إن نجاح العمل الروحي في كنيسة الله، وضمان استمراره وتقدُّمه، يتوقف على وجود الأساقفة الذين يقومون بدور النظارة والرعاية والمتابعة للأفراد والعائلات في كل كنيسة محلية.  وهذه الوظيفة الكنسية ترتبط ببيت الله على الأرض.  لهذا نقرأ عنها تفصيليًا، وعن الشروط الواجب توافرها في الأسقف في رسالة بيت الله، أعني رسالة تيموثاوس الأولى.

   وكلمة "أسقف" تعني "ناظر"، أي أنه شخص له العين المفتوحة التي تلاحظ وتراقب كل شيء، وتكتشف مبكرًا كل تغيير وانحدار وتراجُع وهبوط في الحالة الروحية، وتدرك الخطر الذي يزحف على الفرد أو الأسرة المسيحية.  والكتاب يقول لكل من يتحمل المسؤولية في رعاية القطيع: "معرفة اعرف حال غنمك، واجعل قلبك إلى قطعانك" (أم27: 23).  إنه يمتلك ليس فقط العين البصيرة المفتوحة، بل القلب الراعوي الذي يشفق على القطيع ويهتم بأحوالهم بإخلاص (في 2: 20).  إنه يحنو ويترفق، يحمل ويطعم، يعالج ويشجع، يتابع ويراقب، يحصن ويحذر من المخاطر. 

   وفي كل كنيسة محلية سيجد الراعي أن هناك "الطفل" في الإيمان الذي يحتاج إلى احتضان وإطعام واهتمام حتى يكبر، ولعلنا نتذكر أن أول وصية قالها الرب لبطرس على بحر طبرية بعد القيامة هي: "ارع خرافي" أي "اطعم حملاني" (يو21: 15).  وعلى الراعي أن يُميِّز الطعام المناسب للأطفال.  كما يحتاج الطفل إلى التوجيه والتعليم الصحيح حتى يثبت وينشأ في جو صحي من المحبة والنقاء، ويكون راسخًا في الإيمان، ولا يُحمل بكل ريح تعليم (أف4: 14).  إنه يحتاج إلى الأبوة الروحية والنصح والتحريض وأحيانًا إلى الحزم والإنذار.  ويحتاج إلى الأمومة الروحية كما تُربي المرضعة أولادها (1تس2: 7 – 12).  ويحتاج إلى الصبر وطول الأناة لأنه طفل وأخطاؤه كثيرة.  وبالطبع فإن النمو الروحي هو تدريجي وبطيء.  وحتى لو كانت الطفولة حالة جسدية واستمرت لفترة طويلة بشكل محزن، كما حدث مع المؤمنين في كورنتوس، فإن الرسول بولس يقول لهم: "وأنا أيها الإخوة لم أستطع أن أكلمكم كروحيين بل كجسديين، كأطفال في المسيح، سقيتكم لبنًا لا طعامًا" (1كو3: 1، 2).

   وسيجد الراعي كذلك في القطيع "المريض" الذي يحتاج إلى العلاج والتقوية، حيث يظهر فيه الضعف والهزال وانعدام الشهية الروحية والتراجع.  وحتى لو كان له سنوات طويلة مع الرب، فهذا لا يعفيه من أن يتعرض لأي نوع من الأمراض الروحية.  وعلى الراعي أن يهتم به اهتمامًا خاصًا حتى يعود لحالته الأولى ويستعيد قوته ونضارته ونشاطه.

   وسيجد في القطيع "المجروح" الذي تعرض لتجربة أو تعرض لمواقف جارحة من الآخرين، ولا سيما من إخوته، وقد يكون ذلك بسبب كلمة قاسية أو سوء فهم أو نوع من التجاهل والاحتقار، وهو رقيق وحساس.  والراعي يعرف ظروفه، ويفهم نفسيته، ويعصب جروحه. 

   كما سيجد "المكسور" الذي زادت أحزانه وكثرت تجاربه وتثقَّل جدًا فوق الطاقة، وقد يكون ذلك نتيجة صدمة فجائية عنيفة سمحت بها حكمة الله، وهو يحتاج إلى من يرثي له ويتعاطف معه ويعزيه ويواسيه ويجبر كسره.

   وهناك أيضًا "المطرود"، وهو صغير النفس ويشعر أنه غريب وسط الإخوة المجتمعين، وليس له أحد يشجعه، وقد لا يكون في مركز اجتماعي مرموق، ولا يملك مواهب كبيرة، حاول أن يجد مكانًا بينهم ويشارك ولو بالقليل، وبحث عن القبول والحب وسط إخوته، لكنهم تجنبوه وعنفوه واحتقروه واستبعدوه، فانزوى وأخذ خطوات للخلف، ولم يجد من يسأل عنه، وتكررت المواقف الجارحة والإشعار بالرفض والانتقاد، فانزوى أكثر فأكثر حتى طُرد من الاجتماع ولم يجد من يسأل عنه أو يظهر له المحبة ومشاعر القبول والترحيب.  وهنا دور الراعي الذي يسترد المطرود.

   وهناك "الضال" الذي ترك المكان بإرادته، وهجر الاجتماعات برغبته، لأنه فضَّل أمورًا أخرى، فقد أحب العالم والأشياء التي في العالم، وفضَّل مصالحه الشخصية على مصالح الرب.  لقد ترك محبته الأولى للرب ولكلمته ومحضره، وفترت أشواقه الروحية وتقديره للقديسين، وسار وراء رغبات الجسد والدوافع المادية، فجرفه تيار العالم وابتُلع في دوامة النجاح الزمني.  وهنا لزوم دور الراعي الذي يبحث عن الضال ويطلبه حتى يجده.

   إن الراعي ليس أجيرًا، فالأجير لا يبالي بالخراف، وإذا رأى الخطر يهرب لأنه أجير (يو10: 13).  وليس غفيرًا، فالغفير يتعامل بخشونة وعنف وتسلط، والخراف تخاف منه.  لكن الراعي الخراف تحبه وتستريح إليه وتلتف حوله وتثق فيه وتسمع كلامه.  الراعي يحب الخراف ويضحي براحته ووقته وكل شيء لأجلها، والخراف تعرف ذلك وتشعر به.

   الرعي يتعب ويسهر على سلامة الغنم ويحميهم من كل المخاطر التي يتعرضون لها.  كان يعقوب راعيًا، وكان أمينًا ومتفانيًا في رعايته حتى استطاع أن يقول للابان:  "فريسة لم أحضر إليك ... كنت بالنهار يأكلني الحر وفي الليل الجليد، وطار نومي من عيني" (تك31: 39، 40).  وعندما ولد المسيح في بيت لحم كان هناك "رعاة متبدين يحرسون حراسات الليل على رعيتهم" (لو2: 8).  والراعي في كنيسة الله حريص كل الحرص على سلامة الغنم ويُقدِّر المخاطر المحيطة بها في ليل هذا العالم، ويعرف أساليب العدو لافتراس النفوس الصغيرة.

   لقد قبل التكليف من الرب كما حدث مع بطرس: "أتحبني .. ارع غنمي" (يو21: 15 – 17). ويشعر أنها أمانة في عنقه، فهم خراف المسيح الغالية التي أحبها ومات لأجلها.  وبطرس بدوره قبل أن يرحل من المشهد حرَّض الشيوخ الرعاة في كنيسة الله قائلاً: "أطلب إلى الشيوخ الذين بينكم، أنا الشيخ رفيقهم، ... ارعوا رعية الله التي بينكم نظارًا، لا عن اضطرار بل بالاختيار، ولا لربح قبيح بل بنشاط، ولا كمن يسود على الأنصبة، بل صائرين أمثلة للرعية.  ومتى ظهر رئيس الرعاة فحينئذ تنالون إكليل المجد الذي لا يبلى" (1بط5: 1 – 4).    

   وفي اللقاء الوداعي بين بولس وقسوس (شيوخ) كنيسة أفسس (أع20: 17)، قال لهم: "احترزوا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفةً (نظارًا)، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.  لأني أعلم أنه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية.  ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم" (أع20: 28 – 30).  وفي هذا الجزء نرى أن "القسوس"، وهي كلمة تعني "الشيوخ"، أي المتقدمين في الأيام ولهم خبرة روحية وحياتية، هم أنفسهم "الأساقفة" أي "النظار"، وهم أنفسهم "الرعاة" (ع28).  وأن الروح القدس هو الذي أقامهم (وليس هيئة أو أشخاص)، وأقامهم فيها (وليس عليها).  وأنه في الكنيسة الواحدة يمكن أن يكون عدد من الأساقفة (وليس الأسقف على عدة كنائس).  نفس الشيء في كنيسة فيلبي حيث يكتب الرسول بولس إلى القديسين الذين في فيلبي مع الأساقفة والشمامسة (في1: 1).  ونحن نعلم أنه كانت هناك مشكلة في كنيسة فيلبي بين أختين كادت أن تحدث انقسامًا (في4: 2)، وهنا دور الأساقفة في الكنيسة لاحتواء الأمور، لهذا ذكرهم الرسول في افتتاحية الرسالة.

   والراعي له دور أساسي في الافتقاد وعلاج المشاكل الأسرية حفاظًا على الشهادة، فإذا نجح الشيطان أن يدمر البيوت فإنه بذلك يدمر شهادة الكنيسة المحلية.

   ونلاحظ الفرق بين المواهب الروحية (أف4)، والوظائف الكنسية (1تي3).  فالمواهب معطاة بالنعمة بدون شروط، لكن الوظائف الكنسية لها شروط.  والموهبة لكل شعب الرب في كل مكان، أما الوظائف الكنسية فهي في الكنيسة المحلية فقط.  المواهب ليس لها سن محدد، أما الوظائف الكنسية فلها سن (الشيوخ).  الذي يقيم الأساقفة كان هو الرسول أو نائب الرسول (تيموثاوس أو تيطس)، أما الآن فحيث لا يوجد رسل أو من ينوب عن الرسل فلا توجد إقامة رسمية للأساقفة.  والأسقفية ليست منصبًا أو مركزًا في الكنيسة بل هي عمل وخدمة لها طابع الرعاية.  ومع أن هذه الخدمة ومن يقوم بها موجود ويمارسها، ويجب على المؤمنين أن يعرفوا ويعتبروا هؤلاء كثيرًا في المحبة، ويقدروهم من أجل عملهم، إذ يتعبون ويسهرون على سلامتهم وإطعامهم (1تس5: 12، 13)، لكننا لا نسميهم أو نلقبهم بلقب "الأساقفة"، لأنه لا يوجد من يقيم الأساقفة الآن.  بل "إن ابتغى أحد الأسقفية، فيشتهي عملاً صالحًا.  فيجب أن يكون الأسقف بلا لوم، بعل امرأة واحدة (لأن في كنائس الأمم الراجعين من الأوثان كان للبعض أكثر من زوجة، وفي هذه الحالة لا يصلح أن يكون أسقفًا)، صاحيًا، عاقلاً، محتشمًا، مضيفًا للغرباء، صالحًا للتعليم، ... يدبر بيته حسنًا، له أولاد في الخضوع بكل وقار، ... غير حديث الإيمان (أي له خبرة روحية ويعرف ضعف الإنسان وفساد الجسد واختبر ذلك في نفسه، كما اختبر النعمة التي تستر وتعالج وترد النفس، فيعرف أن يتعامل برفق مع ضعفات وسقطات الآخرين) ... له شهادة حسنة من الذين هم من خارج" (1تي3: 1 – 7).  هذه هى الشروط التي يجب توافرها في الشخص الذي يقوم بهذه الخدمة.

   وما أحوجنا إلى توفر الرعاة بهذه الخصائص الروحية في كنائسنا المحلية، لمعالجة كل المشاكل التي تراكمت ولم تجد الشخص الحكيم الراعي المصلي الذي يعطي المشورة الصحيحة ويحتوي الصغار والكبار، ويتفادى الانقسامات، ويسترد الذين هجروا الاجتماعات.

   ليتنا نصلي ونتضرع، بكل تواضع، شاعرين بخطورة الحالة وعمق الاحتياج، ليوجد الرب بيننا هذه النوعية من الرعاة التي تحرس حراسات الليل على رعيتهم، ومتى ظهر رئيس الرعاة فحينئذ سينالون إكليل المجد الذي لا يبلى (1بط5: 4).