خامسًا:
الاندفاع نحو الحرية
سنتكلم في هذا
المقال عن تطور مفهوم الحرية باعتباره الأثر الخامس من آثار الموجة الثانية
للثورة، فبالرغم من أن الحرية أخذت حيزًا لا بأس به من اهتمام الثوار في الموجة
الأولى، لكن قيام نظام حكم كان يسعى لإقامة دولة دينية من شأنها أن تقلص مساحة
الحرية المتاحة للناس أدى لأن يأخذ الكلام عن الحرية حيزًا أكبر في الموجة
الثانية، وكالمعتاد تأثر شبابنا المسيحي بهذا الأمر، وقد ظهر هذا التأثر في صورة رفضهم
كل أشكال السلطة الكنسية مثل الإنذار أو التأديب والحكم داخل الكنيسة، على أنني لم
أقم بكتابة هذا المقال بغرض شرح التعليم الخاص بهذا السلطان الكنسي، لكن لي غرضان
وراء كتابة هذا المقال هما: توضيح مفهوم الشركة التي أرى أننا اختزلناها لتكون
شكلاً من أشكال العلاقات الاجتماعية، وتفسير بعض الآيات المتعلقة بمفهوم الحكم
والإدانة والتي أُسيء استخدام بعضها وأُهمل البعض الآخر، وإنني أرى أن القارئ
العزيز إذا اتضحت أمامه هذه المفاهيم سيكتشف أن الحرية المزعومة في كثير من
الأوساط المسيحية الآن تختلف عن الحرية المسيحية التي تقدمها لنا كلمة الله.
مفهوم الشركة
من يقرأ
الأصحاح الأول من رسالة يوحنا الرسول الأولى يكتشف أن هناك صلة وثيقة بين شركتنا
مع الرب وشركتنا بعضنا مع بعض، فإن نجاحنا في إقامة شركة مع الرب لا ينفصل أبدًا
عن إقامة الشركة بعضنا مع بعض. فوجود
كنيسة محلية تتألف من أولاد الله، وكان بإمكاني أن أكون في شركة معهم ولم أسعَ
لذلك، فإن كل ما أقوله عن وجود شركة بيني وبين الرب هو ادعاء. إلا أننا نستطيع أن نفهم شيئًا آخر من هذا
الأصحاح، أن الشركة بعضنا مع بعض تتطلب شيئًا واحدًا لممارستها، لم يكن هذا الشيء
هو توافق المستوى الاجتماعي أو المادي أو حتى الروحي بين أولاد الله، لكنه كان
السلوك في النور، فالسلوك في الظلمة يقطع الشركة مع الرب وفي الوقت نفسه يُفسد
الشركة بعضنا مع بعض. لذا فلم يكن من المُستغرب
أن نجد الرسول بولس يكلف الروحيين في كنيسة الله بمهمة مؤثرة، لم تكن هذه المهمة
هي التبشير أو التعليم لكنها كانت إصلاح من أُخذ في زلة (غل6: 1)، هذا لأن الزلة
إذا لم تُعالج فستتحول إلى سلوك في الظلمة، الأمر الذي يستحيل معه إقامة شركة بين
هذا الشخص وباقي الكنيسة، فالسلوك في الظلمة يستوجب العزل من الشركة، وهو سلطان
منحه المسيح للكنيسة المجتمعة إلى اسم الرب فقط وهو ما يُطلق عليه "سلطان
الحل والربط" (مت18: 18-20). والسؤال
الآن لماذا يتدخل الروحيون ليصلحوا؟ ولماذا يتدخل الشيوخ لينذروا؟ ولماذا تتدخل الكنيسة
لتحكم إذا فشلت المحاولات السابقة؟ هذه
الأسئلة لها إجابات متعددة ولكن الإجابة المبدئية التي أريد أن أقررها هنا، هي أن
الله لم يدعُنا لنؤسس علاقة وشركة معه فحسب، ولكنه قبل أن يدعو كل واحد منا بمفرده
سبق أن أسس كيانًا يضم إليه كل هؤلاء المدعوين فيمتعهم بالفرح الكامل الذي لا يمكن
أن يصل لقلب المؤمن إلا من خلال علاقة تواصل حميمة ذات وجهين يستحيل الفصل بينهما،
هما الشركة معه والشركة بعضنا مع بعض.
أعلم يقينًا أن
قرائي الأحباء من الشباب سترتفع أصواتهم اعتراضًا على هذا الكلام، وللأسف أن هذا
الاعتراض يبدو من الخارج أنه اعتراض على التعليم نفسه، لكني إحقاقًا للحق وبعد
مناقشات كثيرة مع شباب مخلصين يحبون الرب وكلمته وجدت أن الاعتراض الحقيقي ليس على
التعليم، فهذا التعليم له غلاوته على قلوب الكثيرين منهم، وهم يُقدرون روعة هذا
الحق إذا تم تطبيقه بشكل صحيح في اجتماعاتنا، وحقيقة الأمر أن واقعنا يشهد بكل
جلاء أننا كثيرًا ما فشلنا في تطبيق الحق المختص بالتأديب الكنسي كما علمته لنا
كلمة الله، مما أدى لإيجاد ثغرات عديدة دخلت منها الثعالب الصغيرة لتفسد العلاقة
بين شبابنا وشيوخنا، ومن ينكر هذه الحقيقة فهو كمن يريد أن يضع برقعًا على وجهه
لينكر وجود الشمس في وضح النهار.
إنني أريد أن
يصل صوتي لجميع إخوتي الشباب، أنه كما لم يكن لدى بولس الرسول علاجًا لمشكلة
أفودية وسنتيخي في كنيسة فيلبي سوى أن يستحضر أمامهم فكر المسيح (في2: 3-8)، هكذا
الآن أيضًا لا يوجد لنا علاج آخر سواه، دعونا نتذكر ما قيل عن المسيح: "لأن
المُقدِّس والمُقدَّسين جميعهم من واحد، فلهذا السبب لا يستحي أن يدعوهم إخوة، قائلاً:
أخبر باسمك إخوتي، وفي وسط الكنيسة أسبحك"(عب2: 11، 12). إن المسيح لم ولن يستحي بنا أيًّا كانت الأسباب،
فهل يليق بنا أن نستحي ببعضنا البعض؟ أو هل هناك مبرر مقبول أمام الله لمثل هذا
التفكير؟ إن كنت أستحي بإخوتي فبمن أتشرف؟ وهنا أتوجه أخيرًا باللوم على كل من
يريد أن يستقل بذاته عن جماعة الرب بدعوى أننا فشلنا تحت المسؤولية إذ لا بد أن
يعلم أن هذا السلوك يخدم الذات البغيضة وليس مجد المسيح، مدفوعًا بالكبرياء وليس
بالاتضاع.
الآيات الخمس
لنذهب الآن إلى
خمس آيات في كلمة الله أرى أنها ألقت ضوءًا على مسألة الحكم والإدانة في علاقة
المؤمنين ببعضهم، سأبدأ بثلاث آيات يبدو لي أنه أسيء استخدامهم، وأنتهي باثنتين تم
إهمالهما، وسنستخلص بمعونة الرب الحدود الوضحة لهذا الأمر بعد أن نفهم بشكل صحيح
تلك الآيات.
أولاً: "لا تدينوا لكي لا تُدانوا "(مت7:
1-5)
أساء الكثيرون
استخدام هذا الجزء إذ ظنوا أن الرب يرفض هنا بشكل قاطع أي تدخل في الشأن الروحي
بين مؤمن وآخر طالما أن هذا التدخل يأخذ شكل اللوم أو العتاب أوالتوبيخ، والحقيقة
أن الرب لم يقصد هذا المعنى بدليل أنه هو نفسه أنهى الكلام في هذا الموضوع قائلاً:
"وحينئذ تبصر جيدًا أن تخرج
القذى من عين أخيك"، فما رفضه الرب في البداية أن تنظر القذى دون أن
تخرجها، فأنت تنظرها وتسلط الضوء عليها لتدين صاحبها، والواقع أنك لن تتمكن من
إخراجها نظرًا لوجود خشبة في عينك وأنت تتجاهلها متعمدًا لتُبعد أنظار الناس عنها
من خلال إدانتك لأخيك التي تتقن تغليفها بالأغراض المقدسة كالحرص على مجد الرب
الأمر الذي يسهل ادعاؤه، أما إذا اعترفت بوجود الخشبة في عينك وأخرجتها فاذهب
بمحبة لأخيك – وهذا ما يجب عليك – لتساعده على إخراج القذى، أكرر مرة أخرى أننا
كثيرًا ما فشلنا في تطبيق هذا، لكنني هنا فقط أريد أن أقرر أن هذا الجزء لا يتعارض
إطلاقًا مع مبدأ مسؤولية الروحيين عن ملاحظة إخوتهم بهدف مساعدتهم.
ثانيًا: "
لا لمحاكمة الأفكار "(رو14: 1)
إن بقراءتنا
لذلك الأصحاح نفهم أن القضية التي كان بولس الرسول بصدد الفصل فيها، هي أن كنيسة
رومية كان بها مؤمنون كثيرون أقوياء وقليلون ضعفاء، وجانب القوة والضعف في هذا
الأصحاح كان الثقة في مركز المسيحي الجديد في المسيح الذي أنهى نسبتة للإنسان في
الجسد، أي أن المؤمنين الأقوياء كانوا ثابتين في الحق المختص بموتهم مع المسيح
وقيامتهم معه الأمر الذي جعلهم خليقة جديدة وأعتقهم من الناموس الذي كان يتعامل مع
الإنسان في الجسد مطالبًا إياه بالامتناع عن تناول بعض الأطعمة لكونها نجسة حسب
الشريعة اليهودية وتقديس بعض الأيام في الأسبوع أو في السنة، وعلى العكس من ذلك
كان المؤمنون الضعفاء إذ لم يكن الحق المسيحي قد تمكن من أذهانهم وقلوبهم بعد.
وكان الخطأ الذي وقع فيه الأقوياء هو أنهم أرادوا تحرير إخوتهم الضعفاء من الناموس
بقوتهم الذاتية دون الاعتماد على قوة الروح القدس، فدخلوا معهم في مناقشات ظنًّا
منهم أنه بدحضهم للأفكار الطقسية التي خضع لها الضعفاء سيحررونهم منها، وهذا هو
المقصود بتعبير "محاكمة الأفكار"، وزادوا على ذلك أنهم فعلوا هذا ليس
بروح المحبة بل بروح الازدراء مما أدَّى لأن يتعامل معهم الضعفاء بروح الإدانة،
فأراد الرسول أن يجنب الأقوياء أنفسهم الدخول في هذا الأمر ويقبلوا الضعفاء بينهم
تاركين الحق يحررهم بقوته، فالمسيح علمنا أن الحق هو الذي يحرر وليس المؤمنون
الأقوياء (يو8: 32).
غير أننا هنا
يجب أن نتذكر أنه عندما تحول الرجوع إلى الناموس من مجرد سلوك أقلية غير مدركة
لمركزها في المسيح إلى تعليم يُنادى به من على المنابر المسيحية، وجدنا الرسول
بولس نفسه غيَّر لهجة كلامه لتصبح شديدة جدًّا، فها نحن نراه يقول في موضع آخر: "
ولكن الروح يقول صريحًا: إنه في الأزمنة الأخيرة يرتد قوم عن الإيمان، تابعين
أرواحًا مضلة وتعاليم شياطين، في رياء أقوال كاذبة، موسومة ضمائرهم، مانعين عن
الزواج، وآمرين أن يُمتنع عن أطعمة قد خلقها الله لتُتناول بالشكر من المؤمنين وعارفي
الحق. " (1تي4: 1-3)، وهنا يجب علينا أن نضع في بالنا أن هناك فرقًا
بين شخص غير مدرك للحق وآخر معاند ويريد أن ينشر تعاليمه الخاطئة من على المنبر،
فكما أن الروحيين عليهم أن يقبلوا الأول إظهارًا للمحبة عليهم أيضًا أن يرفضوا
الثاني حفاظًا على الحق، فها هو بولس نفسه الذي أوصى بقبول الضعفاء رفض قبول
التعليم واصفًا من ينادون به بأصعب الأوصاف.
وعلى هذا فإن الادعاء بأن كنيسة الله يجب عليها
أن تقبل الجميع في الشركة معها دون النظر للتعليم الذي سيُعَلمون به إذا ما أخذوا
الحق في ذلك باشتراكهم معنا في مائدة الرب بدعوى وجوب قبول الآخر، أمر ليس له أساس
في كلمة الله، لكنها مبادئ الليبرالية العالمية التي ترتدي ثوبًا مسيحيَّا اسمه
"قبول الآخر"، تلك المبادئ التي سوف نراها عن قريب تُفسد كنيسة الله
وتستغل نعمة الله لتبيح الدعارة، والحقيقة الأكيدة والمرعبة أن دينونة الله تنتظر
كل من يسلك هذا الطريق (يه4)، وليعلم الذين يقولون أنه يجب علينا أن نقبل في
الشركة جميع الناس طالما أنهم لم ينكروا لاهوت المسيح سيقبلون بعد اختطاف الكنيسة
أن يضعوا أيديهم في يد النبي الكذاب الذي هو ضد المسيح ليتزعموا عملية الارتداد
الرسمي والعلني للمسيحية الاسمية عن المسيح وتصبح هي بابل الزانية العظيمة
المذكورة في سفر الرؤيا.
ثالثا: "إذا لا تحكموا في شيء قبل الوقت
" (1كو4: 3-5)
لقد شكك
الكورنثيون في رسولية بولس، والواقع أنهم فعلوا ذلك لأن أغلبهم لم يكن مُعجبًا به
لكونه لا يستخدم كلام الحكمة الإنسانية المقنع بل كان عاميًّا في الكلام (1كو2:
3-5 و 2كو11: 6)، بالطبع لم يستطع هؤلاء أن يفصحوا عما بداخلهم، لكنهم لجأوا
لتحليل دوافع بولس للخدمة وحكموا أن دوافعه لم تكن مقدسة، وأنه يسعى لادعاء
الرسولية، وما ساعد على تثبيت هذا الكلام عندهم أن بولس لم يكن يستخدم سلطانه
الرسولي كباقي الرسل المعتبرين أعمدة، لقد جاء الرسول بولس بردود كثيرة ليفند
كلامهم في مواضع متعددة، لكن رده هنا كان يحمل نوعًا من التوبيخ على مسألة حكمهم
على دوافعه موضحًا أن الرب وحده هو الذي يحتفظ لنفسه بالحق في الحكم علي هذا
الأمر، لقد أساء الكثيرون استخدام هذه الآية كما فعلوا بالآيتين السابقتين، فرفضوا
كل إجراءات التأديب الكنسي بدعوى أن الرب سيحكم في المستقبل على جميع الناس،
والواقع أن الكتاب يذخر بالتكليفات المعطاة للشيوخ الروحيين بالإنذار والتوبيخ،
وللكنيسة المجتمعة إلى اسم الرب باتخاذ الأحكام الكنسية، وقد أوضحنا أن الشركة بين
القديسين هي التي تحتم فعل ذلك، على أن الإنذار والحكم في الكنيسة لا يكون إلا على
الأقوال والأفعال، أما ما يختص بالرب دون سواه هو الدوافع، وعلى هذا الأساس بنى
بولس رده، فخفايا الظلام التي لم تظهر بعد على السطح كيف يجترئ المؤمنون حتى لو
كانوا روحيين أن يحكموا فيها، إن روحانيتهم ستدفعهم لأن يتركوا هذا الأمر للرب
الذي يستطيع أن ينير خفايا الظلام ويظهر آراء القلوب، لكن هذا لم يكن مدعاة على
الإطلاق لانتزاع سلطة الكنيسة في الحكم على ما ظهر من دوافع غير نقية في صورة
أقوال أو أفعال إذا توفرت الدلائل عليها، ففي الأصحاح التالي سيوصي بولس الكنيسة
لا بالحكم فقط بل بإدانة من بداخلها إذا كان يحتضن شرًّا، وهذا سنُعلق عليه
لاحقًا، وأخيرًا أريد أن ألفت نظر القارئ العزيز أن الدوافع غير المقدسة في أغلب
الأحيان ستنكشف بالقول أو بالفعل إن عاجلاً أو آجلاً.
وللحديث بقية إذا شاء الرب