عدد رقم 1 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المحبة في سفر النشيد  

أولاً: نوعيات المحبة في سفر النشيد

 

صور للمحبة: يعرف القلب البشري صورًا متعددةً لمحبة الآخر.  (أ) فهناك محبة العطف على المساكين، وتتجه إلى من هو دونها؛ أي أقل مرتبة.  يملؤها الرقة والإحسان.  (ب) ومحبة العرفان بالجميل والتي تتجه لمحبوب يفوقها مرتبة، أحسن إليها.  فيملأها الاتضاع.  وهذا ما حدث تمامًا مع مفيبوشث، يوم أحسن إليه داود الملك، فهتف: «مَنْ هُوَ عَبْدُكَ حَتَّى تَلْتَفِتَ إِلَى كَلْبٍ مَيِّتٍ مِثْلِي؟» (2صم9: 8).  (ج) ومحبة السرور والإعجاب بالآخرين.  وفيها لا تنظر المحبة إلى أعلى، كمحبة العرفان بالجميل.  ولا إلى أسفل كمحبة الإحسان.  إنها ببساطة تنظر مباشرة، لغرضها، ممتلئة إعجابًا.  وما أروعها محبة يوناثان لداود، يوم قطع رأس جليات (1صم17، 18).

توضيح: كثيرًا ما نجلس في محضر عظيم، طالبين خدمته، في يقين من ترحابه القلبي، ورغبته في العطاء.  ورغم امتناننا العميق له؛ لخدمتنا، لا نتمتع بالراحة الكافية في حضرته.  فالراحة والسعادة تحتاج أكثر من الشعور بالرغبة في الإحسان أو الترحيب بالخدمة.  (أ) إنها نتاج انشغال العظيم بمن يخدمه، وليس بالخدمة فقط.  (ب) كذلك لا بد للمخدوم، أن يجد ما يشغله في شخصية الخادم؛ محبته، اتضاعه، كرمه، بالإضافة لخدمته.  ودون توفر هذين الشرطين ما أمكن توفر الراحة.  وهذا دائم التوفر في محبة القريب، حتى ولو كان عظيمًا.

محبة القريب: هنا النوع الرابع من المحبة، وهو محبة القريب.  أو قل: المحبة العائلية؛ محبة أهل البيت.  وأساس هذه المحبة ليس امتيازات المحبوب، أو احتياجاته، أو حالته، بل شخصه.  فالمحبوب نفسه، هو من يحبه القلب، وليس امتيازاته.  شخصيته وليست مواهبه؛ هو من تهواه العاطفة وتناجيه النفس.   

وفي هذه العلاقات العائلية، نجد أكثر تعبيرات المحبة دفئًا مُرَحَبًا بها.  فالقلب يعرف أحقيته في أن يُغرم بمحبوبه، دون جُرح أو تحفظ، أو خشية لملامة، أو تعد لخطوط حمراء.  فالآباء والأبناء، والإخوة والأخوات، والأزواج والزوجات، يعرفون هذا النوع من الحب العائلي.  مع تَميُّز الأزواج والزوجات، بعلاقات حسية متميزة، وجسدية خاصة.  ولكن كل هؤلاء يدركون أحقيتهم في استخدام أدفأ تعبيرات المحبة وأعمقها وأغناها.

وهذا لا يمكن استخدامه في علاقات المحبة الأخرى.  ففي محبة العطف والعرفان بالجميل، والسرور والاعجاب، لا بد أن تُراعى اعتبارات الاحتشام بالشكل المنضبط.  فهذه المحبات ليست مبررًا لتوهمات شخصية؛ ليستخدم أي طرف عبارات المحبة الدافئة الجارحة للآخر.  فهذا يُحسب تهجمًا غير لائق، بل تعديًا لخطوط حمراء.

 

ثانيًا: تدريبات النعمة

 

 ولنا في نازفة الدم، في مرقس ص 5؛ أسلوب الفخاري في تدريبه للنفس، ليرتقي بها من تمتعها بمحبته كالمحسن والعاطف عليها، حتى تصل وتتمتع بمحبته كالقريب.  أو قل: محبته كواحدة من أهل بيته.  فنازفة الدم تيقنت من قدرة الرب على شفائها (إمكانياته)، وترحيبه بذلك.  فجاءت من ورائه، وحصلت على ما تحتاجه.  وأحست بمحبة العاطف عليها.  ولم تعرف أكثر من هذا.  وبعد هذا، نراه له المجد، (أ) يُشعرها بأهميتها؛ وغلاوتها عليه، إذ «يَنْظُرُ حَوْلَهُ» (مر5: 32)، باحثًا عنها، مهتمًا بها.  (ب) ثم يمد يده، ليرفعها لمستوى، عائلته ملقبًا إياها بابنة: "يا ابْنَةُ ".  (ج) وبعدها يؤكد لها جمالها، وأن لديها ما يمتدحها عليه: إيمانك قد شفاك.  ناسبًا شفاءها لإيمانها.  (د) وبعدها أكد، لها، أن لديه المزيد ليعطيها إياه.  فأعطاها السلام «اذْهَبِي بِسَلاَمٍ» (مر5: 34)وهكذا انصرفت نازفة الدم، وهي تفكر في محبة وجمال ومجد صاحب الإحسان.  شاعرة بقربها الشديد من قلبه؛ متمتعة بمحبته كالقريب، وكأهل بيتها.  أتخيلها راغبة أن تمسكه ولا ترخيه (نش3: 4).

 

ثالثًا: محبة العريس في سفر النشيد

 

ومحبة العريس في سفر النشيد، جمعت بين كل أنواع المحبات.  فبسهولة نتابع محبته    (1) كالمحسن والعاطف عليها، فهي راعية غنم فقيرة سوداء «ارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ»(1: 8)، «أَنَا سَوْدَاءُ وَجَمِيلَةٌ يَا بَنَاتِ أُورُشَلِيمَ» (1: 5)والحبيب، هو الملك العظيم سليمان، «مَا دَامَ الْمَلِكُ فِي مَجْلِسِهِ أَفَاحَ نَارِدِينِي رَائِحَتَهُ» (1: 12)ولأجل الراعية الفقيرة لبس الملك ثوب الراعي، واختار رعاية الغنم ليقترب منها «حَبِيبِي لِي وَأَنَا لَهُ. الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ» (2: 16)فالعروس، للمسافة الشاسعة بينها وبين العريس مُدركة، وبعطفه وحنانه مُتمتعة. 

(2) كما نجد محبة إعجاب العريس بعروسه.  واصفًا إياها بالجمال عدة مرات: «إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ» (ا: 8، وراجع 15:1، 2: 10، 13؛ 4: 1 (مرتين)) ولقبها مرارًا بالعروس (4: 8، 10، 11؛ 5: 1) وبجنة؛ بجمالها وفراديسها (4: 12؛ 5: 1)هذا بالإضافة إلى قصائده الشعرية الجميلة الثلاث، والمادحة لها تفصيلاً (4: 1-5؛ 6: 4-10؛ 7: 1-9).

(3) وأما عن محبة أهل البيت، أو العريس لعروسه، فيفيض فيها النشيد.  فالعروس في بيت الحبيب؛ في بيت الخمر، وعلمه فوقها محبة (2: 4)بل أيضًا في حجاله «أَدْخَلَنِي الْمَلِكُ إِلَى حِجَالِهِ» (1: 4)ومعه على سريره «وَسَرِيرُنَا أَخْضَرُ» (1: 16)بل في حضنه «شِمَالُهُ تَحْتَ رَأْسِي وَيَمِينُهُ تُعَانِقُنِي» (2: 8)وبعدها خارجة معه في نزهة خاصة طويلة، انتهت بإقامته في جنتها، أو قل: في قلبها النقي (نش4:8-14).  وأخيرًا نرى العروس وقد فاض قلبها بالعواطف لعريسها، فرغبت في إطلاق العنان لها، لتُرى من الجميع «لَيْتَكَ كَأَخٍ لِي الرَّاضِعِ ثَدْيَيْ أُمِّي، فَأَجِدَكَ فِي الْخَارِجِ وَأُقَبِّلَكَ وَلاَ يُخْزُونَنِي» (نش8: 1).

 

رابعًا: المحبة الإلهية تعزف

على القلوب النقية

 

الإدراك: علينا أن ندرك أننا مديونون لله الآب بمحبة الأبناء.  وللمخلص العظيم بمحبة المفديين.  ولمعلم الدهور بمحبة التلاميذ.  ولكن ما هي المحبة الواجب تدفقها من قلوبنا لعريس النفس، من غمرنا بحبه العائلي؟  إن سفر النشيد يعطينا الجواب.  إنها محبة القلب لحبيب القلب.  ومحبة الروح لعريس الروح.  محبة الكيان كله؛ لخالقه ومحرره وغامره بمحبتة. 

الفشل: ورغم عُظم المحبة الإلهية، فالنفس البشرية المسكينة عاجزة عن التجاوب معها بمفردها.  وهذا ما حدث مع الأمة الإسرائيلية في تجسده «إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ (وأحبهم)؛ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ» (يو1: 11)«طُولَ النَّهَارِ بَسَطْتُ يَدَيَّ إِلَى شَعْبٍ مُعَانِدٍ وَمُقَاوِمٍ» (رو10: 21)فلا بد من قلوب جديدة، مولودة ثانية، لتعزف المحبة الإلهية، على أوتارها، أنغام محبة.  وهكذا نستطيع أن نحبه «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1يو4: 19)فلولا محبته، وتغيير نعمته لنا، واستشعارنا لمحبته، ما بادلناه محبة. 

التصديق: أيسعدنا هذا النوع من الحب (العائلي) الإلهي، وهل تصدقه قلوبنا؟  إن تجاوب المؤمن مع المحبة الإلهية، يبدأ بالتصديق القلبي لها.  وهنا نشاط الإيمان وعنفوان الفكر الروحي والتمسك بالإعلان.  فالإيمان يرى حقه العريض، في تصديق المواعيد، فيتشجع ويتغذى بالوعد الإلهي.   وبه يقفز فوق كل ما هو طبيعي، طالما وُجدت كلمة من الله.  أليس من حقنا إطلاق العنان للتأمل بلا تحفظ في المحبة التي لنا في قلب المسيح؟

التصديق والتجاوب: ولنا في المرأة، التي كانت خاطئة في إنجيل لوقا الأصحاح السابع، صورة عظيمة لنفس تجاوبت مع مجرد ما سمعت عن نعمة المسيح.  فجذبتها المحبة جدًا، وسيطرت عليها العاطفة الإلهية، لتذهب حتى إلى بيت الفريسي،  غير عابئة بنظرته النارية الحارقة، ولا بمظاهر الفخامة والأبهة الشاهقة، ولا بوليمته ولا بضيوفه.  فليس لها إلا غرضٌ واحد؛ وهو غافر خطايا البشر.  هنا بداية تجاوب النفس مع الله.  وهنا بداية سلطان العاطفة الإلهية على النفس البشرية.  يوم تلفظ الخطية، وتحصل على الغفران، وتحتضن المحبة الإلهية، فتبدأ تسكن غرف القلب (مكان الخطية)، لتملكه رويدًا رويدًا.

الاستقبال والتمتع: وهذه العواطف الإلهية، ليست فوق الطاقة البشرية.  فخليقتنا الجديدة لديها الإمكانية لاستقبال هذه العاطفة. والمانح لهذه العواطف هو الخبير بالطبيعة الإنسانية ومسكنتها؛ ربنا يسوع المسيح، ابن الله المتجسد.  والقلب الجديد إذ يستقبلها، قادر على التمتع بها، والتجاوب معها.  بل يُمتَلك منها، ليجد نفسه، محلقًا في السماويات.  فوق كل مكدرات الهموم السفلى، مُرددًا صداها؛ محبة للمسيح.  وحينما توجد عاطفه كهذه، لا بد سيوجد تكريس بالتمام لله.  وعلينا ألا نُظهره للعيان، وإلا سنضر ذواتنا، وسنضر شهادتنا.  فنُبل العاطفة وسموها، يجعلها من حق الله وحده. 

الامتلاك من المحبة الإلهية: وأما نهاية المحبة، أو قل: نفس تقيم في محيط المحبة الإلهية، فتشاهدها في مريم أخت لعازر، في سكب الطيب ودهن قدمي الرب بالناردين، في بيت سمعان الأبرص (مر14)فالمحبة الإلهية، امتلكت قلبًا بشريًا، لتُعلِّمه أسرارها، وأن المسيح، محبوب القلب، لا بد أن يذهب إلى الصليب، وتوقيت موته، ولزوم تكفينه.  ونرى محبة إنسانية تحاول بكل طاقتها أن ترد ولو اليسير، من الجميل.  ولسان حالها: ماذا يصنع لرجل تريد العواطف الخالصة أن تكرمه، بعد أن أكرمها، وأقام أخاها؟  فلم تجد سوى أغلى ما لديها.  قارورة طيبها الباهظة الثمن، لتكسرها عليه.  وما أمجد إكرامها لسيدها في صمتها، يوم لومها، من كل التلاميذ!! إذ تركت له التقييم والدفاع، والمديح.  ما أروع ما تستطيع العواطف المقدسة فعله يوم تمتلكها العواطف الإلهية!!


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com