عدد رقم 5 لسنة 2007
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
نظرة خاطئة للعمل  

أعزائي الشباب والشابات:

يدور حديثنا في هذا العدد حول ما يسمى ”العمل الزمني“!  وربما يكون التثقل بالكتابة في هذا الأمر قد نبع من شعوري بأن هناك خطأ جوهريًا في نظرة البعض منا إليه، بالإضافة إلى رغبة عميقة عندي في تفعيل دورنا جميعا كمؤمنين في مختلف مجالات العمل، لكي ننير ونشهد ونكرز من خلال العمل؛ اقتناعًا مني أن هذه هي إرادة الله أبينا من نحونا.  وإذا كان الرسول بولس قد كتب بالوحي أصحاحًا كاملاً في رسالته الثانية إلى تسالونيكي ليصحِّح به فكر المؤمنين من جهة العمل، فليس بكثير أن نخصِّص نحن عددًا كاملاً من مجلتنا المتواضعة لهذا الأمر. 

وأعتقد أن الخطأ في نظرة بعضنا للعمل يتدرَّج متناميًا، ابتداءً من أصغر صوره، والتي تكمن في هذه التسمية ”العمل الزمني“؛ حيث أنها تسمية توحي بأن هذا العمل مرتبط بالأرض والزمن وليس له أبعاد روحية أو أبدية!!  وأحيانًا يزداد الخطأ عند البعض، فينظرون للعمل على أنه يضعف حياة الكثيرين من المؤمنين ويجعلهم يسلكون بمبادئ هذا العالم الشرير!  وقد يصل إلى حالة الكراهية للعمل والنفور منه، باعتباره أنه عمل لهذا العالم الموضوع في الشرير وليس للرب، وبالتالي فهو يضيّع وقت المؤمن الثمين في ما لا طائل من وراءه سوى جمع المال!!  وقد يصل الخطأ مع البعض إلى حد الهروب من العمل تحت شعار التفرغ للخدمة!!  وهذه كارثة حقيقية ومخالفة صريحة للمبادئ الكتابية التي تقدِّس العمل وتوصينا أن نعمل، كما سنرى. 

ويقينًا هناك أسباب كثيرة لهذه النظرة الخاطئة، لا أدّعي أنني أحيط بها جميعها، لكنني حاولت واجتهدت أن أقف ولو على بعضها، وعلى قدر فهمي أذكر لكم، أعزائي، ما وصلت إليه.

1- ضياع المفهوم الصحيح للتكريس والانتذار للرب

ربط البعض بين التكريس والتفرغ من العمل الزمني!  بمعنى أنك عندما تسمع أن فلان مكرسّ للرب، فإن أول ما يتبادر إلى ذهنك هو أنه قد ترك عمله الزمني وتفرّغ للرب!  وكأنّ العمل الزمني كان هو العائق أمام التكريس الحقيقي والكامل للرب!!  وهنا أقول لأيِّ مِنْ أحبائي المؤمنين إن كان يفكّر بهذه الطريقة، إننا بهذا الفكر نخطئ بشدة في حق كل من العمل والتكريس أيضًا!  وهو خطأ لا يقل عن هذا الخطأ الذي اعتبر أن الزواج ضد التكريس!!  أي يمكنني القول أنه إذا كانت الكنيسة التقليدية قد أخطات بالربط بين التكريس وعدم الزواج، فنحن نكون عندئذ قد أخطأنا بالربط بين التكريس وعدم العمل!  وكلانا يتجاهل أن العمل والزواج هما أول ما دبَّر الله للإنسان بعد الخلق مباشرة، لكي ما يتمكن الإنسان من خلالهما من تحقيق مقاصد الله على الأرض وتمجيده فيها.  فإن كنا نرى الله، في تكوين 1، يعد الأرض لسكنى الإنسان من خلال أعمال الأيام الستة، فإننا، في تكوين 2، نرى الله يعد الإنسان لإتمام مقاصده في الأرض من خلال العمل والزواج (تك2: 15،18).  وعليه فإنني أرى أن الخطأ الفكري أو التعليمي في حق العمل لا يقل عنه في حق الزواج.  وعدم تقديس العمل لا يقل عن عدم تقديس الزواج.  وعلى العكس تمامًا من هذا الفكر الخاطئ الذي يرى أن التكريس يعني ترك العمل أو إهماله، أرى أن التكريس الحقيقي للرب لا يظهر كما يظهر في مجال العمل حيث الواقع العملي يفرض تحدياته على المؤمن ليمتحن حقيقة تكريسه إن كان مكرسًا أم لا.  أما الأجواء الكنسية فهي لا تفرض هذا التحدي، بل على العكس، ربما تقدّم ما يشجع.  كما أننا لا نفهم أبدًا أن النذير في العهد القديم - وهو من أوضح الصور الرمزية التي نستعملها لنفهم التكريس الحقيقي للرب - كان يمتنع عن العمل بل عن ثلاثة أشياء أخرى ليس منها العمل.

وبالطبع هناك بعض المواهب الخاصة والمتميزة، والتي أعدها الرب لخدمة خاصة، قد تقتضي هذه الخدمة التفرغ من العمل الزمني، بعض الوقت أو كل الوقت، لفترة محدودة أو كل العمر؛ لكن من الواضح أن هذا ليس له أي علاقة بالتكريس والانتذار للرب؛ لكنه مرتبط بالموهبة ونوع الخدمة التي يطلبها الرب.  فالتكريس لا ينتج تفرغ ولا التفرغ ينتج تكريس.

2- الفصل بين الحياة الروحية والحياة الزمنية

السبب الثاني في هذا الموقف السلبي من العمل عند الكثيرين من أولاد الله، قد نبع - على قدر فهمي - من خطإ آخر خطير ومدمر؛ ألا وهو الفصل بين الحياة الروحية والحياة الدنيوية!  بمعنى أن حياة المؤمن لها شقان؛ شق روحي وأخر دنيوي!  الشق الروحي عناصره هي حضور الاجتماعات والمجامع أو المؤتمرات وقراءة الكتاب والصلاة وأيضًا المشاركة في إحدى الخدمات المتنوعة في الكنيسة و... إلخ!  أما الدنيوي فعناصره هي العلم والعمل والمال والنجاح والزواج والعلاقات مع الأقارب والأصدقاء وأوقات الترفيه في الإجازات و... إلخ! 

وهذا الخطأ، أي شطر الحياة إلى روحية ودنيوية، أراه - من وجهة نظري - لا يقل عن أي هرطقة من الهرطقات الشيطانية التي تبغي تدمير المسيحية الحقيقية.  وهي هرطقة تناسب تمامًا ميول وأهواء المتدينين، المندسين وسط كنيسة الله، والذين يتشابهون - إلى حد كبير - مع المؤمنين الحقيقين، للدرجة التي يصعب معها حتى على الخدام والفاهمين تمييزهم!  إنه تشابه الزوان مع الحنطة!  هذا الفصل بين حياة روحية  وأخرى دنيوية يعطي المتدينين حرية العيشة بمبادئ هذا العالم في أعمالهم، بينما في نفس الوقت يتمكنون من ممارسة أنشطتهم وعبادتهم وخدمتهم في الكنائس بضمائر مستريحة، بل ويشغلون مراكز متقدمة فيها!  وهذا  يؤدي إلى تعثّر المؤمنين الصغار، وإلى تكوّن شعور سلبي عندهم تجاه العمل، وكأن العمل هو الذي جعل أولئك كذلك، بينما العمل بريء منهم تمامًا، والسبب الحقيقي لسلوكهم الجسدي في مواقع عملهم هو فساد جوهرهم وزيف إيمانهم. 

أما المفهوم الحقيقي للحياة المسيحية، فهو ببساطة أنها حياة واحدة، بمبادئ واحدة، وأخلاقيات واحدة؛ لا تتجزأ ولا تزدوج، سواء كان المسيحي يتصرف في الكنيسة أو في البيت أو في المصنع أو في الورشة أو في المكتب أو في الحقل أو في ...إلخ.  والمؤمن الحقيقي خادم للرب ومرسل منه لهذا العالم ليضيء كنور وسط ظلامه في عائلته وفي عمله، قبل أن يكون شخصًا نشطًا في كنيسته.

3- جاذبية الأجواء الكنسية

وثمة سبب ثالث أدى إلى هذا الموقف السلبي تجاه العمل، هو - من وجهة نظري - تحوّل الكنائس بأنشطتها الكثيرة إلى مناطق جذب شديد للشباب، ولا سيما في المرحلة الجامعية؛ إذ يجدون فيها مجالاً حلوًا للنفس، يمارسون فيه الهوايات، ويستمتعون فيه بإقامة العلاقات، وينعمون فيه بالقبول والترحاب الذي يفتقدونه في مجتمع لا يوفر لهم أي شيء من هذا القبيل.  كما أنهم يجدون من خلال الخدمات الكثيرة، ولا سيما تلك التي تقوم على أحلام ضخمة ورؤى بطولية، فرصًا لتحقيق الذات.  وما يحدث بعد ذلك هو أنه بمجرد إنهاء الشاب لفترة دراسته الجامعية وانخراطه في سوق العمل، هذا إذا وجد عملاً،  يجد أنه من المحتَّم عليه أن يقضي ساعات طويلة في مجتمع مغاير تمامًا لهذا المجنمع الناعم الجميل الذي كان يعيش فيه طوال حياته الجامعية!!  فلا كلمات جميلة، ولا ترحاب، ولا قبول، ولا تشجيع، ولا أحلام، ولا علاقات دافئة؛ بل على العكس شر وفساد وحسد وغيرة ومنافسة شرسة وأحقاد!!  وبدلاً من الإقرار بأن هذا هو الواقع الذي من المحتَّم علينا أن نعيش فيه، بل وأن نُجيد التعامل معه، وأن هذا هو المجال الحقيقي للشهادة للرب وليس داخل جدران مباني الكنائس، وأن هذا هو مكان الإرسالية الإلهية التي علينا أن نتممها، وبدلاً من أن نجاهد لكي نستمد معونة من الرب حتى نقف راسخين في مواقع عملنا كأنوار وسط جيل معوج وملتوٍ، بدلاً من كل هذا، تجد الشاب ينسحب إلى الكنيسة مرة أخرى، مشتاقًا لجوِّها الاجتماعي والنفسي الجميل الذي كان يعيش فيه، ويزداد نفوره من العمل أكثر وأكثر.  وقد يحدث مع البعض أن يقرِّر التفرغ للخدمة لكي يقضي بقية عمره وسط هذه الأجواء الناعمة الجميلة!

4- المفهوم الخاطئ للعبادة والسجود

واحدة من مخادعات القلب البشري النجيس، وهي - من وجهة نظري - وراء الكثير من المآسي الروحية في الدوائر المسيحية الآن، ومنها هذه النظرة السلبية للعمل؛ هي تلك المفاهيم الخاطئة للسجود والعبادة!  وربما لا يتسع المجال هنا لشرحها والرد عليها، لكن يكفي أن أقول إن السجود الحقيقي هو حالة روحية سامية يعيشها المسيحي الحقيقي، وليس مجرد أداء يؤديه.  قال عنه واحد: ”السجود لله هو أن يمتلئ الذهن بأفكاره، ويُحكم الضمير بقداسته، ويتطهر الخيال بجماله، ويشبع القلب بمحبته، وتخضع الإرادة لمشيئته“! 

أما العبادة، فهي - على قدر فهمي للمكتوب - في جوهرها تقديم تقدمات وروائح سرور لله؛ وإن كانت كل الذبائح والتقدمات في العهد القديم تشير إلى المسيح، فهذا يعني أن الله يريدنا في العهد الجديد أن نقدِّم المسيح للآب.  لكن أن نقدِّم المسيح نفسه وليس مجرد عبارات تصفه. 

إنها مأساة تكسر قلبي، وملهاة يسخر منها عقلي، أن نهوي بالسجود لكي نجعله أقل تكلفة من سجود العهد القديم، فبينما كان الساجد في العهد القديم يتكلف ثمن الذبيحة التي تشير إلى المسيح، أصبحنا نحن اليوم لا نتكلف سوى عبارات تصف المسيح!!!  وهذا يفسِّر لماذا لم يقًل السيد إن الآب طالب ”سجود“ بل طالب ”ساجدين“؛ لأنه لم يعُد هناك فصلٌ بين الساجد وسجوده؛ فالساجد يقدّم المسيح للآب في حياته وسلوكياته، في عواطفه وأفكاره، في عمله وفي بيته، من خلال حياة يحياها كل يوم وكل اليوم، وليس من خلال عبارات يردِّدها. 

وعليه فاختزال السجود والعبادة لمجرد ساعة في الأسبوع، أو في اليوم، هو شيء بلا معنى في ضوء هذا المفهوم.  وهذا الاختزال أضاع من المؤمنين الشعور بالمسؤولية أن يكونوا عابدين الرب، حتى وهم في أعمالهم، من خلال تقديم المسيح في حياتهم وتقديم أجسادهم ذبيحة حية لله في كل وقت وكل الوقت . 

إزاء هذا كله، ولكي نصل معكم، أحبائي القراء، إلى مفهوم صحيح للعمل يجعلنا نمجِّد الله فيه، وبه أيضًا تتبارك بيوتنا وعائلاتنا، وبه أيضًا نكون مثمرين لله؛ خصَّصنا هذا العدد للحديث عن العمل. 

وستجدون في هذا العدد باقة متميزة من المقالات بأقلام جديدة علينا، لكنها لأشخاص لهم علاقة قديمة وعميقة مع الله، ولهم رؤية ثاقبة ونجاح حقيقي في أعمالهم.  وستجدون هذه المقالات في صورتين إحداهما تعليمية بحثية تقدِّم الفكر الكتابي الصحيح من نحو العمل.  وأخرى عبارة عن شهادات حيّة من مواقع العمل مملوءة بالدروس القيمة التي يحتاج إليها الصغار والكبار في مواقع العمل المختلفة. 

هذا بالطبع بالإضافة إلى بعض المقالات الأخرى في غير موضوع ملف العدد والتي اعتدتم أن تجدونها. 

أصلّي أن يستخدم الرب هذا العدد لبركة الكثيرين منا.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com