عدد رقم 6 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الريح العاصفة والجُنَيْنَة الصغيرة  

«اِسْتَيْقِظِي يَا رِيحَ الشَّمَالِ، وَتَعَالَيْ يَا رِيحَ الْجَنُوبِ!  هَبِّي عَلَى جَنَّتِي فَتَقْطُرَ أَطْيَابُهَا»

(نش4: 16)

هبت ريح عاصفة على الجنينة الصغيرة دون سابق إنذار، وضربتها بعنف فاهتزت وتزعزعت.  لم تأتِ من تلقاء ذاتها، ولا هبَّت صدفة أو جزافًا، ولم تتجه لهذه الجنينة عبثًا، بل أُرسلت بأمر من سيدها؛ رب الخليقة الذي أيقظها ودعاها فأخرجها من خزائن الرياح، بعد أن حدَّد قوتها، ورسم مسارها، وقرّر وجهتها وغرضها، آمرًا إياها «اِسْتَيْقِظِي يَا رِيحَ الشَّمَالِ، وَتَعَالَيْ يَا رِيحَ الْجَنُوبِ!  هَبِّي عَلَى جَنَّتِي فَتَقْطُرَ أَطْيَابُهَا» (نش4: 16)؛ دعاها كي تهب بتلك القوة العاصفة والسرعة الخاطفة المباغتة على تلك الجُنَيْنَة الصغيرة؛ إحدى جُنينات جنته الخاصة التي اقتناها لنفسه، ورعاها بنفسه.  اقتلعت شجرة ناضرة مثمرة، كما قطفت زهرة جميلة رقيقة، فوقعت في حضن الشجرة المُثمرة التي تناثر في الحال ثمرها الوافر هنا وهناك على العشب الأخضر.  جُرحِت شجرة البلسان، فسالت منها قطرات الطيب، وفاح أريجها فامتلأت وتعطرت أجواؤها بأفخر الأطياب، التي فاحت رائحتها الذكية وبلغت الجُنينات التي حولها، فأنعشتها، وحمل النسيم عبيرها، وارتقى به إلى عنان السماء.

جُنَيْنَة ”رفيق يعقوب“ ...

هذه الجُنَيْنَة الصغيرة الجميلة هي أسرة صديقنا المحبوب رفيق يعقوب.  هبّت رياح التجربة العاصفة وهم في طريق رحلة الحياة، وشاء الرب الحكيم في مشيئته، التي هي دائمًا صالحة، أن تتعرض هذه الأسرة الرقيقة لحادث أليم، فرقدت الأم الغالية ”ماجدة“، والابنة الجميلة الصغيرة ”آن“، كما أصيب الابن الحبيب ”جاكوب“.  انقلب العش الجميل الهادئ في غضون ثوانٍ قليلة.  لكننا نعلم يقينًا أن هذه الأسرة الصغيرة الغالية لم تسقط من يدي إلهنا الصالح والرحيم، الذي وضع حدودًا لرياح التجربة فلم تتعداها.  كل ما جرى كان في حدود مجال سلطان الله، الذي يمسك بزمام كل أطراف ذلك الحدث الكبير، فقد علم ما هو مُزمع أن يفعل.

فيض قطرات الطيب، وباكورة قطاف الثمر ...

اهتزت المشاعر، وذُرفت الدموع، وتحيرت الأذهان، وتوجعت القلوب، لكن كان المشهد بجملته ممتلئًا بروح التسليم الكامل والخضوع لمشيئة الرب، والثقة في صلاحه المطلق.  ففي عمق الألم شهدوا عن الرب أنه صالح مهما حدث، وهو وإن كان قد أخذ اثنين فقد أعطاهم ثلاثة هم رفيق وسالي وجاكوب، حيث أنقذهم من الخطر الداهم.  كانت هذه الشهادة الطيبة عن الرب الصالح كقطرات من البلسان العَطِر، أنعش نفوس كل الأحباء.  وماذا عن الشجرة المثمرة الناضرة التي غابت من المشهد؟!  إنها الأم الفاضلة ”ماجدة“ التي انطلقت إلى المجد في سلام تام، وكانت تحكي للطفلين في السيارة قصة إصعاد إيليا في المركبة النارية إلى السماء قبل الحادث مباشرة.  وبعد رقادها فاضت سيرتها العطرة الزاخرة بأحلى وأجود وأوفر الثمار.  أما الزهرة الجميلة ”آن“ فقد التقطتها ذراعي فادينا الحبيب، بابتسام في سلام وفرح غامر، ارتمت في حضنٍ أرقى، واكتسى وجهها الملائكي ببهاء أبقى.  صحيح أن ريح التجربة العاصفة جعل هذا العش الجميل يهتز بعنف، لكننا لا نشك أبدًا أن إلهنا قد زخَّر لهم وراء غيومها الكثيفة بركات غزيرة.

الحقيقة التي أيقظها الرب في أذهان أحبائنا، ويجب أن نضعها في اعتبارنا، هي أنه لا ممتلكاتنا (سيارات أو بيوت أو أموال ... إلخ.)، ولا حتى أولادنا، هم ملكًا لنا، بل للرب.  الرب أعطانا أولادنا الذين هم أثمن العطايا في الزمان لنربيهم له في خوف اسمه.  وإن كان من حق الرب أن يضمهم إليه، فمن مراحمه ولطفه أنه يعرف كيف يشفي المشاعر المتألمة، ويُعوّض حسب غناه وجود قلبه.

صاحب الجُنَيْنَة ...

إن رياح التجارب الأليمة التي يسمح بها الرب في مشيئته الصالحة قد تأتي على أفراد أو أسرة من عائلات قديسيه أو على كنيسة محلية.  لذا نفعل حسنًا إن انتبهنا للحقائق الثمينة المشجعة التالية التي تعلمنا إياها كلمة الله المباركة:

(1)    ربنا رسم كل رحلة العمر بتفاصيلها الحلوة والمرة، فهو رب الحياة وغرضها.  ومِن حقه أن يَأْتي إِلَى جَنَّتِهِ وَيَأْكُلْ ثَمَرَهُ النَّفِيسَ، وينتعش بطيبه العطر (نش4: 14).  لكن في ذات الوقت قلبه الجواد الفائض بالإحسان، يغمر حياة قديسيه المتألمين ببركاته العديدة، وتعويضاته الأكيدة وتعزياته المجيدة.  إنه أبو الرأفة وإله كل تعزية الذي يعزي المتضعين.

(2)    ربنا صاحب سلطان، ويدير حياتنا بمنتهى الإتقان، لا دور للصدفة ولا معنى للحظ العاثر، ولا شيء يُدعى عبث الأقدار، لأن إلهنا يبسط سلطانه على كل شيء: أحداث الزمان وترتيب وقوعها وسلوك البشر، حتى أخطاءنا يتحكم فيها، ويجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير للذين يحبونه.

(3)    ربنا حكيم، يعلم ماذا ومتى وأين وكيف يفعل.  قدرته تسمح بأن يُخبئنا من مهب الريح، ويسترنا في يوم الشر.  إذا نجَّى من الريح الشديدة وأنقذ، فله قصد من ذلك، ويستحق منا كل شكرنا وأناشيد حمدنا.  وإن قصد في حكمته أن الريح العاصفة تجعلنا نتألم يسيرًا أو كثيرًا، فنحن نعلم أنه صنع الكل لغرضه، حتى بهذه الرياح العاصفة يُحقّق بها مقاصده الصالحة في حياتنا، ويُخرج من شرها خيرًا، ومن تنّورها دُررًا، فيتمجَّد شخصه، ويستخدم نتائجها التي قصدها - في مسرة صلاحه - لبركة من يتألمون.  وحري بنا ونحن نتألم في طريق صنع مشيئة الله أن نستودع أنفسنا للخالق الأمين والعطوف الذي يعرف جبلتنا ويذكر أننا تراب نحن.

(4)    ربنا رحيم؛ يجرح ويعصب، ولو أحزن يرحم حسب كثرة مراحمه.  قريب من المنكسري القلوب ويخلِّص المنسحقي الروح. إله المراحم وأبو الرأفات، الذي لم يزل يُعزي ويُشدد، يُعين ويُعوض، وهو مُتخصّص في تحويل المرارة لترنيمات. 

هذه الأسرة الصغيرة الرقيقة، لم تكن هي الأولى التي استيقظت عليها رِيحُ الشَّمَالِ الشديدة، وربما لن تكون الأخيرة؛ فالآلام هي طابع رحلة البرية التي نرجو أن تنتهي سريعًا، ويأتينا عريسنا المجيد قريبًا، ونودِّع بلا رجعة كل هذه التجارب الأليمة، ونكون إلى الأبد معه في بيت الآب، في مجد لا يوصف وأناشيد الفرح التي لن تتوقف.  هناك سوف يمسح ربنا الدموع ولا بكاء في تلك الربوع.

أُوَدِّعُ ظُلْمَ الْحَيَاه
وَأَسْعَدُ حِينَ أَرَى
سَأَنْسَى أَنَا أَتْعَابِي هُنَا
حِينَ ألْقَى يَسُوعَ الْحَبِيبْ

 

وَكَدَرَ الْعَيْشِ
حَبِيبِي فِي الْعَرْشِ
سَأَنْسَى أَنَا آلاَمِي هُنَا
حِينَ ألْقَى يَسُوعَ الْحَبِيبْ

                                                                                        

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com