عدد رقم 1 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
مُوسَى لَمَّا كَبِرَ (خر2: 10؛ عب11: 24)  

«وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ جَاءَتْ بِهِ إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ مُوسَى، وَقَالَتْ: إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ».  «وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ، فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ» (خر2: 10، 11).

«وَلَمَّا كَبِرَ الْوَلَدُ (مُوسَى) جَاءَتْ بِهِ (يُوكَابَدُ) إِلَى ابْنَةِ فِرْعَوْنَ فَصَارَ لَهَا ابْنًا، وَدَعَتِ اسْمَهُ «مُوسَى» وَقَالَتْ: إِنِّي انْتَشَلْتُهُ مِنَ الْمَاءِ» (خر2: 10).  نرى هنا صورة لما جاء في أيوب 5: 13 «الآخِذِ الْحُكَمَاءَ بِحِيلَتِهِمْ، فَتَتَهَوَّرُ مَشُورَةُ الْمَاكِرِينَ»لقد أراد فرعون أن يتعامل بحكمة وبمكر مع إسرائيل، لكيلا يصعدوا من أرض مصر، ولكن في النهاية أجبره الله أن يتكفل بطعام ومسكن وتعليم الرَّجُل الذي كان سوف يُتمّم الأمر الذي كان فرعون يُحاول أن يمنعه.  وهنا نرى أن حكمة فرعون أصبحت حماقة، ومكر وأساليب الشيطان قد هُزمت.

وهنا يجب أن نمر على جزئين بالتحديد في العهد الجديد يُلقيان الضوء على الفترة الزمنية من خروج 2: 10 إلى ع11:

في أعمال 7: 22 نقرأ «فَتَهَذَّبَ مُوسَى بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصـْرِيِّينَ، وَكَانَ مُقْتَدِرًا فِي الأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ»، ولكن قلبه لم يكن في هذه الأشياء.  لقد كان هناك شيءٌ أكثر جاذبية من المجد العالمي، ومن وسائل الراحة والرفاهية في البلاط الملكي لمصـر.  فبدون شك كان والداه المؤمنان قد عرَّفاه بوعود الله للأجداد، وبأن الوقت لخروج بني إسرائيل من العبودية، ورحيلهم إلى الأرض التي أُعطيت إلى إبراهيم، ليس بعيدًا.  لقد سمع، وآمن بما سمعه.  والنتيجة نراها في عبرانيين 11: 24-26 «بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ».

وعن خصائص إيمان موسى وإنكاره لذاته لنا ملاحظات مختصرة:

أولاً: نلاحظ طبيعة نكران موسى لذاته: «أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ» (عب11: 24).  ويُخبرنا يوسيفوس (المؤرخ اليهودي الشهير) أن فرعون لم يكن له بنين، وكذلك ابنته، ولذلك فإن الأكثر احتمالاً هو أن موسى كان سيخلفه على العرش.  ولكن بعد أن وصل موسى إلى سن الرجولة، فإنه واضح من كلمة «أَبَى» أنه حينئذٍ رفض الثروة والمجد والقوة، بل أكثر من ذلك رفض العرش.  ربما إذا قَبِلَ العرش كان يستطيع – بسهولة - أن يُخفف من معاناة شعبه، ويرفع أثقالهم، ولكنه «أَبَى».  ومع أن العناية الإلهية هي التي أوصلته إلى هذا المركز الرفيع لكنه بلإيمان ضحى بكل هذا وارتبط بشعب الرب.

ثانيًا: نلاحظ طبيعة اختياره: «مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ» (ع25)، فلم تُفرض عليه المعاناة فرضًا، ولكنه اختارها طوعًا.  لا يُمكننا أن نقول إنه لم يكن أمامه مهرب من العبودية، ولكنه بعد تأنٍّ، عقد العزم أن يُلقي قرعته مع شعب الله المُحتقَر والمُضطهد.  لقد فضَّل المشقة عن الراحة، والمعاناة عن المتعة، والعار والخزي عن الشهرة والمجد، والحزن عن الفرح، والبرية عن بلاط فرعون.  وجدير بالملاحظة أن هذا الاختيار لم يأتِ من طفل، ولكنه اختيار رجل كامل النضج، ولم يأتِ من أحمق، ولكنه مِن مَن «تَهَذَّبَ بِكُلِّ حِكْمَةِ الْمِصْرِيِّينَ» (أع7: 22).

ثالثًا: نلاحظ طبيعة الأمر الذي وجد فيه راحته وشبعه وقناعته واكتفاءه: «حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ» (ع26).  فالمكان الذي تطوَّع موسى وتقدَّم ليشغله، كان صعبًا للغاية، وعلى خلاف الوضع الذي شبَّ عليه في قصر فرعون، وفي المؤخرة، ومع ذلك لم يتردد موسى ولم يتذمر أو يشكو.

ولم يتحمل موسى فقط العار، ولكنه كان يُقدّره كأنه شيء جدير بالاحترام أكثر من ثروة أعظم دولة على الأرض آنذاك.  أليس هذا شيء يُخجل الكثيرين مِنّا؟

رابعًا: نلاحظ طبيعة المُحرك والحافز والباعث على اختياره: «لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ» (ع26): لا بد أن موسى كان قد سمع عن «ثِقَلَ المَجْدٍ الأَبَدِيّ»، فاستهان ”بِخِفَّةَ الضِيقَ الْوَقْتِي“، ولم ينظر إلى «الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى»، وأدرك أن متع الخطية هي وقتية ولفترة قصيرة للغاية، ولكن بالنظر إلى المجد الأبدي، يبدو الألم ضئيلاً، وإلى لحظة.  وهكذا سار موسى بالإيمان، وليس بالعيان.  لقد وضع عينيه لا على «الأَشْيَاءِ الَّتِي تُرَى»، بل على «الأَشْيَاءِ الَّتِي لاَ تُرَى» الأبدية (2كو4: 17، 18).  لقد كان مشغولاً بالمستقبل، فلم ينظر للحاضر، وبالتالي فقد كان سهلاً عليه أن يُبادل القصر بالبرية، ومُتع الخطية بعار المسيح، لأنه كان ينظر إلى المجازاة.

«وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ لَمَّا كَبِرَ مُوسَى أَنَّهُ خَرَجَ إِلَى إِخْوَتِهِ لِيَنْظُرَ فِي أَثْقَالِهِمْ، فَرَأَى رَجُلاً مِصْرِيًّا يَضْرِبُ رَجُلاً عِبْرَانِيًّا مِنْ إِخْوَتِهِ، فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ الْمِصْرِيَّ وَطَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ» (خر2: 11، 12).                                           

واحدة من أروع مميزات الكتاب المقدس التي عادة ما تؤثر في القارئ، هي الأمانة المُطلقة في سرد قصص أبطال الكتاب، على غير عادة عديد من السير الذاتية للبشـر.  إننا نرى أن شخصيات الكتاب المقدس تُرسم دائمًا بألوان الحقيقة.  إنهم يُذكرون كما في الواقع.  والمثال على ذلك أمامنا.  فموسى حقيقة كان شخصية رائعة، وقد مُنِحَ إيمانًا عظيمًا، ومع ذلك فالروح القدس لم يُخفِ عيوبه وأخطاءه.  فموسى كان متسـرعًا أكثر من اللازم، ومدفوعًا بحماس جسدي.  لقد كان يريد أن يسير قبل الرب.  ولكن وقت الله لخلاص إسرائيل لم يكن قد أتى بعد.  وكان يجب أن تمر 40 سنة أخرى من العبودية.  ولكن صبر موسى كان قد نفذ، وبدأ يعمل بقوته الجسدية.

البعض يميل إلى تبرئة موسى، ولكننا نقرأ «فَالْتَفَتَ إِلَى هُنَا وَهُنَاكَ وَرَأَى أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ، فَقَتَلَ الْمِصْـرِيَّ وطمره في الرمل» (خر2: 12).  هذه الكلمات تضع دليلاً أن موسى، في هذا الوقت، كان يسير بالعيان لا بالإيمان.  كما أنه بعد أن قَتَلَ الْمِصْـرِيَّ «طَمَرَهُ فِي الرَّمْلِ»، مما يُبرهن على خوفه من اكتشاف الأمر.  وهكذا فعل موسى مثلما نفعل جميعنا «لأَنَّنَا فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ نَعْثُرُ جَمِيعُنَا» (يع3: 2).

وفي اليوم التالي، عندما أدرك موسى أن أمر قتله للمصري قد عُرف، وأن فرعون سَمِعَ به، وطلب أن يقتله خاف، وهرب إلى مديان (خر2: 13-15).  وهذا ما يؤكد فكرتنا عن موسى.  فعين موسى لم تكن على الرب، ولكن على الإنسان.  وخوفه من الإنسان قد أوقعه في هذا الفعل.  فبمجرد تخيّله أن فرعون لا بد أن ينتقم منه، هرب إلى أرض مديان.  هذا ما يفعله السلوك بالعيان عندما يغيب الله عن المشهد.  هذا ما حدث مع موسى في البداية، لكن كاتب العبرانيين يخبرنا بشيء آخر، أن موسى «بالإيمان (وليس بالعيان) ترك مصر غير خائف من غضب الملك، لأنه تشدد، كأنه يرى من لا يُرى» (عب11: 27).  ففي البداية ضعف إيمانه فخاف من فرعون، لكنه استعاد اتزانه الروحي والرب شجعه، فبالإيمان ترك مصر غير خائف من غضب الملك، لأنه تشدد كأنه يرى من لا يُرى.

وبالرغم مِن أن هذا يبدو طبيعيًا من وجهة نظر الإنسان، ولكن يجب ألا نتجاهل أعمال العناية الإلهية، وتدبيرات الله.  فإن وقت الله لخلاص إسرائيل لم يكن قد أتى بعد.  كما أن ما فعله موسى لم يكن بحسب قصده، فلم يكن العصيان المُسلح هو ما يريده الله.  وهكذا علَّم الله درسًا مفيدًا لمن سيصير فيما بعد خادمه الأمين.  ولكن أليس هذا درسًا لنا؟  فعندما يفشل خادم الرب في الحصول على تصريح من الله ليؤدي مهمة معينة، فهذا لا يعني بالضـرورة وجود عيب في الخادم نفسه، ولكنه قد يكون بسبب أن وقت الله لهذه المهمة لم يأتِ بعد، مثلما فعل الرب مع داود الذي كان يريد بناء بيت الله، بسبب رغبته الحماسية فقط لتمجيد الله.  وعلى الرغم من ذلك لم يُسمح له ببناء البيت، ومع ذلك فهذا البيت قد بُنيَّ لا بواسطة داود، ولا حتى في أيام داود، بل في أيام سليمان ابنه، لأن وقت الله لم يكن قد أتى بعد.

مرة أخرى يُمكننا أن نرى الله خلف المشهد.  فموسى كان لا بد أن يقف أمام الرعاة بمفرده، وهذا يُرينا بسهولة أن الرب كان بجانبه، وهكذا مدَّ يد العون إلى بنات رعوئيل، وبذلك نجح موسى في أن ينال ثقة أبيهم.  وهذه الحادثة تُرينا أن تدبير الله لموسى أن يفتح له بيتًا في أثناء منفاه الطويل، وهكذا فإن «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ، الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِهِ» (رو8: 28).                                                                             

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com