(قراءة في أبْطَال داود)
(2صم23؛ 1أخ11، 12)
تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية التي يتشارك فيها أبطال داود، وعن مقاييس البطولة الروحية الصحيحة، ونواصل في هذا العدد حديثنا عن:
حادي عشر: الأبطال الروحيون والقلب المُكرَّس للرب (1أخ12: 16-18، 38):
في الأعداد الأولى من 1أخبار 12 نقرأ أن أول مجموعة جاءت «إِلَى دَاوُدَ إِلَى صِقْلَغَ وَهُوَ بَعْدُ مَحْجُوزٌ عَنْ وَجْهِ شَاوُلَ» كانت «مِنْ إِخْوَةِ شَاوُلَ مِنْ بِنْيَامِينَ» (ع1-7). وهم رجال كانوا يرتبطون بالقرابة الوثيقة مع شاول. وفي الأعداد من 16-18 نجد إشارة إلى آخرين من سبط بنيامين أيضًا، تركوا الملك شاول في مرحلة مبكرة، وجاءوا مع قوم من سبط يهوذا، وانفصلوا إلى داود عندما كان في الحصن. والمرجح أن يكون ذلك إشارة إلى مغارة عدلام.
ومن المُلفت للنظر أن داود تَمَهَّل في قبول هؤلاء الرجال، واستفسر بحذر مِن جهة نواياهم وحقيقة دوافعهم للمجيء إليه «فَخَرَجَ دَاوُدُ لاِسْتِقْبَالِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: إِنْ كُنْتُمْ قَدْ جِئْتُمْ بِسَلاَمٍ إِلَيَّ لِتُسَاعِدُونِي، يَكُونُ لِي مَعَكُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ. وَإِنْ كَانَ لِتَدْفَعُونِي لِعَدُوِّي وَلاَ ظُلْمَ فِي يَدَيَّ، فَلْيَنْظُرْ إِلَهُ آبَائِنَا وَيُنْصِفْ» (ع17). ولوهلة – كان مِن وجهة النظر المنطقية – أن يكون داود سعيدًا بأية مساعدة يحصل عليها، أو أي معاونين يأتون إليه، ولكنه كان حذرًا من هؤلاء الذين وفدوا إليه حديثًا، فسألهم وجس نبض دوافعهم للمجيء إليه. فطالما ساد جو التآمر والدسائس والمكايد، فمن الصعب ألا يكون داود مرتابًا. لقد اختبر بالفعل الخيانة من جانب ”دُوَاغ الأَدُومِيّ“ (2صم22: 9)، وعانى من ذلك أيضًا على أيادي رجال قَعِيلَة وزِيف (1صم23: 12، 19). فلا غرابة إذًا أن يكون حذرًا ومُتخوّفًا؟ وفي أيام لاحقة كان في نفس الإطار الفكري حينما واجه مأزق تصديق صيبا أو مفيبوشث (2صم19: 24-30).
إن وضع الناس موضع الاختبار ليس أمرًا غير شائع في كلمة الله. لقد وضعت ”نُعْمِي“ كنتيها تحت الاختبار، فأخفقت إحداهن، أما الأخرى فقد نجحت بتميز فريد (را1: 6-18). أيضًا وضع الرب يسوع الشاب الغني موضع الاختبار، فجفل من الالتزام نحو اتباع الرب يسوع (مر10: 17-22). وقيل لملاك كنيسة أفسس «قَدْ جَرَّبْتَ الْقَائِلِينَ إِنَّهُمْ رُسُلٌ وَلَيْسُوا رُسُلاً، فَوَجَدْتَهُمْ كَاذِبِينَ» (رؤ2: 2). ولا مجال لعدم الحذر في تنبيه الناس نحو الخلاص، ولا في قبول المتقدمين للشركة في الجماعة. وأصحاب الأذهان السليمة لن يستاؤوا إطلاقًا من التحقق منهم، بشرط ألا تكون الأسئلة المُوَّجهة لهم مُقدَّمة بأسلوب حاد أو جارح، أو بطريقة توحي بالتشكك.
وفيما يتعلق بقبول ”الجماعة“ فقد يشعر البعض أنه في حالة قلة العدد في بعض الاجتماعات، فهذا يجعلهم يسعدون بقبول أي شخص يأتي في طريقهم، ويكفي تقديم بضعة أسئلة. ولكن عدم التدقيق وعدم الاعتناء نحو القبول، أو تجاهل سجل سيرة مشكوك فيها، إنما يؤدي إلى خلق مشاكل أكبر فيما بعد. ولقد كانت سياسة داود في الاختيار والقبول حكيمة، وبرهنت على توافق ورضى جميع الأطراف على الشروط الصحيحة.
وفي 1تيموثاوس 5: 21، 22 يرتبط تحذير الرسول بولس من المحاباة (ع21)، بالتحذير من العَجَلة في وضع اليد على أحد «وَلاَ تَعْمَلَ شَيْئًا بِمُحَابَاةٍ. لاَ تَضَعْ يَدًا عَلَى أَحَدٍ بِالْعَجَلَةِ، وَلاَ تَشْتَرِكْ فِي خَطَايَا الآخَرِينَ». ووضع الأيدي هو تعبير عن الشركة والتوَّحُد مع مَنْ نضع أيدينا عليهم (أع13: 3). وهذا يتضمن القبول في الشركة من جهة كسر الخبز واحتضان التعليم والخدمة ... إلخ. وكان على تيموثاوس أن يتجنب العَجَلة في وضع يده على أي شخص لئلا يكتشف فيما بعد أنه ليس جديرًا بهذه المسؤولية، ويجد نفسه مشتركًا في خطايا هذا الشخص (ع22). والمؤمن يجب أن يكون حريصًا – ليس فقط على طهارته الشخصية – بل أيضًا على طهارة مَن يرتبط بهم.
لقد تسرع يشوع، ومعه رؤساء الجماعة، ذات مرة، وقَبِلوا الجبعونيين «وَمِنْ فَمِ الرَّبِّ لَمْ يَسْأَلُوا». الأمر الذي كان بمثابة شوكة نغَّصت شعب الله فيما بعد (2صم9؛ 2صم21: 1-14). ولكن في الحالة التي نحن بصددها، فقد «قَبِلَهُمْ دَاوُدُ» (ع18). وقد أسفر هذا الاختبار عن إعلان رائع للتقدير لداود، وعن التزام من صميم القلب لقضيته.
لقد سعى داود لكي يكشف نواياهم. وبالنسبة لأفكار داود فإن هؤلاء الرجال إما كانوا قد جاءوا بسلام ليُساعدوه، وإما ليُسلموه إلى أعدائه (ع17). فإن كانت الحالة الأولى، فإنه يكون له معهم «قَلْبٌ وَاحِدٌ» أو ”إن قلبه سيكون موَّحدًا معهم“ (قارن من فضلك 2 ملوك 10: 15. فالكلمة العبرية ”وَاحِدٌ“ المُستخدمة هنا مُعبّرة جدًا، وكثيرًا ما تُرجِمت ”معًا(Together) “، وهي ما تفيد الاتحاد. فلو كان هؤلاء قد جاءوا برغبة صادقة لمساعدته، فلداود تقديره وعواطفه نحوهم مِن كل قلبه. ولكن من الناحية الأخرى، إذا كانوا قد جاءوا لأغراض عدائية ليُسلموه إلى عدوه، فإنه يدعو الله أن يتدخل ويتعامل معهم. وكان لداود الثقة المُطلَّقة الكاملة في إلهه أنه سينصفه، فطبيعته الأخلاقية لم تعرف الغدر والخيانة «وَلاَ ظُلْمَ فِي يَدَيَّ» (ع17).
وإذا كان البار الكامل، الأكثر برًا على الإطلاق من داود؛ الرب يسوع المسيح، اختبر الخيانة الجائرة، ولكن الخائن الأكبر ”يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ“ اضطر إلى الاعتراف قائلاً: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَمًا بَرِيئًا» (مت27: 4). ومثلما كان الرب يسوع «يُسَلِّمُ لِمَنْ يَقْضِي بِعَدْلٍ» (1بط2: 23)، كان داود مستعدًا لأن يترك الإنصاف في أيدي الله، إذا كانت الخيانة ستجري في مسارها «فَلْيَنْظُرْ إِلَهُ آبَائِنَا وَيُنْصِفْ» (ع17).
ولكن نلاحظ أن هؤلاء الرجال لم يتصرفوا بالإيمان البسيط فحسب، ولكن بقوة الروح القدس «فَحَلَّ الرُّوحُ عَلَى عَمَاسَايَ رَأْسِ الثَّوَالِثِ فَقَالَ: لَكَ نَحْنُ يَا دَاوُدُ، وَمَعَكَ نَحْنُ يَا ابْنَ يَسَّى. سَلاَمٌ سَلاَمٌ لَكَ، وَسَلاَمٌ لِمُسَاعِدِيكَ. لأَنَّ إِلَهَكَ مُعِينُكَ».
كان المتحدث من هذه الفرقة هو ”عَمَاسَايَ[1]“ الذي معنى اسمه ”حَمَلَ“ أو ”حامل ثقل“ أو ”الله قد حَمَلَ“ والمرجح أنه هو نفسه ”عَمَاسَا“ ابن أخت داود. وهنا يظهر في صورة لامعة مُضيئة، وإن كان بعد سنين لاحقة ترأس جيش أبشالوم عندما تمرد على داود أبيه. وسعى داود – بعد انتهاء تمرد وعصيان أبشالوم – إلى وضع خطط لإقامة جسور جديدة بتعيينه قائد جيشه الجديد، ولكن ”عَمَاسَا“ قُتِلَ بوحشية وبغدر بيدي ابن خالته الماكر ”يُوآبَ“ (2صم17: 24-26؛ 19: 13؛ 20: 8-10).
والسبب لتصرف ”عَمَاسَايَ“ باعتباره المُتحدث باسم الجماعة كلها، ليس راجعًا لرتبته، بل لحقيقة أن «حَلَّ الرُّوحُ (الروح القدس the Spirit) عَلَى عَمَاسَايَ»، فأجاب إجابة جميلة فقال: «لَكَ نَحْنُ يَا دَاوُدُ، وَمَعَكَ (أي في صفك) نَحْنُ يَا ابْنَ يَسَّى» (ع18). ويا لها مِن مقولة مُفعمة بالتكريس والالتزام:
فبقوله: «لَكَ نَحْنُ يَا دَاوُدُ»، أقرَّ بأنهم ينتمون إلى داود، وأنهم أتباع له، وتحت أمره، وخاضعون لأوامره. ويجدر بنا أن نُطبق نفس هذه المبادئ في علاقتنا مع الرب يسوع المسيح.
«وَمَعَكَ نَحْنُ يَا ابْنَ يَسَّى»؛ والآن فقد سلموا أنفسهم له، وكل طاقاتهم موجهة لحماية شخصه، وتنفيذ مقاصده.
ليت كل واحد منَّا يقول أيضًا، وبالروح القدس عينه: ”لَكَ أنا يا ربي يسوع ... وأيضًا مَعَكَ نحن يا ابن الله“. ويا للأسف أن كثيرين من المفديين، مع أنهم فعلاً للرب، ولكنهم لا يريدون في كل الأحوال أن يكونوا في صفه فقط! ولكن اليوم، فإن داود الحقيقي؛ ربنا يسوع المسيح، يبحث عن أشخاص لهم القلب الموَّحَد والمُكرَّس له (1أخ12: 16-18، 38).
وهاتان المقولتان تتوازيان مع إشارة الرسول بولس لإلهه عندما وقف على سطح السفينة التي جرى تفريغها قائلاً: «الإِلَهِ الَّذِي أَنَا لَهُ (لَكَ نَحْنُ)، وَالَّذِي أَعْبُدُهُ (وَمَعَكَ نَحْنُ)» (أع27: 23). ويقول الكتاب المقدس لنا: «لَسْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ» - لأننا نخصّ الله، ونحن إلى جانب مطاليبه، فلذلك «مَجِّدُوا اللهَ فِي أَجْسَادِكُمْ وَفِي أَرْوَاحِكُمُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ» (1كو6: 19، 20).
وإذ يُشير ”عَمَاسَايَ“ – المُنقاد بالروح القدس – إلى داود باعتباره ”ابْنَ يَسَّى“، فهو إنما يوّجه التحية إلى خلفية داود الواعدة. وبالمباينة فإن شاول استخدم هذه العبارة بطريقة ساخرة ومُسيئة (1صم20: 27، 30، 31). كما أذنب ”نَابَالُ“ باستخدامها بطريقة لاذعة جدًا «وَقَالَ مَنْ هُوَ دَاوُدُ؟ وَمَنْ هُوَ ابْنُ يَسَّى؟» (1صم25: 10).
وداود نفسه لم ينسَ قط خلفيته المتواضعة، وإن كانت مُشرفة، لأنه حتى في ”كَلِمَاتِهِ الأَخِيرَةُ“ أشار إلى نفسه باسم ”دَاوُدَ بْنِ يَسَّى“ (2صم23: 1). فيا ليتنا نتخذ من هذا مثالاً للمؤمنين الأحداث، ألا ينسوا مُطلقًا والديهم الذين تقشفوا وادَّخروا لتربيتهم، وفي بعض الحالات قد استلزم ذلك تكاليف باهظة، احتملوها من أجل إتاحة تعليم أفضل، ومزايا عائلية لأبنائهم، لم يحصل عليها الوالدان. ولذا فقد يوجد خطر يتمثل في تنحية الوالدين جانبًا عندما يتحقق للجيل الأصغر نجاحًا ماديًا واجتماعيًا. والبعض يعتبر الخلفية العائلية المتواضعة مبعث خجل. أما داود فلم ينسَ قط أنه كان ”ابْنَ يَسَّى“.
«سَلاَمٌ سَلاَمٌ لَكَ، وَسَلاَمٌ لِمُسَاعِدِيكَ» ... تحية السلام هذه قد تبدو غريبة من رجال مُدججين بالسلاح، وفي وضع كهذا. ولكن أمنية ”عَمَاسَايَ“ لداود ومساعِديه هي أن ينجلي الصراع، ويسود السلام. وكانت له الثقة أن هذه الأمنية ستتحقق «لأَنَّ إِلَهَكَ مُعِينُكَ»، فالمعونة من الله حاسمة في كل مجالات الحياة. وفقط ”إِلَهُ السَّلاَمِ“ هو الذي يستطيع أن يُشيع ظروف السكينة والهدوء والسلام في وسط أجواء الاضطراب والفوضى. لقد «صَارَ هُدُوءٌ عَظِيمٌ» نشأ بعد أن حدث «نَوْءُ رِيحٍ عَظِيمٌ»، عندما قال الرب: «اسْكُتْ! ابْكَمْ!» (مر4: 35-41).
ولقد تُرجمت التحية المُضاعفة ”شالوم شالوم“ أي «سَلاَمٌ سَلاَمٌ» في إشعياء 26: 3 «سَالِمًا سَالِمًا»، وفي ترجمة أخرى ”في سلام تام“. ويتمتع بها كل مَن هو مُتَوَكِّلٌ على الرب «ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِمًا سَالِمًا، لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ». ولا شك أن داود يقع في هذه الفئة، ولذلك لم تنبس شفتا ”عَمَاسَايَ“ حتى في وسط الضغوط الشديدة بأية ملاحظة سوى «سَلاَمٌ سَلاَمٌ لَكَ، وَسَلاَمٌ لِمُسَاعِدِيكَ». وهذه تحية حقيقية، وتقدير واقعي لموقفه الذي يبدو مُحاطًا بالاضطراب.
إن المحبة والإعجاب نحو شخص داود قد امتلكتا هؤلاء الرجال. إن استحقاقه الشخصي، واليقين بأن الله معه كان يكفيهم. وكان هذا الخطاب القصير المُقدَّم بلهجة جادة لأقصى حد، وفي قوة الروح القدس، كافيًا لإقناع داود بأن هؤلاء الرجال على صواب حقيقة، ولذلك «قَبِلَهُمْ دَاوُدُ». بل والأكثر مِن ذلك فقد حظوا مكانًا ممتازًا من داود، ونالوا ثقته الكاملة فيهم، فأعطاهم مسؤوليات «وَجَعَلَهُمْ رُؤُوسَ الْجُيُوشِ» (ع18).
(يتبع)
[1] ”عَمَاسَايَ“ تقول عنه ترجمة فانديك العربية الشائعة «رَأْسِ الثَّوَالِثِ»، بينما تدعوه الترجمة العربية التفسيرية ”الَّذِي أَصْبَحَ فِي مَا بَعْدُ قَائِدَ الثَّلاَثَةِ“. أما ترجمة داربي (وكذلك ترجمة KJV) فتُطلِق عليه ”رئيس القواد“ (the chief of the captains). وتُطلِق عليه الترجمة الأمريكية القياسية الجديدة (ASB)”رئيس الثلاثين“.