عدد رقم 1 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
تأثير الاتضاع الحقيقي  

    إن أصغر مؤمن يعلم جيدًا أن الاتضاع هو فضيلة مرغوبة ولها جاذبيتها وتأثيرها على الآخرين.  لكن الاتضاع إن لم يكن حقيقيًا مُعبّرًا عن حالة القلب فلا يُسمَّى اتضاعًا.  فالتواضع ليس في عبارات أو عَبَرات، لا بافتعالات أو حركات مصطنعة، بل هو حالة قلب يراها الله الذي يمتحن القلوب ويعرفها.  وفي موعظة الجبل كانت أول عبارة نطق بها المسيح هي: «طوبى للمساكين بالروح» (مت5)، هؤلاء وصلوا إلى قناعة حقيقية مع أنفسهم أنهم لا يملكون شيئًا، ولا يستحقون شيئًا، ولا يستطيعون أن يعملوا شيئًا، فألقوا رجاءهم بالتمام على النعمة.  وسنمر بنعمة الرب على اثنين من شخصيات العهد القديم ظهرت فيهما تلك الفضيلة الجميلة المؤثرة.

   نحميا كان من نوع الرجال الذين يندر أمثالهم من المدبرين وأصحاب المشروعات العظيمة في مجالات الخدمة.  كان قائدًا ورائدًا لعمل عظيم للرب، وكان له مركزه الرفيع في عمله الزمني، ورغم ذلك تحلى بالاتضاع الحقيقي، الذي له رائحته العطرة التي تجذب إليه كل من يتأمل في تلك الشخصية المتميزة.  وما أبعد الفرق بين هذا الرجل وبين الذين يخدمون كي يصنعوا لهم اسمًا، وينالوا من المجد قسطًا.

جاء أخيرًا إلى أورشليم بعد صلوات وأصوام ودموع كثيرة لأيام وشهور.  وصل أخيرًا بعد تحديات ومقاومات ليست بقليلة.  ها هو الآن على أرض المشروع العظيم الذي جاء وضحى من أجله.  ماذا توقع إذًا؟ هل توقع استقبالاً حافلاً؟! ترحيبًا وهتافًا من معجبين قومه؟ كلا.  ولنلاحظ ما فعل: كان يتحرك ليلاً، بعيدًا عن الأضواء ولفت الأنظار.  كان معه رجال قليلون، بعيدًا عن ضجة الجموع الكثيرة.  لم يخبر أحدًا بشيء مما جعله إلهه في قلبه، لا الكهنة ولا الولاة ولا الأشراف، حتى يروا بأنفسهم.  لم يدخل المدينة كزعيم مصلح، بل من باب الوادي دخل، ومنه صعد ضابطًا نفسه.  والوادي يتكلم عن الاتضاع.  عندما سمع الأخبار عن خراب أورشليم، بكى وناح كثيرًا، وصام وصلى أمام إله السماء (نح1: 4) ترى ماذا فعل، وكيف كانت مشاعره عندما تفرس في أسوار أورشليم المنهدمة وأبوابها التي أكلتها النار؟! (نح2: 13)!!

لم يدِن إخوته بل أخذ بأيديهم حتى رأوا بأنفسهم، فقال لهم باتضاع: «أَنْتُمْ تَرُونَ الشَّرَّ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ، كَيْفَ أَنَّ أُورُشَلِيمَ خَرِبَةٌ، وَأَبْوَابَهَا قَدْ أُحْرِقَتْ بِالنَّارِ. هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَارًا» (نح2: 17).  فسمعوا واقتنعوا ثم صنعوا.  تجاوبوا بكل قلوبهم مع صيحة النهوض: «هَلُمَّ فَنَبْنِيَ».  فَقَالُوا: «لِنَقُمْ وَلْنَبْنِ. وَشَدَّدُوا أَيَادِيَهُمْ لِلْخَيْرِ» (نح2: 18).

ما أندر هذه النوعية بين وعاظ اليوم الذين لديهم كلمات التوبيخ بسبب الأوضاع المؤسفة، بدلاً من أن يمزقوا قلوبهم - كما فعل نحميا أمام الرب.  نراهم يلقون اللوم على المخطئين، غير ملاحظين لأنفسهم على الإطلاق.  إنهم يفصلون أنفسهم عن مذلة شعب الرب، ويرون أنفسهم أنهم أفضل كثيرًا من غيرهم، ولا عجب إن كنا لا نجد لأمثال هؤلاء تأثيرًا في العمل الروحي على شعب الرب.

 

القلب المنكسر قبل التوبيخ المؤثر

بدون انكسار حقيقي واتضاع أمام الرب، سيكون التحريض والتوبيخ ليس وعظًا بل وخزًا، يجرح ولا يُصلح، يُفشِّل ولا يُشجع، يهدم ولا يبني.  إن أي إصلاح وترميم وسط شعب الرب لا يأتي عندما نسمع عن أوضاع خاطئة أو نشاهدها، ثم ندينها ونندد بها على المنابر وفي مجالسنا، بل يبدأ الإصلاح عندما نسكب قلوبنا وننوح أمام الرب، فيقنعنا الرب أنها شر عظيم وعار بمقاييس قداسته.  ثم نصلي كثيرًا قبل أن نرددها أمام إخوتنا، ونشعر أننا جزء من هذا الفشل.

والدرس الهام الذي يتعين على كل واعظ لديه كلمة توبيخ لشعب الرب أن يتعلم كيف “يدخل مِنْ بَابِ الْوَادِي ويخرج” قبل أن يتكلَّم مع شعب الرب.  ولا يعتمد مطلقًا على قوة الألفاظ والتعبيرات البليغة التي تصف الحال ليؤثر بها على مشاعر السامعين، بل يبكي أولاً بقلب منكسر في مخدعه، كي يمتلئ من الروح القدس وهو يتكلَّم، وإلا باطلاً سيكون توبيخه، كما جاء في ميخا3: 8 «لكِنَّنِي أَنَا مَلآنٌ قُوَّةَ رُوحِ الرَّبِّ وَحَقًّا وَبَأْسًا، لأُخَبِّرَ يَعْقُوبَ بِذَنْبِهِ وَإِسْرَائِيلَ بِخَطِيَّتِهِ».

(1)  قبل التوبيخ لا بد من مراجعة الأمور، بصراع ودموع، مع الرب، فهو صاحب الأمر. 

(2)  عند التوبيخ لا بد أن يخرج من قلب منكسر، حاسبًا المُتكلم نفسه مع إخوته في نقائصهم.

(3)    قوة التوبيخ لا في فصاحة اللسان أو الكاريزما الشخصية، بل في قوة الروح القدس.

(4)    دافع التوبيخ لا فضح أو تجريح الآخرين، بل الغيرة المقدسة المخلصة على مجد الرب.

***

 جدعون أيضًا كان واحدًا من أبطال الإيمان الذي تحلى بهذا الاتضاع الحقيقي المؤثر، ونتيجة لاتضاعه حفظ شعب الرب من شرخ كبير جدًا.  لقد أتى إليه رجال أفرايم وخاصموه بشدة لأنه لم يدعُهم لمحاربة المديانيين، «فَقَالَ لَهُمْ: مَاذَا فَعَلْتُ الآنَ نَظِيرَكُمْ؟ أَلَيْسَ خُصَاصَةُ أَفْرَايِمَ خَيْرًا مِنْ قَِطَافِ أَبِيعَزَرَ؟ لِيَدِكُمْ دَفَعَ اللهُ أَمِيرَيِ الْمِدْيَانِيِّينَ غُرَابًا وَذِئْبًا. وَمَاذَا قَدِرْتُ أَنْ أَعْمَلَ نَظِيرَكُمْ؟ حِينَئِذٍ ارْتَخَتْ رُوحُهُمْ عَنْهُ عِنْدَمَا تَكَلَّمَ بِهذَا الْكَلاَم» (قض8: 1-3).   لقد وصف العمل الوحيد الذي عمله رجال أفرايم بالخصاصة (أي السنبلة الفارغة)، وقال أنه خير من قطاف أبيعَزَرَ (المعركة بأسرها)؛ أي أنه أراد أن يقول لهم  الفارغة التي لديكم خير من الممتلئة التي لي، وكان يعنيها  تمامًا.  لقد قاموا بعمل حربي بطولي أما هو فلم يكن سيفًا متقلبًا، بل مجرد رغيف شعير يتدحرج في محلة المديانيين.  كان يعلم أن الجرار والأبواق في ذاتها لا تصنع انتصارًا.  الرب هو الذي حارب عنهم وضرب العدو. ولما تكلَّم جدعون بمثل هذا الكلام، ارتخت روحهم عنه.  نعم.  إنه الاتضاع الذي يبني ويصنع سلامًا بين شعب الرب.  بينما نجد يفتاح يواجه ذات الموقف لكن بسبب كبريائه سقط من الشعب 42000 نفس من سبط أفرايم (قض12: 1-7).

 قال أندرو موري: “كما يتدفق الماء ويملأ الوديان والأماكن المنخفضة، هكذا عندما يجدك الرب منكسرًا ومتضعًا وفارغًا، فإن قوة الرب ومجده يتدفقان نحوك، ويحلان عليك”.

   نعم عند الانكسار ترتفع الأسوار.  من تعلم أن ينكر ذاته، ويتضع أمام سيده، يعرف كيف ينفصل عن الدنس الذي في العالم، وتعلو أسوار الانفصال عن الخطية.

   حينما يحدث الانكسار، تعلو أسوار الحماية من سهام الغرور والعجب والمجد الباطل.

   أعمال عظيمة ومشاريع جبارة للرب، صنعتها الدموع والركب الساجدة والقلوب المنكسرة.

   ولقد قال الرب: «إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمسحق الروح والمرتعد من كلامي» (إش66: 2).  «لأنه هكذا قال العلي المرتفع، ساكن الأبد، القدوس اسمه: في الموضع المرتفع المقدس أسكن، ومع المنسحق والمتواضع الروح، لأحيي روح المتواضعين، ولأحيي قلب المنسحقين» (إش57: 15).

   ليتنا نتمثل بسيدنا الذي سلك طريق الاتضاع، مُخليًا نفسه، واضعًا نفسه، فقد جاء لا ليُخدَم بل ليَخدِم ويبذل نفسه فدية عن كثيرين.  وهو الذي قال: «تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم» (مت11: 29).

  

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com