(2صم15-18)
رجوع
الملك إلى أورشليم
(2صم19)
بعد هزيمة
أبشالوم، هرب الذين آزروه، كلٌّ إلى بيته.
ولم يندفع داود عائدًا إلى أورشليم، ولا سعى إلى الانتقام من قادة
التمرُّد، لكنه بدلاً من ذلك انتظر حتى سمع أن الناس في جميع أنحاء البلاد
يُطالبون بإرجاع داود، قائلين: «لِمَاذَا أَنْتُمْ سَاكِتُونَ عَنْ إِرْجَاعِ
الْمَلِكِ؟» (2صم19: 10)، فكلّف الملك داود ”صَادُوقَ وَأَبِيَاثَارَ
الْكَاهِنَيْن“ أن يبعثا برسالة إلى سبط يهوذا – إلى بؤرة الثورة في حبرون – يقول
فيها: «لِمَاذَا تَكُونُونَ آخِرِينَ فِي إِرْجَاعِ الْمَلِكِ إِلَى بَيْتِهِ؟ ...
أَنْتُمْ إِخْوَتِي. أَنْتُمْ عَظْمِي
وَلَحْمِي» (2صم19: 11، 12). فعوضًا عن
الإجراءات الانتقامية، يتعامل معهم بالنعمة (2صم19: 9-15)، ويمدّ إليهم يد
الصداقة، وهو ما زال يدعوهم إخوة له.
وهكذا عاد الشعب
إلى ولائهم الأول، وتنازعوا حول شرف إرجاع الملك.
وحتى رجال يهوذا الذين كانوا شاعرين بفقد ثقة داود بسبب تعجلهم في اتباع
أبشالوم، فإنهم تابوا وحثوا الملك على الرجوع.
وبذلك تحولت قلوب الشعب كله نحوه، كما سيحدث في يوم قادم للرب يسوع المسيح،
حينما يظهر ليملك بالمجد، بعد انتصاره النهائي على كل أعدائه.
وَيَأْخُذُ الْمُلْكَ الَّذِي
وَسَتَرَاهُ
الأَرْضُ فِي
وَسَتَرَاكِ
مَعَهُ
بَعْدَ
انْقِضَا الْغُرْبَةِ
|
|
لَهُ عَلَى الْجَمِيعْ
كُرْسِيِّهِ
الرَّفِيعْ
فِي
الْمَجْدِ وَالْمُلْكِ
وَالآلاَمِ
وَالضَّنْكِ
|
وكم نحن في احتياج
هذه الأيام إلى خدمة الكهنة الذين يستميلون قلوب المؤمنين كرجلٍ واحد، فنرسل إلى
مَلكنا ومعبودنا وعريسنا المبارك، من قلوب ممتلئة بمحبته، وتتوق إليه، قائلين: «ارْجِعْ
أَنْتَ وَجَمِيعُ عَبِيدِكَ» (2صم19: 14)، «آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ» (رؤ22: 20)
وتصرف داود
كالمنتصر مع أولئك الذين لم يتبعوه بالنعمة أيضًا؛ فشَمْعِي بْنُ جِيْرَا الْبِنْيَامِينِيُّ الذي سَبَّ داود يوم ذلِّه أتى أول بيت يوسف، وأتى معترفًا بخطئه،
وملتمسًا الغفران من الملك. لكن هذه
التوبة جاءت متأخرة، وهو يمثل الملايين الذين سيسجدون للمسيح عند رجوعه بالمجد
والقوة، ولن يفيدهم هذا السجود شيئًا. لقد
سقط شَمْعِي عند رجلي الملك، ملتمسًا الغفران منه، وقد حصل عليه، لا لأنه يستحقه،
بل لأن الملك لم يكن في الحالة التي تسمح بتوقيع الدينونة التي يستحقها شَمْعِي،
وأوكل فيما بعد هذه المهمة لابنه سليمان، جنبًا إلى جنب مع مهمة إكرام الذين
أكرموا الملك أثناء رفضه (1مل2: 7-9، 36-46).
وأتى صِيبَا الواشي، وللأسف جاء مع شَمْعِي
بْنُ جِيْرَا الشرير، مُبرهنًا على نوع الفصيل الذي ينتمي إليه. ثم أتى دور مفيبوشث الذي اتَّهمه صِيبَا ظلمًا
أمام داود (2صم16: 3)، كما يحدث أحيانًا معنا إذ نُشين الآخرين، ونتَّهمهم اتهامات
باطلة، لكي نرفع من قيمة أنفسنا. إننا قد
نتحدث بالوشاية بإخوتنا(ع27)، وهذا الأمر يبغضه الرب جدًا (أم6: 16-19).
إن تملق صِيبَا
لداود وكذبه عليه ظهرا، وهكذا هناك يوم فيه سَيُنِير الربُّ خَفَايَا الظَّلاَمِ
(كما في كلمات صِيبَا)، وَيُظْهِرُ آرَاءَ الْقُلُوبِ (كما في تصرفات مفيبوشث) «وَحِينَئِذٍ
يَكُونُ الْمَدْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ اللهِ» (1كو4: 5).
لقد أظهر مفيبوشث ولاء للملك الحقيقي،
بحزنه الواضح أثناء غياب الملك؛ سَيِّده وولي نعمته «وَنَزَلَ مَفِيبُوشَثُ ابْنُ
شَاوُلَ لِلِقَاءِ الْمَلِكِ، وَلَمْ يَعْتَنِ بِرِجْلَيْهِ، وَلاَ اعْتَنَى
بِلِحْيَتِهِ، وَلاَ غَسَلَ ثِيَابَهُ، مِنَ الْيَوْمِ الَّذِي ذَهَبَ فِيهِ
الْمَلِكُ إِلَى الْيَوْمِ الَّذِي أَتَى فِيهِ بِسَلاَمٍ» (ع24). لقد كان منفصلاً تمامًا عن أفراح وملذات
العالم، طوال غياب سَيِّده، مترقبًا رجوعه (مت9: 15). وهذا يجعلنا نفكر فيما قاله الرب يسوع لتلاميذه
حينما كان مزمعًا أن يتركهم: «بَعْدَ قَلِيلٍ لاَ تُبْصِرُونَنِي ... أَنْتُمْ
سَتَحْزَنُونَ، وَلَكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ» (يو16: 19، 20).
وكم كان فرح
مفيبوشث برجوع الملك عظيمًا. ويتبرهن أن
إيمان مفيبوشث له ثلاثة خصائص:
أولاً: يقبل مفيبوشث إرادة داود وكأنها إرادة الله «سَيِّدِي
الْمَلِكُ كَمَلاَكِ اللهِ. فَافْعَلْ مَا
يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ» (ع27). هذه
الإرادة كيفما كانت هي صالحة في عيني مفيبوشث لأنها صالحة في عيني داود (رو12:
2).
ثانيًا: يعترف مفيبوشث بأنه لا حق له في إحسان الملك
الغير مبني على استحقاق الأسلاف أو على استحقاقه الشخصي «لأَنَّ كُلَّ بَيْتِ أَبِي
لَمْ يَكُنْ إِلاَّ أُنَاسًا مَوْتَى لِسَيِّدِي الْمَلِكِ، وَقَدْ جَعَلْتَ
عَبْدَكَ بَيْنَ الآكِلِينَ عَلَى مَائِدَتِكَ.
فَأَيُّ حَقٍّ لِي بَعْدُ حَتَّى أَصْرُخَ أَيْضًا إِلَى الْمَلِكِ؟»
(ع28).
وأخيرًا عندما يجيب داود قائلاً: «لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ
بَعْدُ بِأُمُورِكَ؟ قَدْ قُلْتُ إِنَّكَ
أَنْتَ وَصِيبَا تَقْسِمَانِ الْحَقْلَ»، وكان هذا يختلف عما قاله داود قبلاً
(2صم16: 4) - إذ يبدو أنه تبيّن خطأه بقدرٍ ما – ولكن «قَالَ مَفِيبُوشَثُ
لِلْمَلِكِ: فَلْيَأْخُذِ (صِيبَا) الْكُلَّ أَيْضًا بَعْدَ أَنْ جَاءَ سَيِّدِي
الْمَلِكُ بِسَلاَمٍ إِلَى بَيْتِهِ» (ع30؛ قارن من فضلك 1مل3: 16-28). إنه يتخلى عن كل امتيازاته الزمنية، ويتغاضى عن
كل الظلم الذي وقع عليه، ويقبل التنازل عن كل ممتلكاته دون أسف، فيكفي لمفيبوشث أن
سَيِّده رجع إلى مكانه الذي له، فحضور الملك كافٍ بالنسبة له. وماذا كان يحتاج أكثر من أن يأكل على مائدة
الملك؟ ليت لغة قلوبنا تكون مع الرسول
المغبوط الذي أحب مُخلّصه وفاديه، فقال: «مَا كَانَ لِي رِبْحًا، فَهَذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ الْمَسِيحِ
خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ
شَيْءٍ أَيْضًا خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي،
الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ الأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً
لِكَيْ أَرْبَحَ الْمَسِيحَ» (في3: 7، 8).
ولم ينسَ داود ما
فعله بَرْزِلاَّيُ الْجِلْعَادِيُّ، مستخدمًا غناه لأجل الملك ورجاله «هُوَ عَالَ الْمَلِكَ عِنْدَ
إِقَامَتِهِ فِي مَحَنَايِمَ لأَنَّهُ كَانَ رَجُلاً عَظِيمًا جِدًّا» (ع32). هكذا أيضًا عندما يأتي الملك العظيم في مجده
سيتذكر ”مُباركي أبيه“، وفي يوم المجازاة سيسمعون صوته قائلاً: «لأَنِّي جُعْتُ
فَأَطْعَمْتُمُونِي» (مت25: 34: 35).
«وَنَزَلَ
بَرْزِلاَّيُ الْجِلْعَادِيُّ مِنْ رُوجَلِيمَ وَعَبَرَ الأُرْدُنَّ مَعَ
الْمَلِكِ لِيُشَيِّعَهُ عِنْدَ الأُرْدُنِّ ... فَقَالَ الْمَلِكُ
لِبَرْزِلاَّيَ: اعْبُرْ أَنْتَ مَعِي وَأَنَا أَعُولُكَ مَعِي فِي أُورُشَلِيمَ» (ع31، 33). لقد أراد داود أن يكون بَرْزِلاَّي إلى جانبه
على طول الطريق، في شركة معه، يُشاهد دوائر مُلكه، ويتبارك برضاء مسيح الرب. ما كان بَرْزِلاَّي يفكر أن ينال هذا ولا أقل
منه، وذلك في أورشليم. ولقد كانت هذه
المجازاة في مكانها باليقين. لما كان داود
خارج مملكته، كان مركز بَرْزِلاَّي وواجبه أن يعترف بالملك المرفوض وأن يخدمه. وإذ استرد الملك سلطانه ومكانه فإن دور الملك
قد جاء لكي يُكافئ ذلك الشاهد الأمين الذي لازمه في أيام الذل والهوان.
وإذ تقع هذه
الكلمة «مَعِي» في آذاننا، ألا
تذكرنا بلغة مماثلة من فم ابن داود وهو يُخاطب الآب على مسمع من تلاميذه قائلاً: «أَيُّهَا الآبُ أُرِيدُ أَنَّ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي
يَكُونُونَ مَعِي حَيْثُ أَكُونُ أَنَا،
لِيَنْظُرُوا مَجْدِي الَّذِي أَعْطَيْتَنِي» (يو17: 24).
بيد أن
بَرْزِلاَّي يُثير اعتراضًا إزاء ما عرضه عليه داود، فإنه لم يُقدم ما قدمه طمعًا
في مجازاة، مع أنه جدير بها. أما أن يوجد
في البلاط الملكي فذلك أمر لا يناسب شخصًا نظيره لأن تقدمه في الأيام يحول دون
تمتعه بمسرات ومباهج بيت الملك (ع34، 35).
لما كان داود في
البرية محتاجًا إلى خدمة بَرْزِلاَّي، لم يكن ذلك العائق ليقف في طريق تقديم تلك
الخدمات بنفسه، ولما كان الملك في طريقه لعبور الأردن لم يسمح بَرْزِلاَّي لضعف
قواه – بسبب تقدم الأيام – أن يحول دون وجوده مع داود. أما عن الذهاب إلى أورشليم – كنوع من المجازاة
عن خدمته – فذلك ما كان يحس بَرْزِلاَّي أنه ليس كفؤًا له. على النقيض من مألوف البشر، فإنهم يتعللون بكل
أنواع العلل لتجنب الخدمة، ويطمعون كل الطمع في الجزاء! لكن بَرْزِلاَّي لم يكن من هذا الطراز.
رفض بَرْزِلاَّي
أن يكون ثقلاً على الملك (ع35)، ولكنه ائتمن الملك على ابنه ”كِمْهَام“ «هُوَذَا
عَبْدُكَ كِمْهَامُ يَعْبُرُ مَعَ سَيِّدِي الْمَلِكِ فَافْعَلْ لَهُ مَا يَحْسُنُ
فِي عَيْنَيْكَ» (ع37). عجيب أمر هذا
التكريس! كانت طلبة بَرْزِلاَّي «افْعَلْ
لَهُ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ»، ولكن وعد الملك تجاوز حدود هذه الطلبة «فَأَجَابَ الْمَلِكُ: إِنَّ كِمْهَامَ يَعْبُرُ مَعِي فَأَفْعَلُ لَهُ مَا
يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ، وَكُلُّ مَا تَتَمَنَّاهُ مِنِّي أَفْعَلُهُ لَكَ» (ع38؛ إر41: 17). وهكذا افترق
الاثنان، ولكن ليس قبل أن يتقدم الملك ويُقَبّل بَرْزِلاَّي ويباركه (ع39).
وحُفرت ذكريات
بَرْزِلاَّي وخدماته في قلب الملك داود، فلم ينسها. بل وقد كان على سليمان ابنه أن يذكر تلك الخدمات،
فإن داود أوصى ابنه سليمان أن يفعل معروفًا ”لِبَنِي بَرْزِلاَّيَ الْجِلْعَادِيِّ“
(1مل2: 7)، فكان لهم مكانة مرموقة أمام داود وسليمان اللذين يرمزان للرب على
كرسيه؛ مكانة القرب الوثيق حيث كانوا بين الآكلين على مائدة الملك وفي حضرته. نعم، فالأمانة لمسيح الرب في زمان الفشل والضعف
لا يمكن أن تُنسى، كما أن تكريسًا نظير هذا لا يمكن أن يكون بلا ثمر وجزاء. والذين كان الرب ملء أفكارهم وعواطفهم، سوف
يكونون أمام وجهه حين يأخذ السلطان لنفسه ويملك.
«فَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ الأُرْدُنَّ، وَالْمَلِكُ عَبَرَ ... وَعَبَرَ
الْمَلِكُ إِلَى الْجِلْجَالِ» (2صم19: 39، 40). عَبَر داود الأردن ليتمتع مرة أخرى بكنعان التي
هي رمز للبركات الروحية في السماويات، والتي حُرم منها فترة بسبب خطيته. هكذا الأمر بالنسبة لأي واحد من أولاد الله،
فإن الخطية تُحرمه من الفرح الحاضر ببركاته السَّماوية، ويلزمه أن يَعبْر الأردن
مرة أخرى (الذي هو رمز للموت)، ويقف عند الجلجال (الذي يُشير إلى الحكم على
الذات)، حتى يستطيع أن يسترد فرح الشركة مرة أخرى.
*****
كثيرة كانت نكبات
داود، ولكن من جميعها أنقذه الرب. وعندما
تعلَّم الدرس، كفَّ قضيب التأديب. لقد تم
تأديبه «بِقَضِيبِ النَّاسِ وَبِضَرَبَاتِ بَنِي آدَمَ» (2صم7: 14)، على أن الرب
لم ينزع منه رحمته كما فعل مع شاول. لقد
توطد بيته وعرشه ومملكته رغم القوات المعادية الكثيرة. وهكذا نجد على الدوام القضيب، الضربات،
التأديب، ولكن وسط الكل محبة الله مُتممة مقاصده الصالحة، ولا تتعجل أبدًا، ولا
تهدأ أبدًا، ولا تنسى قط، بل تجعل كل الأشياء تعمل معًا للخير حتى يُنزع الشر
وتتطهر النفس، وعندئذٍ تأتي البركة الختامية، ثم تنتهي الحياة بهدوء وسلام.
(تمت)