مقدمة
نعلم يقينًا أن الشيطان ليس لديه قناعات معينة
في أمور الله، فقد يختلف المؤمنون معًا حول بعض المفاهيم الكتابية، لكن الشيطان
عندما يُروِّج لتعليم ما فهو لا يفعل ذلك من منطلق أنه مقتنع به، فإن كنا نتكلم
اليوم عن الإنجيل الأخلاقي قاصدين فضح خداع الحية القديمة عندما روَّجت له إذ دست
السُّم وسط العسل كما سنرى لاحقًا، فيجب ألا يفوتنا أن هذا لم يكن الإنجيل الوحيد
الذي تم تقديمه للناس، لذا سنتكلم بشكل مقتضب عن أمثلة أخرى لأناجيل أخرى روَّجت
لها الحية إذ رأت فيها فرصة سانحة لتحقيق هدفها الذي كان هو القاسم المشترك بينها
جميعًا، عالمين أن أقدم إنجيل أعطاه الروح القدس لقب ”إنجيل آخر“ كان في غلاطية (غل1:
6)، وهو الإنجيل الطقسي الذي أعاد المسيحيين إلى الأركان الضعيفة الفقيرة
وخلط بين اليهودية والمسيحية وبين الناموس والنعمة، وقد وضع الشيطان الأسس الراسخة
لهذا الإنجيل منذ العصر الرسولي، أزهى عصور الكنيسة، وما زلنا نعاني من آثاره إلى
يومنا هذا.
القاسم المشترك
إن القاسم
المشترك الذي يجمع بين الأناجيل المختلفة التي دعم الشيطان المناداة بها هو أن
جميعها تهدف إلى إبعاد الناس عن المسيح. وكما فهمنا أن الإنجيل الطقسي كان أقدمها،
ومع أن الفلسفة أدخلها الشيطان للتأثير على المسيحية، وهذا ما حذر منه الرسول في
كولوسي عندما قال: «انظروا أن لا يكون أحد يسبيكم بالفلسفة وبغرور باطل، حسب تقليد
الناس، حسب أركان العالم، وليس حسب المسيح» (كو2: 8)، إلا أن دعائم الإنجيل الطقسي
كانت متينة إلى الحد الذي به أجبرت المسيحيين إلى قبول الفلسفات التي تتوافق معها،
لذلك فالفلسفة الشرقية التي نادت بوجوب حرمان الإنسان من أطعمة معينة بدعوى أن هذا
يقدسه روحيًّا كانت هي الأكثر مواءمةً للإنجيل الطقسي، ومن ثَم استطاعت وحدها، دون
غيرها، بسهولة أن تدخل المسيحية. ولما
كانت العبادات الوثنية تنطوي على الكثير من الممارسات الطقسية تيسر أيضًا للوثنية
أن تؤثر على العبادة المسيحية لاسيما بعد اعتراف الإمبراطورية الرومانية الوثنية
بالمسيحية كديانة رسمية لها في القرن الرابع. وكما كان من السهل على الشيطان تثبيت الوثنية
بين الأمم ووضع العراقيل أمام اليهود في طريق تبعية الرب وإدخال الوثنية إليهم
كبديل ديني (إر2: 11)، هكذا الآن أيضًا نجد أن الممارسات التي استطاعت أن تُثَبِّت
أقدامها في الكنائس على مدى قرون مديدة هي الممارسات الطقسية الناتجة عن خلط اليهودية
والفلسفة والوثنية بالمسيحية. نعم إن
الخلط بين الناموس والنعمة هو الشر التعليمي الأول الذي به تخمر العجين كله وسيمتد
أثره لِما بعد الاختطاف.
بعد ثورة الإصلاح واستنارة الفكر الإنساني حيث
ولَّت العصور المظلمة، كان من الضروري أن يخترع إبليس أناجيل أخرى بها يعطل عمل
روح الله بين الأجيال التالية لرجال الإصلاح، فعمد إلى إبراز العقل كطاقة جبارة
يتميَّز بها الإنسان، والهدف أن يرى اللاهوتيون أن إعمال العقل في حدود
الإيمان بأن الكتاب المقدس هو أقوال الله المعصومة غير القابلة للنقد والتحليل، هو
نوع من عدم استغلال الطاقات الذهنية أفضل استغلال، فلجأوا إلى الفلسفات البشرية
لتحليل أمور الله ومحاولة الوصول إليه بالمنطق الإنساني بدون الإعلان الإلهي في
المكتوب، ناسين أن ليس كل فكر مقنع للعقل بإمكانه أن يقود النفس نحو الله. غير أن هناك الكثير من الشخصيات لا تُعنى كثيرًا
بمسألة إعمال العقل، ولذا لم يكن هذا التوجه مناسبًا لها، فكان لزامًا على الشيطان
أن يوجد لهم إنجيلاً يناسبهم، وقد وجد في الأعمال الخيرية ضالته، وهكذا نشأ الإنجيل
الاجتماعي. بالطبع لا غبار على أننا
يمكن أن نستخدم العمل الخيري كوسيلة لتقديم المسيح، أما أن يصبح العمل الخيري هو
نفسه الإنجيل فهذا شيء آخر، وبالطبع هو مخالف للإنجيل الذي تكلمنا عنه كلمة الله. وبعد مرور الوقت كان لا بد له من الترويج لإنجيل
جديد، وقد لجأ لتسليط الضوء على الأفعال الخارقة للطبيعة محاولاً استعادة
المواهب المعجزية ووضعها على رأس المواهب، مع أنها لم تكن حائزة على هذا الوضع في
عصر الرسل (1كو12: 28، 29)، وبالتالي كان يجب أن يصبغ هذا الإنجيل بصبغة كتابية
قائمة على أنصاف الحقائق حيث جعل من بركات ولعنات الناموس مبدأً حاكمًا للمؤمنين
الآن رغم تغير التدبير وإزالة لعنة الناموس، إذ قد افتدى المسيح من كانوا تحتها –
أعني اليهود – منها، وهذا ما يُسمى بإنجيل الصحة والغنى، حيث اعتبر أن من
أصيب بمرض أو يعاني من ضيق ذات اليد يجب عليه أن يبحث عن الخطية التي كانت وراء
ذلك ويتوب عنها حتى تزول تلك اللعنة، وهذا بطبيعة الحال تعليم مدمر لعلاقة الإنسان
بالله ومخالف لفكر الكتاب على طول الخط.
رأينا في جميع
الأناجيل السابقة شيئًا مشتركًا، وهو محاولة الشيطان أن يضع شيئًا أوشخصًا غير
المسيح في المشهد أمام الإنسان، ففي البداية وضع الطقس وما يقوم به الإنسان من
واجبات طقسية تجاه الله كشيء بارز، ثم وضع العقل وإمكانياته وقناعاته الشخصية في
المقام الأول قبل الإيمان، وأخيرًا وضع أصحاب المواهب الخارقة للطبيعة في صدارة
المشهد. وهكذا يبذل إبليس قصارى جهده
لإبعاد الناس عن المسيح باستخدام أي إنجيل آخر، وإذا وجد أنه لم يستطع أن يغوينا
بإنجيل آخر سيعمل جاهدًا أن يستغل تهاوننا في العيشة كما يحق لإنجيل المسيح لتحقيق
ذات الغرض، فليس كل من أدرك ذهنيًّا إنجيل الله الصحيح بمنأى عن سهام العدو.
الإنجيل
الأخلاقي هو أيضًا واحد من تلك القائمة، وأعني به أنه إنجيل يقدم المسيح كمعلم
وليس كمخلص، يراه داعية للأخلاق الحسنة والمبادئ الإنسانية الراقية، لا سيما التي
وردت في موعظة الجبل، وليس متممًا للفداء، يركز كثيرًا على حياته ولا يقترب من
التعليم الكتابي النقي المختص بموته وقيامته دون أن ينكرهما. يتعامل مع الإنسان الطبيعي الفاسد محاولاً
إصلاحه لكي ينتج شيئًا حسنًا ومقبولاً أمام الله، دون الحاجة إلى الولادة من
فوق. إنه يفترض أن الإنسان خَيِّر بطبعه
ويستطيع أن يرضي الله متى توفرت الظروف الحسنة من حوله، ناسيًا أنه من الداخل من
قلوب الناس، وليس من الظروف الخارجية، تخرج كل الشرور، وأنه لو أنتج الناموس برًا
مقبولاً أمام الله، يكون المسيح قد مات بلا سبب.