو يتألم!

(3) أننا نتعجب من خضوعه الكامل للآب، والتسليم له فيقول: «وَلَكِنْ لِيَكُنْ لاَ مَا أُرِيدُ أَنَا، بَلْ مَا تُرِيدُ أَنْتَ» (مر14: 36)، فكان بحق هو الإنسان الكامل الذي يفعل في كل حين ما يرضي الله، حتي في لحظات موته.

(4) كان للابن الحبيب طلبتين: الأولي أن تعبر عنه الكأس، لكنه شربها عن آخرها.  والثانية نجدها في المزمور المئة والثاني «أَقُولُ: يَا إِلَهِي، لاَ تَقْبِضْنِي فِي نِصْفِ أَيَّامِي ، وتأتيه الإجابة من فم الله «إِلَى دَهْرِ الدُّهُورِ سِنُوكَ ... وَأَنْتَ هُوَ وَسِنُوكَ لَنْ تَنْتَهِيَ» (مز102: 24، 26)، «إِذْ قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ، وَسُمِعَ لَهُ مِنْ أَجْلِ تَقْوَاهُ» (عب5: 7).  

(5) وحتي لا يتبادر للذهن أن المسيح في مسكنته قد تخلي عن لاهوته، كما يدعي أصحاب نظرية التخلي، لذلك سجل الوحي  في إنجيل يوحنا عظمته في البستان. فلا نقرأ أنهم تقدموا وأمسكوه، بل هو يبادر بنفسه سائلاً إياهم: «مَنْ تَطْلُبُونَ؟».  فأَجَابُوهُ: «يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ».  قَالَ لَهُمْ: «أَنَا هُوَ».  والنتيجة «رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ« (يو18: 4-6).  فما أعظمه!

 «وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي»!

  لقد أتت الساعة التي تحدث عنها الرب يسوع قائلاً: «هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ الآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي» (يو16: 32).  فلقد تركه التلاميذ وناموا، حتي بطرس لم يقدر أن يسهر معه ساعة واحدة.  وجاء الخائن لكي يبيعه، ويُسلّمه بثمن بخس وبقبلة غاشه.  وما أصعب الخذلان والنسيان والجحود علي نفسه، لكن الابن الحبيب يتجه إلي الآب، ملتمسًا منه العون قائلاً: «لاَ تَتَبَاعَدْ عَنِّي لأَنَّ الضِّيقَ قَرِيبٌ.  لأَنَّهُ لاَ مُعِينَ» (مز22: 11).    

ولا يفوتنا أن أولئك الذين تركوه، كانوا موضوع اهتمامه، فطلب من الجند قائلاً: «فَإِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَنِي فَدَعُوا هَؤُلاَءِ يَذْهَبُونَ» (يو18: 8).   

دعونا - أيها الأحباء -  نتعلَّم درسًا من سيدنا الكريم، كيف نتصرف وقت شجوننا ووحدتنا، عندما يرخي الليل سدوله ووحشته.  ماذا نفعل إذا القلب أعيا؟  ليتنا نتعلَّم كيف نسكب شكوانا أمام إلهنا فقط، ونُسلِّم تمامًا لمشيئة أبينا، كما فعل ربنا يسوع المسيح.  ولتثق قلوبنا في صلاح أبونا المحب، الذي يُجيب المرتجي، ويُظهر كل الرضا، مرددين في كل حين وراضيين «ليس كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ» (مت26: 39).   

                                                                           إيليا كيرلس

 

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com