عدد رقم 6 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المطوبة مريم 6  

                                                    

نبوءة عجيبة وسيفٌ سيجتاز

 

«وَلَمَّا تَمَّتْ ثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ لِيَخْتِنُوا الصَّبِيَّ سُمِّيَ يَسُوعَ، كَمَا تَسَمَّى مِنَ الْمَلاَكِ قَبْلَ أَنْ حُبِلَ بِهِ فِي الْبَطْنِ.

وَلَمَّا تَمَّتْ أَيَّامُ تَطْهِيرِهَا، حَسَبَ شَرِيعَةِ مُوسَى، صَعِدُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ لِيُقَدِّمُوهُ لِلرَّبِّ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ فَاتِحَ رَحِمٍ يُدْعَى قُدُّوسًا لِلرَّبِّ. وَلِكَيْ يُقَدِّمُوا ذَبِيحَةً كَمَا قِيلَ فِي نَامُوسِ الرَّبِّ: زَوْجَ يَمَامٍ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ.

وَكَانَ رَجُلٌ فِي أُورُشَلِيمَ اسْمُهُ سِمْعَانُ، وَهَذَا الرَّجُلُ كَانَ بَارًّا تَقِيًّا يَنْتَظِرُ تَعْزِيَةَ إِسْرَائِيلَ، وَالرُّوحُ الْقُدُسُ كَانَ عَلَيْهِ. وَكَانَ قَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ أَنَّهُ لاَ يَرَى الْمَوْتَ قَبْلَ أَنْ يَرَى مَسِيحَ الرَّبِّ.  فَأَتَى بِالرُّوحِ إِلَى الْهَيْكَلِ. وَعِنْدَمَا دَخَلَ بِالصَّبِيِّ يَسُوعَ أَبَوَاهُ، لِيَصْنَعَا لَهُ حَسَبَ عَادَةِ النَّامُوسِ، أَخَذَهُ عَلَى ذِرَاعَيْهِ وَبَارَكَ اللهَ وَقَالَ: «الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ، لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ». وَكَانَ يُوسُفُ وَأُمُّهُ يَتَعَجَّبَانِ مِمَّا قِيلَ فِيهِ. وَبَارَكَهُمَا سِمْعَانُ، وَقَالَ لِمَرْيَمَ أُمِّهِ:«هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ» (لو2: 21-35)

--

توقفنا في المرة السابقة عند مشهد ولادة المطوبة العذراء مريم لابنها البكر "يسوع" (لو2: 7) وما صاحب ذلك اليوم المشهود في حياتها، بل وفي حياة البشرية بأسرها والتاريخ في مجمله، ما صاحبه من مشاهد تنم عن البساطة والاتضاع، وعدم الإعفاء من تبعات الفقر الذي عاشت في ظله مُجمل حياتها مع كونها تقية، ومُطوبة من جميع الأجيال.

وفي هذا العدد نتوقف أمام مشهد ختان الصبي "يسوع" بعد ثمانية أيام حسب الشريعة (لو2: 21)، وما تلاه بعد أيام تطهيرها حسب الشريعة كذلك إذ صعد أبواه إلى أورشليم ليقدموه للرب (ع22) واللقاء الشهير بسمعان الرجل البار.  حيث نجد فكرتين تعمقتا في ذهن وقلب المطوبة مريم منذ ذلك الحين ولسنوات تلت لنحو 33 عامًا.

نبوءة عجيبة

 عندما أخذ ذلك البار التقي "سمعان"؛ المنتظر لتعزية إسرائيل؛ عندما أخذ الصبي على ذراعيه بارك الله ونطق بهذه الأقوال النبوية الهامة والجميلة «أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ، الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ، وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ».  ثم قال لمريم أمه «هَا إِنَّ هذَا قَدْ وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ فِي إِسْرَائِيلَ، وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ. وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ».

ويمكننا المرور على هذه النبوة العجيبة في مكوناتها السبعة المختلفة سريعًا كالتالي:

*خلاصك... فالخلاص بحسب العهد القديم كثيرًا ما رأيناه حدثًا وهنا إعلانًا يؤكد أنه شخص وليس مجرد حدث.

*الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ: كان معروفًا أن المسيا المنتظر سيأتي من اليهود، ولليهود ولكنه هنا يتحدث عن بركة تشمل "جميع الشعوب"، ويقول: "نور إعلان للأمم".

*مَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ: المهان والمستعبد للرومان.  ليس فقط سيأتي يوم ترفع عنه عبودية سياسية، بل بعض منه سترفع عنه عبودية الخطية ويتزين في يوم عتيد بالمجد!

*وُضِعَ لِسُقُوطِ وَقِيَامِ كَثِيرِينَ: أو بلغة المطوبة مريم نفسها في تسبحتها الشهيرة «أَنْزَلَ الأَعِزَّاءَ عَنِ الْكَرَاسِيِّ وَرَفَعَ الْمُتَّضِعِينَ» (لو1: 52).

*وَلِعَلاَمَةٍ تُقَاوَمُ: وهي إشارة واضحة إلى الصليب الذي عند اليهودي عثرة وعند اليوناني (الأممي) جهالة ولكنه في الواقع: قوة الله وحكمة الله.

*يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ: إشارة إلى ما ستعانيه هذه الأم الفاضلة بإزاء آلام وأحزان ابنها الفتي القدوس يسوع.

*لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ: كالنور الحقيقي الذي يكشف حقيقة كل شخص وكل شيء، في حياته، وفي موته، وحتى اليوم. 

واللافت للنظر أن المطوبة مريم – تحديدًا – كانت تحفظ مثل هذه الأقوال العجيبة المرتبطة بابنها في قلبها منذ البداية. فعند ولادته وعندما جاءت بشارة الملاك للرعاة (لو2 :8-20) الذين جاءوا مسرعين وقد قبلوا البشرى السماوية، وتسبيحة الجند السماوي العجيبة «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (ع14).

وقيل عن المطوبة وقتها «وَأَمَّا مَرْيَمُ فَكَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذَا الْكَلاَمِ مُتَفَكِّرَةً بِهِ فِي قَلْبِهَا» (ع19).

أحبائي: وهكذا عبر الزمان، يتحدث الله إلى قلوبنا في مناسبات مختلفة بصور متنوعة فنفهم بعض أبعاد حديثه وقتها، والبعض الآخر نفهمه في حينه بعد سنوات طويلة.  وعليه فحري بنا أن نحفظ ليس فقط كلامه بل وحتى معاملاته في قلوبنا، نفكر فيها، ونثق في صدقها، ونتوقع تحقيقها أيا كانت ولو طال الزمان.

 

 

سيفٌ سيجتاز

 

لكن لعل أكثر ما لفت انتباهها واسترعى مسامعها من كل حديث سمعان البار كان جزءًا خطيرًا مسها هي شخصيًا بشكل مباشر «وَأَنْتِ أَيْضًا يَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ» ولعلها وهي تقف مع سائر المريمات بعد عشرات السنين عند صليب يسوع أدركت ما عنته هذه الكلمات النبوية العجيبة وهي ترى ابنها القدوس البار معلقًا على صليب العار بين اثنين من الأشرار، وهي أم بكل معنى الكلمة اجتاز في نفسها سيف، ما أقساه وما أحده في آن!!

وعندما نرى كيف أن المطوبة بين النساء التقية الفاضلة التي يقال عنها كامرأة  فاضلة «كَثِيرَاتٌ عَمِلْنَ فَضْلاً، أَمَّا أَنْتِ فَفُقْتِ عَلَيْهِنَّ جَمِيعًا» (أم 31: 29)، عندما نراها يجتاز في نفسها سيف من هذا النوع، وهي ترى ابنها يموت "في عز شبابه" وهي واقفة إلى جواره لا تستطيع أن تفعل له شيئًا علينا أن ندرك – من جديد – أن أعظم عطايا الله تأتينا مغلفة بغلاف الألم والدموع.  كيف لا وهل هناك أعظم من عمل الصليب: شخصًا، وعملاً، وحبًا، ونتائج رائعة وواسعة؟  لكن هذا العمل الأعظم وهذه البركات الأروع وهذا المجد الذي لا نظير له، لم يستلزم فقط موت المخلص المعبود، لكنه استلزم – كذلك – سيف يجتاز في أم تقية، ربما تعجب الكثيرون والكثيرات: أتقياء وتقيات، وتحيروا (ولا أقول تعثروا)  لماذا يجتاز سيف بهذا الحجم، موجع إلى هذه الدرجة في نفس امرأة فاضلة بهذه الصورة؟  ومنذ ألفي عام إلى الآن، بل ومن بدء الخليقة وإلى فجرها القريب العتيد، تظل مثل هذه الأسئلة الحائرة تتطلب من المتألمين الأتقياء خضوعًا وتسليمًا، إيمانًا وصبرًا فهو لا يخطئ قط، والكل تحت سلطانه، وحكمته التي قد لا ندركها الآن، وأسئلتنا المنطقية التي لا نجد لها جوابًا حاليًا تنتظر مستقبلاً مشرقًا ليس فقط فيه تنتهي الآلام والأحزان عن يقين فقد قام المسيح، ولكن تجاوب فيه الأسئلة المحيرة وتستعلن فيه أفكار عظيمة ليس من قلوب كثيرة، لكن من القلب العظيم المحب الذي طالما تألم لآلام أحبائه دون أن تعفيهم حكمته من أن يجتازوا فيها، ولطالما ذرف معهم الدموع بحنانه قبل أن يتدخل بقدرته لينهي آلامهم إلى غير رجعة ويمسح دموعهم إلى الأبد.

 


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com