قبل أن نبدأ في
التكلُّم بالتفصيل عن كل شخصية من أبطال داود، يجدر بنا أن نُلقي نظرة عامة على
تلك الصورة الحيَّة التي يرسمها الروح القدس لهذه السحابة المباركة من الأبطال، وعلى
الصفات والسمات الأدبية التي يتشاركون فيها:
أولاً: الاجتماع إلى داود (1صم22: 1، 2؛ 1أخ12: 1، 8،
16، 19، 20، 22، 23):
في الأصحاح
الثاني عشر من سفر أخبار الأيام الأول، يبدأ الروح القدس حديثه المباشر عن أبطال
داود بقوله: «وَهَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ جَاءُوا إِلَى
دَاوُدَ». والقراءة المتأنية لهذا الأصحاح تُمكّننا مِن
ملاحظة أن هذا التعبير «إِلَى
دَاوُدَ»، يتكرر سبع مرات
(ع1، 8، 16، 19، 20، 22، 23). فسواء
كان داود في ”صِقْلَغَ“ (ع1)، أو في ”الْحِصْنِ فِي الْبَرِّيَّةِ“ (ع8)، أو في ”حَبْرُونَ“ (ع23)،
فقد كان هو الرأس والرئيس الذي إليه وحوله تجتمع خاصته.
وفي الواقع أن
بداية التجمُّع «إِلَى
دَاوُدَ» كان في ”مَغَارَةِ
عَدُلَّامَ“. والاسم ”عَدُلاَّم“ يعني ”راحة“ أو ”شهادة“. وطالما كان داود في بيت شاول، لم يكن هناك نداء
يدعو أي شخص إلى الانفصال إليه. لكن في
اللحظة التي أخذ فيها داود المرفوض مكانه خارجًا، لم يستطع أحد أن يظل على الحياد
فنقرأ: «وَاجْتَمَعَ
إِلَيْهِ كُلُّ رَجُلٍ
مُتَضَايِقٍ، وَكُلُّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَكُلُّ رَجُلٍ مُرِّ النَّفْسِ،
فَكَانَ عَلَيْهِمْ رَئِيسًا. وَكَانَ
مَعَهُ نَحْوُ أَرْبَعِ مِئَةِ رَجُلٍ» (1صم22: 1، 2). وهكذا حول داود اِلتفَّت جماعة، ربطت مصيرها
بمصيره، وتألفت من رجال قادتهم ذات حالتهم إليه، وهم الآن يستمدون خصائلهم وصفاتهم
من قربهم وولائهم لشخصه المحبوب. وبعيدًا
عن شاول وعن كل ما ميَّز حكمه، نسوا كل شيء عن بؤسهم وضيقهم وديونهم، واستطاعوا أن
يستمتعوا بحلاوة الشركة التي لا يُعطلها شيء، مع الشخص الذي رغم أنه الآن مرفوض،
إلا أنه بعد فترة لن تطول سيصعد إلى العرش، ويتقلد الصولجان، لمجد الله وفرح شعبه.
وإننا لنرى بوضوح
في داود ورفقائه المحتقرين، صورة رائعة ورمز جميل للرب يسوع المسيح المرفوض
والمُحتَّقر، الذي يقبل ويُرحّب بأولئك الذين يعرفون تعاستهم ومذلتهم، ويجدون فيه
ملجأهم وقوَّتهم، والذين يفضلون الشركة معه عن كل أفراح ومراكز ومكاسب الأرض. ويا له من تناقض مع أهل العالم الذين – نظير
عبيد شاول – كانت كل امتيازاتهم وخيراتهم في هذه الحياة فقط (2صم22: 7).
لقد جذب شخص داود
إليه جماعة قليلة. وبينما غالبية الأمة لم
تكن تعتبره رئيسها، وكانت تتبع رجلاً من اختيارهم هم، فإن قليلين ومعدودين وجدوا
في داود جاذبية خاصة، ”فَاجْتَمَعَوا إِلَيْهِ“، بمعنى أنه كان هدفهم الوحيد. ورغم أنهم من خلفيات متباينة، وعائلات شتى، بل
وأسباط مختلفة، لكنهم توَّحدوا جميعًا، والسر في ذلك أنهم جعلوا داود رئيسًا
عليهم.
لكن هل هؤلاء
الذين اجتمعوا «إِلَى
دَاوُدَ» في ”مَغَارَةِ
عَدُلَّامَ“ كانوا هم كل شعب
الله؟ وهل كانت الوفود والمجموعات التي
أتت لتجتمع إليه، وتلتصق به، وهو في ”صِقْلَغَ“ (1أخ12: 1)، أو في ”الْحِصْنِ فِي
الْبَرِّيَّةِ“ (1أخ12: 8)، أو في ”حَبْرُونَ“ (1أخ12: 23)؛ هل كان هؤلاء فقط هم
شعب الله؟ طبعًا لا. لقد كان شعب الله في ذلك الوقت يُعدّ
بالملايين، وكلهم مختونون، وكلهم من نسل إبراهيم.
لكن مِنْ هؤلاء الملايين الذين يعرفون الله، كان هناك المئات فقط الذين
اعترفوا بداود؛ أو بتعبير أدق اعترفوا برياسته عليهم، وترجموا عمليًا ما اعترفوا
به قلبيًا، إذ جعلوه عليهم رئيسًا.
واليوم: هل الذين
يجتمعون إلى اسم الرب يسوع وحده، ولا يعترفون في الاجتماعات برئيس سواه، هم فقط
المؤمنون دون غيرهم؟ حاشا لنا من فكر
كهذا. لكن الذين يجتمعون إلى أسماء أخرى،
أو إلى نظم من ترتيب البشر، هم ليسوا في المكان الصحيح، وهم في هذا مُخطئون. بينما المجتمعون إلى اسم المسيح قد اجتمعوا إلى
الشخص الوحيد الذي عيَّنه الآب واختاره ليكون مركزًا لاجتماعات القديسين.
إن الرب يسوع
المسيح هو الذي يجب أن تكون له وحده الرياسة في اجتماعات الكنيسة؛ إن
الرأس مركزه، والرياسة حقه، والوسط مكانه.
ومع أننا لا نرى
المسيح بعيوننا في الاجتماع لكن هذا لا يُقلل من حقيقة حضوره «لأَنَّنَا
بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعَيَانِ» (2كو5: 7). إننا نؤمن بصدق مواعيده لنا، ومكتوب «طُوبَى
لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا» (يو20: 29).
أيها الأحباء: إن
مكان الأمان الوحيد في زمن التشويش هو أن تكون مع المسيح المرفوض، كما قال داود
لواحد تبعه: «أَقِمْ
مَعِي. لاَ تَخَفْ، لأَنَّ الَّذِي يَطْلُبُ
نَفْسِي يَطْلُبُ نَفْسَكَ، وَلَكِنَّكَ عِنْدِي مَحْفُوظٌ» (1صم22: 23).
ثانيًا: ترتيب
الأولويات والخبرة بِالأَوقَات (1أخ12: 32):
جميل أن نقرأ في
الأصحاح الثاني عشر من سفر أخبار الأيام الأول أن الذين جاءوا إلى داود من «مِنْ بَنِي
يَسَّاكَرَ»، كانوا «خَبِيرِينَ
بِالأَوْقَاتِ لِمَعْرِفَةِ مَا يَعْمَلُ إِسْرَائِيلُ ... وَكُلُّ إِخْوَتِهِمْ
تَحْتَ أَمْرِهِمْ» (1أخ12: 32). لقد تميَّز هؤلاء الأبطال بالإيمان والفهم
الجيد والنشاط، وعدم إضاعة الفرصة، كما بالتكريس والولاء لداود في زمان رفضه وآلامه. لقد أدركوا أن الأزمنة تتغيَّر، وقد لا يُمكننا
أن نعمل في المستقبل، ما يمكن أن نعمله الآن.
وها قد جاء الوقت للاتحاد معًا، والقيام بعمل مشترك لأجل مسيح الرب،
والاجتماع إليه، والالتفاف حوله. وأي عمل
آخر بخلاف ذلك – مهما كان مقبولاً في ظاهره من الحكمة الإنسانية – فسوف تتبعه
نتائج وخيمة. إنه الوقت لاستبعاد أي شيء
آخر، للاعتراف بداود وحده قائدًا ومركزًا ورأسًا ورئيسًا. ولم تعد هناك قيمة لأية اعتبارات أخرى كاحترام
الشرعية لشاول بن قيس ومَن معه، أو انتظار ما تأتي به الأحداث. إن المسألة المهمة والمطلب الجوهري هو داود
وحقوقه. وها قد أتت اللحظة ليُرفرف
عَلَمَهُ فوق الكلّ، ويبقى منفردًا أمام أعين الجميع.
وما أحرانا نحن
أيضًا أن نكون كبني يساكر الحقيقيين الذين يُخاطبهم الرسول بولس بالتحريض: «هَذَا
وَإِنَّكُمْ عَارِفُونَ الْوَقْتَ، أَنَّهَا الآنَ سَاعَةٌ لِنَسْتَيْقِظَ مِنَ
النَّوْمِ، فَإِنَّ خَلاَصَنَا الآنَ أَقْرَبُ مِمَّا كَانَ حِينَ آمَنَّا. قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ
النَّهَارُ، فَلْنَخْلَعْ أَعْمَالَ الظُّلْمَةِ وَنَلْبَسْ أَسْلِحَةَ النُّورِ» (رو13: 11، 12). إننا الآن في يوم الآلام والصبر، ولكن يوم
انتصار وأمجاد داودنا الحقيقي قد اقترب، والليل يُفسح مكانه للنور، فلنستيقظ! وحالاً يلمع كوكب الصبح المنير، الذي أشرق ولمع
بالفعل في قلوبنا. فلنصغي إلى بني
يساكر! لندرك أنه «وَقْتٌ
لِطَلَبِ الرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ الْبِرّ» (هو10: 12)،
وأنه «وَقْتُ
عَمَلٍ لِلرَّبِّ» (مز119: 126)
ونحن يجب أن تكون
لنا هذه الخبرة لُنشير على إخوتنا بما ينبغي أن يفعلوه. ولكن الرب قد اختص من بيننا أفرادًا بحكمة
خصوصية، وخبرة في الرعاية والإرشاد (1تي1: 7؛ 5: 17). فما أحرانا أن نسترشد برأيهم في خضوع، كما كان
إخوة يَسَّاكَرَ، لنفهم ما يُناسب شعب الله اليوم، وما يجب علينا أن نعمله «أَطِيعُوا
مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا» (عب13: 17).
ولكن ماذا استطاع
داود أن يُقدِّم لرفقائه؛ أولئك المساكين الذين عاشوا معه باستتار في زمن
رفضه؟ في ذلك الوقت، لا شيء إلا الآلام
واحتمال الضيقات والمشقات، أما فيما بعد فقد أصبحوا أبطاله (2صم23؛ 1أخ11، 12)، ثم
كان لهم نصيب في مجده الملكي، وكان لهم الرفعة والسمو يوم مجده وملكه. إن المحبة جعلت كل شيء خفيفًا وسهلاً بالنسبة
لهم، وسُجَّلت أسمائهم وأعمالهم المجيدة، وتذكرها داود بالتفصيل حين استقر في
مملكته؛ لم ينسَ منهم أحدًا.
ليتنا نتذكّر
أبيجايل الخبيرة بالأوقات؛ لقد ارتبطت بداود في زمان رفضه واحتقاره وآلامه. لقد خرجت إليه لتشاركه نصيبه في الرفض والآلام،
كذلك طافت معه من كهف لآخر، مشاركة إياه فقره وتجاربه. ربما قال البعض: أي غباء هذا أن تترك أبيجايل
منزل الثراء والأراضي الشاسعة والممتلكات الثمينة والقطعان الكثيرة لزوجها نابال،
وتسلك طريق الأحزان والفقر. ولكن أتى
اليوم الذي تغيّرت فيه هذه الأوضاع كلها؛ ذلك اليوم الذي كانت تصبر له، عندما رُدت
المملكة إلى داود، وحكم في أورشليم، وشاركته هي أمجاده كما تشاركت معه في آلامه. وكم كان ذلك اليوم عظيمًا ومجيدًا، إذ عوّضها
عن كل أحزان الماضي. وهكذا أيضًا هو نصيب
المؤمن بالمسيح «صَادِقَةٌ
هِيَ الْكَلِمَةُ: أَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ مُتْنَا مَعَهُ فَسَنَحْيَا أَيْضًا
مَعَهُ. إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ
فَسَنَمْلِكُ أَيْضًا مَعَهُ» (2تي2: 11، 12).
|
وَيَأْخُذُ الْمُلْكَ الَّذِي
وَسَتَرَاهُ الأَرْضُ فِي
وَسَتَرَاكِ مَعَهُ
بَعْدَ انْقِضَا الْغُرْبَةِ
|
|
لَهُ عَلَى الْجَمِيعْ
كُرْسِيِّهِ الرَّفِيعْ
فِي الْمَجْدِ وَالْمُلْكِ
وَالآلاَمِ وَالضَّنْكِ
|
(يتبع)