عدد رقم 2 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
قضية أُوريَّا الحِثِّي  


(2صم11)

[1] لا شك أن سقطة داود في خطية الزنا وترتيبه لقتل أُوريَّا الحِثِّي هي وصمة عار لم تمحَ في تاريخ داود، والأمر لا يتعلق فقط بالسقوط المجرد في هذه الخطايا، بل لقد صارت قضية قدام الرب «لأن داود عمل ما هو مستقيمٌ في عيني الرب ولم يحد عن شيء مما أوصاه به كل أيام حياته، إلا في قضية أُوريَّا الحِثِّي» (1مل 5:15).  الله الذي لم يعمل له داود حسابًا، مع أنه عمل حسابًا للناس وحرص على إخفاء كافة أركان الجريمة عن عيونهم، وتناسى أن الرب يرى ويعرف كل شيء، «وليست خليقة غير ظاهرة قدَّامه، بل كل شيءٍ عُريانٌ ومكشوفٌ لعيني ذلك الذي معه أمرنا» (عب 13:4).  لهذا قال الكتاب: «وأما الأمر الذي فَعَلَهُ داود فَقَبُحَ في عيني الرب» (2صم27:11).

والحيرة الكبيرة في الأمر أن الذي سقط هو داود صاحب المزامير والاختبارات العظيمة؛ وهذا يعمِّق الدرس أن الخطية لا يوجد كبير أمامها، «لأنها طرحت كثيرين جرحَى، وكلُّ قتلاها أقوياء» (أم 26:7).  ربما لو سألنا داود في بداية الأمر عن احتمالات السقوط في كذا ... أو كذا ... لنفى ورفض واستنكر ذلك على نفسه، لأن الإنسان لا يعرف قلبه.  لهذا  يحذرنا الرسول: «إذًا مَنْ يظن أنه قائمٌ، فلينظر أن لا يسقط» (1كو 12:10).

وفي هذا المقال والمقال القادم بمشيئة الرب سنتطرق لأربعة أمور:

أسباب السقوط - نتائج وحصاد السقوط - معاملات الرب لرد النفس - تكريس أُوريَّا.

***

أسباب السقوط

1- وقت الفراغ:  هناك حكمة صائبة تقول: ’’الذهن الفارغ معمل للشيطان‘‘؛ لذلك ننصح إخوتنا الشباب بأن يشغلوا أذهانهم بكل ما هو نافع وبنَّاء.  يقول الرسول: «كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مُسر، كل ما صيته حسن ... ففي هذه افتكروا» (في 4: 8)، وعليهم أن يخلقوا لأنفسهم برامج لملء وقت الفراغ، وليتجنَّبوا جو الوحدة وذلك بالسعي نحو الأنشطة التي فيها تفاعل مع الآخرين، وليحذروا من الكسل والخمول.  وعلى الشاب أن يبدأ برنامجه اليومي بمجرد استيقاظه، سواء برنامجه الروحي أو الزمني، ولا يُعطي لإبليس فرصة أن يُجرِّبه، وعندما تسيطر عليه أية أفكار شريرة عليه بتغيير وضعه ومكانه فورًا، فالهروب هو أفضل سلاح لمواجهة هذه التجربة، وكما قيل: ’’جناحا الحمامة للهروب أقوى من كفي الأسد للمقاومة‘‘.  وهذا ما قاله بولس لتيموثاوس: «أما الشهوات الشبابية فاهرب منها» (2تي2: 22).  ففي الوقت الذي كان يجب على داود أن يتواجد في الحرب ويحارب حروب الرب، أعطى نفسه هدنة وراحة، مع أن إبليس لا يأخذ إجازة في حروبه معنا، فراح داود ينام كالكسلان على السرير أوقاتًا طويلة، وإذ طال وقت الكسل والنوم قام عن السرير، لا ليذهب للحرب، بل ليتمشى على السطح، وبذلك أتاح المجال لدخول التجربة.  عكس ذلك ما رأيناه في يوسف الذي انتصر على الخطية التي عُرضت عليه بإلحاح، مع أن يوسف كان في تحديات أصعب جدًا.  ولا شك أن أحد أسباب انتصار يوسف أنه وقت التجربة دخل البيت «ليعمل عمله» (تك 39: 11)، فلم تجد التجربة مكانًا في قلبه أو ذهنه.  والكسلان لا يُحرز أي تقدم، فيشبهه سليمان في سفر الجامعه بأنه يشبه الباب الذي لا يتحرك من مكانه خطوة واحدة «الباب يدور على صائره، والكسلان على فراشه» (أم 14:26).  والحياة الروحية لا يوجد فيها محلَّك سِر، بل حتمًا ستخطو إما للأمام، أو للخلف.  وههنا داود تراجع للخلف.

2-  النظرات الشريرة:  إن العين نافذة على النفس، وقد قال الرب يسوع: «إن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا».  والتأمُّل والنظر إلى امرأة بغرض الشهوة هو زِنَى، كقول الرب: «إن كل مَنْ ينظر إلى امرأة ليشتهيَها، فقد زَنَى بها في قلبه» (مت 28:5).  فهذه النظرات ستقود للسقوط فعليًا في الخطيَّة بشكل أو آخر، مثلما حدث مع داود (2صم11: 2).  قال أحدهم مرة مدافعًا عن نظراته: ’’هل وأنا سائر في الشارع أغمض عيني؟!‘‘، فأجابه اخر: لا تغمض عينيك، لكن لا تمشِ ببطء متأملاً في أجساد الناس.  ليكن لك هدف محدَّد في سيرك، ولا تكن مثل اللص الذي يتجوَّل بعينيه في كل الاتجاهات ليتلصص النظر للأخريات.  

·          هناك مقولة شهيرة للقديس أوغسطينوس: ’’أي شيء تشتهيه وأنت لم تره؟‘‘.  فأنت لن تشتهي ما دمت لم تنظر.

·          فالنظرات الشِّريرة النابعة من الشهوة يتبعها أفكار، ثم تليها خطايا.  «فالشهوة إذا حبلت تلد خطية، والخطية إذا كملت تنتج موتًا» (يع1: 15).

·          والعين تُعتبر من أهم المداخل التي يدخل منها إبليس إلى داخل الإنسان وكذلك الأُذن، فـ «العين لا تشبع من النظر، والأُذن لا تمتلئُ من السمع» (جا1: 8 )، ومسؤوليتنا هي ضبط هذه المنافذ.

·          لذلك فدورنا ألا نترك فرصة للجسد لرؤية المناظر المثيرة المُلفتة للنظر.  ونقرأ في 2بطرس 2: 14 أن الأشرار لهم عيون مملوءة فسقًا لا تكف عن الخطية.

·          تأمل العهد الذي أخذه أيوب على نفسه فيما النظر: «عهدًا قطعت لعينيَّ، فكيف أتطلَّع في عذراء؟» (أي 1:31).

·     وهناك أمثلة لشخصيات ذُكِرَت في الكتاب كانت النظرات الشِّريرة هي عِلَّة سقوطهم: شكيم ابنُ حَمُور (تك 34: 1-5)، شمشون (قض 14: 1؛ 16: 1)، داود (2صم 11).

·          وأخيرًا لنتذكَّر أن أول خطيَّة في التاريخ كانت بسبب النظر «فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجةٌ للعيون، وأن الشجرة شهيَّةٌ للنظر» (تك 3: 6).

فلننتبه إلى تحريض الرَّبّ: «إن كانت عينك ... تُعثرك فاقلعها»، فيجب عدم ترك العنان لها لتنظر إلى أي شيء.  ولنتحذر من تجربة سليمان الذي قال: «مهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما» (جا2: 10).

لنحذر من النظرة غير المُقدَّسة، إذ أنها منفذ يدخل منه إبليس إلى أذهاننا ويطبع آلاف الصور ليستخدمها في وقت فراغنا ليُحاربنا بها.  سمح داود لنفسه أن يتطلَّع إلى منظر امرأة تستحم، ولا نعلم الكثير عن الوضع العمراني للمباني وقتها، لكن ما نعلمه أن داود، طبقًا للشريعة، كان يجب أن يعمل سورًا على سطح المنزل، وهذا لم يعمله، وبذلك سهَّل طريق التجربة إليه.  وإن كان الخطأ الرئيسي وقع على داود لأنه قصد الخطأ، لكن هذا لا ينفي أن هذه المرأة جعلها العدو شركًا في طريق رجل الله داود، وسبب عثرة في طريقه الروحي.  والويل لمَنْ تأتي بواسطته العثرات (لو17: 1). 

3-  خطورة ما بعد النصرة:  داود المُطارَد من شاول في سفر صموئيل الأول كان أفضل روحيًا، لكن بمجرد أن أراحه الرب من كل جهة لم يحترص لحياته، ولم يسهر، فجاءته التجربة ولم يكن مستعدًا لمواجهتها.  كان يفتقر إلى درع البر الذي يحمي القلب الذي منه مخارج الحياة، ففي غفلة صغيرة سقط وكان سقوطه عظيمًا.  ومع أنها حدثت في وقت سريع، لكن ما أصعب نتائجها كما سنرى، وسقوط داود يعلِّمنا أن الآلام التي نرفضها في مرات كثيرة، تكون بركة تحمينا من السقوط وسببًا مباشرًا لرفض الخطية.  وشوكة بولس كانت أيضًا للوقاية لئلا يرتفع بفرط الإعلانات.  ويقول بطرس: «فإذ قد تألم المسيح لأجلنا بالجسد، تسلَّحُوا أنتم أيضًا بهذه النِّية.  فإن مَنْ تألم في الجسد، كُفَّ عن الخطية» (1بط 1:4) فإن رفض الخطية وفعل إرادة الجسد وإرضاء الذات حتمًا سيقترن بألم قي الجسد.  لكننا سنجد المعونة من الرب وسنشعر بابتسامة رضاه.  فلنترك لله الحكيم الفرصة لكي يحفظنا من السقوط ولو عن طريق الألم والضغوط.

4-   الجوع الروحي:  في (تك18:14، 19) وقف إبراهيم أمام ملكي صادق - وهو يشير إلى الرب يسوع -  الذي باركه وأعطاه خبزًا (الشبع) وخمرًا (الفرح)، فلما وقف بعد ذلك أمام ملك سدوم الذي يرمز إلى الشيطان المُجرِّب، الذي عرض عليه أملاكًا عظيمة، رفضها، بالرغم من أنها من حقه - حسب قوانين الحرب وقتها - واستطاع أن يقول: «رفعت يدي إلى الرَّبّ الإله العَليِّ مالك السماء والأرض، لا آخذنَّ منك خيطًا ولا شراك نعلٍ»، من هنا نتعلَّم أن «النفس الشبعانة تدوسُ العسل، وللنفس الجائعة كل مر حلو» (أم27: 7).


 

 

 

 

 



[1] كون الكتاب حرص على ذكر سقطات القديسين والأنبياء فهذا يدل على مصداقية هذا الكتاب فلو أنه كتاب بشر لكان أخفي هذه السقطات، وهذا لا يقلل من تاريخ الشخصيات التي ذكر لها هذه السقطات، إنما ذكر سقطاتهم لإنذارنا نحن الذين إنتهت إلينا أواخر الدهور (1كو10: 11).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com