عدد رقم 2 لسنة 2016
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كنيسة أفسس  

الكنيسة كمنارة على الأرض (2):

(الدور الأول من بعد العصر الرسولي وحتى سنة 167م)

(رؤ2: 1 – 7)

   أفسس كانت هي عاصمة آسيا الصغرى.  وقد زارها بولس سنة 53م، ومكث فيها ثلاث سنوات، وانتشرت منها كلمة الرب إلى كل آسيا، وتأسست فيها كنيسة مباركة.  وقد كتب بولس رسالته إلى هذه الكنيسة من سجن رومية حوالي سنة 62م، وكانت حالة المؤمنين فيها في غاية السمو، لهذا فإن الروح القدس قد فاض بأسمى الإعلانات الإلهية والامتيازات السماوية للكنيسة بحسب مقاصد الله في علاقتها بالمسيح.  ولكن هذه الحالة السامية لم تستمر طويلاً.  وبولس في وداعه لشيوخ وقسوس كنيسة أفسس، قد حذرهم من خطر التحول عن الحق قائلاً: «احترزوا إذًا لأنفسكم ولجميع الرعية التي أقامكم الروح القدس فيها أساقفة، لترعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه.  لأني أعلم هذا: أنه بعد ذهابي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على الرعية.  ومنكم أنتم سيقوم رجال يتكلمون بأمور ملتوية ليجتذبوا التلاميذ وراءهم» (أع20: 28 - 30).  وفي آخر حياته على الأرض، قبيل رحيله إلى المجد، كتب رسالته الثانية إلى تيموثاوس قائلاً بحزن: «أنت تعلم هذا أن جميع الذين في آسيا (وعلى رأسهم المؤمنون في أفسس) ارتدوا عني» (أي عن بولس وتعليمه الخاص بكنيسة الله) (2تي1: 15).  وبعد أكثر من 30 سنة من رسالة بولس إلى أفسس، كتب لهم الرسول يوحنا هذه الرسالة التي نحن بصددها.  وما أبعد الفرق بين الرسالتين والحالتين.  فقد بات الانحراف والانحدار واضحًا.

   أفسس تعني ”المحبوبة“.  وهي أول كنيسة من الكنائس السبع التي كتب إليها الرسول يوحنا، وتعطينا صورة لما كان في البدايات.  وتُمثل نبويًا فترة ما بعد العصر الرسولي وحتى سنة 167م.

   «اكتب إلى ملاك كنيسة أفسس: هذا يقوله المُمسك السبعة الكواكب في يمينه، الماشي في وسط السبع المناير الذهبية» (أف2: 1).  من هذا نفهم أن الرب كان يأخذ مكانه في وسط الكنيسة، ويُعترَف به كرأس الجسد وصاحب السيادة والسلطان.  أما في خطاب الروح لملاك كنيسة ساردس فيُقال إن «له السبعة الكواكب» (رؤ3: 1)، ولكن ليست في يمينه، فلم يعد يُعترف به كصاحب السلطان ولا برياسته وسط الكنيسة، حيث استُبدل بالرياسات البشرية.  إنه يمشي وسط المناير يلاحظ حالة السرج، يقابل الصعوبات ويدين الشر الذي يظهر.

   يبدأ الخطاب بالمدح: «أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك، وأنك لا تقدر أن تحتمل الأشرار، وقد جربت القائلين إنهم رسل وليسوا رسلاً، فوجدتهم كاذبين» (ع2).

   «أنا عارف»، تعني المعرفة الكاملة (مز139).  إنه يُقدِّر كل تعب واحتمال لأجل اسمه ويمتدحه.  يقول الرسول بولس للمؤمنين في تسالونيكي: «متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم، وتعب محبتكم، وصبر رجائكم، ربنا يسوع المسيح» (1تس1: 3).  أما هنا فالباعث اختلف رغم أن شكل الأمور كما هو.  فقد تُظهر كنيسة غيرة مقدسة في الظاهر، ونشاطًا واهتمامًا بالخدمة، في الوقت الذي ذبلت فيه المحبة الأولى وذهبت نضارتها. 

   «وأنك لا تقدر أن تحتمل الأشرار»: فهناك رسل كذبة بدأوا يدخلون في وسطهم.  في البداية كانت الكنيسة لا تحتمل وجود الشر في وسطها.  أما الآن فقد هادنت الأشرار، وأعطت الكثير منهم مراكز بارزة لمجرد وضعهم الاجتماعي والمادي.  وعوضًا عن إطعام الخراف انصرفوا إلى مداعبة الجداء.  عدم احتمال الأشرار يعني الانفصال المقدس عن الشر.  «لا تكونوا تحت نير» (2كو6: 14)، «امتحنوا الأرواح: هل هي من الله؟» (1يو4: 1).  والكتاب يحذر من رسل كذبة، إخوة كذبة، أنبياء كذبة.  وهذا يرينا أهمية الأسوار والأبواب والبوابين.

   «وقد احتملت ولك صبر وتعبت من أجل اسمي، ولم تكل» (ع3).  التعب والاحتمال لن يضيع أجره، ولهذا علينا أن نثابر ولا نكل.

   «لكن عندي عليك (ضدك): أنك تركت محبتك الأولى» (ع4).  هنا نرى علة فشل الفرد والجماعة.  إنها تحول القلب عن المسيح.  أول ثمر الروح (غل5: 22)، وآخر عمل للإيمان هو المحبة (2بط1: 7).  والرسول تكلم عن الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة (1كو13: 13).  «فإن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة تُحتقر احتقارًا» (نش8: 7).  إن ترك المحبة الأولى هو أول خطوة في الانحدار.  والرب عاتب شعبه قديمًا قائلاً: «قد ذكرت لك غيرة صباك، محبة خطبتك، ذهابك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة» (إر2: 2).  والخدمة دون باعث المحبة للرب هي من الذات، والرب يُميِّز ذلك بوضوح.  والمؤمنون في أفسس لم يفقدوا المحبة الأولى (الفضلى) بل تركوها، فالشيء المفقود لا يمكن استرجاعه. 

   المحبة هي المطلب الأول الذي يريده الرب.  وعلى بحر طبرية كان السؤال الوحيد الذي كرره الرب لبطرس هو: «أتحبني؟»

   في أفسس كان هناك عمل ونشاط، وتعب واحتمال، واستمرارية ورفض للشر وتمييز.  لكن هل كان المسيح راضيًا؟ كلا.  لأن المحبة فترت والنضارة ذهبت.

   المحبة الأولى هي أعلى قياس مَلَكَ فيه المسيح على القلب.  إنها عذراوية القلب والعواطف والأشواق، والاستعداد للتضحية بكل غالٍ وثمين لأجله.  أن يسيطر المسيح على الكيان ويصبح هو أول شيء وكل شيء للمؤمن.  «كي يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام» (2كو5: 15).

   «فاذكر من أين سقط وتب، واعمل الأعمال الأولى، وإلا فإني آتيك عن قريب وأزحزح منارتك من مكانها، إن لم تتب» (ع5).  يجب أن نعرف أين بدأ الانحدار.  وإذا لم نتب ستدخل أشياء خطيرة في حياتنا ولن نكون شهادة ناجحة للرب، وهذا ما حدث في أفسس إذ تزحزحت المنارة. 

   التوبة تبدأ بالملاك (القادة والمسؤولين)، ولكنها مسؤولية كل فرد.  والتوبة هي تغيير النظرة والقناعة والمسار والقرار، وإدانة الذات.

   كيف تعرف أنك قد تركت محبتك الأولى؟

1-  الاهتمام بكثرة النشاط وقلة الشركة مع الرب وإهمال الخلوة.

2-  الابتهاج في أي فرصة أكثر من فرص الصلاة.

3-  إهمال قراءة الكتاب والاجترار عليه.

4-  هبوط في حساسية الضمير تجاه الخطية، والسماح للنفس ببعض التجاوزات.

5-  قلة الاستعداد للتضحية بالوقت والجهد والمال.

6-  ضعف التقدير للاجتماع والقديسين.

7-  الاهتمام بالمصالح الشخصية أكثر من مصالح الرب.

8-  إرضاء الذات وإشباع وإمتاع الرغبات الجسدية بما هو عالمي.

9-  غياب حقيقة مجيء الرب وتأثيرها على الحياة.

«ولكن عندك هذا: أنك تبغض أعمال النقولاويين التي أبغضها أنا أيضًا» (ع6).  الكلمة تعني ”قاهر الشعب أو من يتسلط على الشعب“.  وتشير إلى ظهور طبقة الإكليروس التي تتراءس على الشعب، ويعتبرون أنفسهم أنهم المسؤولون عن الممارسات الدينية دون باقي الشعب، هادمين الحق الخاص بكهنوت جميع المؤمنين.  وبالأسف هذا النظام الأسقفي بدأ مبكرًا نتيجة كتابات أغناطيوس الذي نصَّب نفسه أسقفًا لأنطاكية، وكان معاصرًا للرسول يوحنا الذي قاومه بشدة، لكن نشاطه ازداد بعد موت الرسول يوحنا.  وبالأسف ما كانت تبغضه كنيسة أفسس، في توافق مع فكر الله، تمسكت به كنيسة برغامس، فنقرأ القول: «عندك أنت أيضًا قوم متمسكون بتعليم النقولاويين الذي أبغضه» (رؤ2: 15).  والأمر لم يعد مجرد أعمال بل أصبح تعليمًا راسخًا.

   «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (ع7).  الدعوة هنا قبل الوعد للغالب.  والتحريض لكل الكنائس، فلا استقلالية للكنيسة المحلية.  «ما يقوله الروح»، وليس ما تقوله الكنيسة.  علينا أن نسمع ونطيع ونتوب ونتجاوب مع رسالة الروح القدس لنا.

   «من يغلب سأعطيه أن يأكل من شجرة الحياة التي في وسط فردوس الله» (ع7).  آدم لم يأكل من هذه الشجرة في الجنة.  هنا يتكلم عن الحقيقة وليس الرمز، ففردوس الله في السماء وليس الجنة التي على الأرض.  شجرة الحياة هي المسيح كنصيب وشبع الغالب، وليس شجرة حرفية.  والغالب هو المؤمن الحقيقي الذي يتوب ويعود للمحبة الأولى.  المسيح كالحياة الأبدية في مجدها وكمالها وروعتها هو موضوع شبع المؤمن.  هنا لا يُشار إلى شجرة معرفة الخير والشر.  فلا دور للمسؤولية، بل الكل بالنعمة المطلقة.  فردوس الله هناك، ولا ينبغي أن نعمل لأنفسنا جنات وفراديس هنا لنمتع ذواتنا بأمور عالمية وجسدية كما عمل سليمان.  لوط رأى سدوم أنها «كجنة الرب كأرض مصر»، وهذا هو الميل الطبيعي في الإنسان أن يبحث عن المسرات الأرضية.  والروح العالمية هي التي أثرت على عواطف القديسين في أفسس ففترت محبتهم، والعلاج أنه يذكرهم بنصيبهم السماوي.  وهذا ما قاله المرنم: ما لنا نصيب في هذا الوعر .. العالم يمضي وشهوته، وتبقى الحقيقة أن ليس في الأرض هَنا، وليس لنا فيها سرور.  

   وفي رحلة بولس في السفينة (أع27: 1-3)، في هذا الجزء من الرحلة نلمح ما يشير إلى بداية الانحراف.  ففي هذه الأعداد نقرأ عن ”أرسترخس“ والذي معناه "خير حاكم"، والذي كان معهم من البداية في السفينة، وقد فهمنا في العدد السابق أنه يمثل الروح القدس.  لكننا لا نسمع عنه مرة أخرى إلى نهاية الرحلة، ولم يلتفت إليه أحد.  وهذا ما حدث في تاريخ الكنيسة التي استبدلت الروح القدس وقيادته بالقيادة البشرية المنظورة التي أنتجت بعد ذلك نظام الإكليروس.

   الأمر الآخر الذي نراه هو ما يشير إلى صداقة العالم وفتور المحبة للرب.  وهذا يظهر في قول المؤرخ الإلهي: «وفي اليوم الآخر (أي الوجه الآخر)، أقبلنا إلى صيداء» (مكان الصيد أو الغنيمة الوافرة).  هذا يذكرنا بقول بطرس «أنا أذهب لأتصيد» (يو21)، لقد تحول المؤمنون عن الدعوة السماوية إلى المصالح الشخصية، مثلما حدث مع ديماس الذي أحب العالم الحاضر (2تي4: 10).  كل واحد صار يبحث عن الغنيمة الوافرة.  الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم لا ما هو ليسوع المسيح.  في صيداء «عامل يوليوس (قائد المئة) بولس بالرفق، وأذن له أن يذهب إلى أصدقائه ليحصل على عناية منهم».  وقد رأينا أن صيداء ترمز إلى العالم، وهذا اللطف يتكلم عن صداقة العالم.  وعندما يتحول القلب إلى العالم ومسراته، فإن المحبة للرب ستفتر، ولا يوجد ما يعوض هذه الخسارة.  فليعطنا الرب أن نحبه من كل قلوبنا، ولا يكن في القلب شريك له.

                                                                           

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com