اخترت لكم، أعزائي القرّاء، بعضًا من المواضع، وليس كل المواضع، التي علَّم فيها الرسول بولس - بالوحي - عن قيمة العمل، وكيف يكون. واستخلصت منها عشر وصايا، إذا وضعناها موضع التنفيذ ستكون سبب بركة كبيرة لحياتنا.
وأبدأ بما علَّم به بولس في رسالته الثانية للتسالونيكين، إذ أعطى الرسول الأصحاح الثالث كله من هذه الرسالة للحديث عن موضوع العمل. وأعتقد أن تقديرنا لهذا الجزء يزداد، وبالتالي يزداد حجم اهتمامنا به وطاعتنا له؛ إذا علمنا أن الرسول كتب هذه الرسالة ليعالج فيها ثلاث قضايا، راى الرسول أن عدم وضوح الفكر فيها يؤثر على شهادة الكنيسة الوليدة في تسالونيكي وهم:
- قضية الضيقات والاضطهادات التي يتعرض لها القديسون هناك (ص1).
- قضية مجيء الرب ويوم الرب، وعدم وضوح التعليم بخصوصهما مما أعطى فرصة للمعلمين الكذبة أن يكتبوا رسائل مزيفة على أنها من الرسول، يدّعون فيها أن يوم الرب قد حضر (ص2).
- قضية العمل (ص3).
إذًا، الرسول يضع الخطأ التعليمي أو الفكري من جهة العمل، على قَدَمِ المساواة في تأثيره السلبي على شهادة الكنيسة مع الخطإ التعليمي من جهة مجيء الرب ومن جهة ضيقات القديسين!!
وهاك النص الكتابي لجزء من هذا الإصحاح:
«ثُمَّ نُوصِيكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَتَجَنَّبُوا كُلَّ أَخٍ يَسْلُكُ بِلاَ تَرْتِيبٍ، وَلَيْسَ حَسَبَ التَّعْلِيمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا. إِذْ أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يُتَمَثَّلَ بِنَا، لأَنَّنَا لَمْ نَسْلُكْ بِلاَ تَرْتِيبٍ بَيْنَكُمْ، وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزًا مَجَّانًا مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَارًا، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ. لَيْسَ أَنْ لاَ سُلْطَانَ لَنَا، بَلْ لِكَيْ نُعْطِيَكُمْ أَنْفُسَنَا قُدْوَةً حَتَّى تَتَمَثَّلُوا بِنَا. فَإِنَّنَا أَيْضًا حِينَ كُنَّا عِنْدَكُمْ، أَوْصَيْنَاكُمْ بِهذَا: ”أَنَّهُ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا“. لأَنَّنَا نَسْمَعُ أَنَّ قَوْمًا يَسْلُكُونَ بَيْنَكُمْ بِلاَ تَرْتِيبٍ، لاَ يَشْتَغِلُونَ شَيْئًا بَلْ هُمْ فُضُولِيُّونَ. فَمِثْلُ هؤُلاَءِ نُوصِيهِمْ وَنَعِظُهُمْ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنْ يَشْتَغِلُوا بِهُدُوءٍ، وَيَأْكُلُوا خُبْزَ أَنْفُسِهِمْ. أَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَلاَ تَفْشَلُوا فِي عَمَلِ الْخَيْرِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُطِيعُ كَلاَمَنَا بِالرِّسَالَةِ، فَسِمُوا هذَا وَلاَ تُخَالِطُوهُ لِكَيْ يَخْجَلَ، وَلكِنْ لاَ تَحْسِبُوهُ كَعَدُوٍّ، بَلْ أَنْذِرُوهُ كَأَخٍ» (2تس3: 6-15).
من هذا الجزء نستنتج ثلاثة دروس هامة:
1- العمل وصية إلهية طاعتها تمجد الله: ثلاث مرات يكرر الرسول في هذا المقطع كلمة الوصية، بل يقول: «نوصيكم باسم ربنا يسوع»، ليعطي الوصية سلطانًا، ليس رسوليًا فقط، مع أنه يكفي، لكن سلطانًا إلهيًا! ويقول أيضًا «نوصيهم بربنا يسوع»، ليعطي طاقة للطاعة، وكأنّه يقول ”من أجل خاطر ربنا يسوع“! إذًا هي وصية إلهية رسولية، ينبغي طاعتها كأي وصية أخرى كتابية! بل ويقرِّر هذا المبدأ الحازم: ”أن الذي لا يريد أن يشتغل عليه أن لا يأكل أيضًا“!! مع الوضع في الاعتبار أنه هنا لا يقول ”الذي لا يقدر“ بل ”الذي لا يريد“.
هي وصية إلهية رسولية، ينبغي طاعتها كأي وصية أخرى كتابية! بل ويقرِّر هذا المبدأ الحازم: ”أن الذي لا يريد أن يشتغل عليه أن لا يأكل أيضًا“!!
2- رفض العمل خطية تستوجب التأديب الكنسي! ولقد أسمى الرسول هذه الخطية «السلوك بلا ترتيب»، وكرّرها أيضًا ثلاث مرات! وقرّر أن يكون موقف الكنيسة من الشخص الذي يرتكبها هو أن تتجنبه! وبهذا النوع من التأديب، يضع الرسول هذه الخطية، «السلوك بلا ترتيب» على قَدَمِ المساواة مع التعاليم الشريرة في 1تيموثاوس6: 5، ومع خطية شخص مبتدع في تيطس3: 10؛ ليرينا خطورة هذه الخطية وأثرها السيء على كنيسة الله!
3- العمل ينبغي أن يكون بهدوء. خوفًا من تطرف بعض المؤمنين، عندما يسمعون عن كُره الرب الشديد لهذه الخطية، فيُغرقون أنفسهم في العمل، فيصلوا لحد الارتباك به؛ يضيف الرسول هذه العبارة الجميلة: «أن يشتغلوا بهدوء». وهنا يضع مبدءًا عامًا لكل المؤمنين في كل أنواع الشغل: أن يكون بهدوء؛ بمعني أن لا يكون هناك سعي محموم وراء العمل يجعل المؤمن لا يجد الوقت اللازم لعائلته أو لإخوته المؤمنين.
وفي رسالة أفسس نجد وصايا الرسول للعبيد المسيحيين، توضِّح لهم كيف ينبغي أن يتعاملوا مع شغلهم ومع سادتهم. وبالتالي، فهي وصايا تهمّنا، حتى وإن كان اليوم لا يوجد عبيد وسادة، لكن يبقى أنها وصايا تنظم السلوك المسيحي الصحيح الخاص بعلاقة المسيحي بالعمل.
يقول الرسول في أفسس6: 5-8: «أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ، لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ كَعَبِيدِ الْمَسِيحِ، عَامِلِينَ مَشِيئَةَ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ. عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَيْرِ فَذلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ، عَبْدًا كَانَ أَمْ حُرًّا».
من هذا المقطع يمكننا استخلاص أربع وصايا أخرى هامة:
4- العمل ينبغي التعامل معه بخوف ورعدة!! لماذا؟ لكونه أهم مجال نشهد فيه عن خلاص إلهنا. فهو، إذ يطلب طاعة السادة بخوف ورعدة إنما يذكرنا بما أمر به في فيلبي2: 12، 13 عندما قال لكل المؤمنين: «تمّموا خلاصكم بخوف ورعدة، لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا وأن تعملوا من أجل المسرة». والخوف والرعدة هنا يعنيان الشعور العميق بالمسؤولية تجاه الإظهار في الخارج للحياة المسيحية التي أوجدها الخلاص في الداخل. أو الشعور بخطورة التقصير في أن نترجم في الخارج ما يعمله الله فينا في الداخل. والغرض هو ما ذكره الرسول بعدها مباشرة في ع15 « لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَدًا ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ».
بساطة القلب تعني أن أعمل عملي بقلب كامل غير مجزّإ، بل على العكس؛ لا أدّخر جهدًا في إخراج أفضل ما عندي، وكأني أعمل هذا العمل للمسيح لكونه يقدِّم شهادة عن حياة المسيح!!
5- العمل ينبغي أن يُعمل ببساطة القلب كما للمسيح! أي بإتقان، لكونه شهادة عن المسيح! بساطة القلب تعني أن أعمل عملي بقلب كامل غير مجزّإ، جزء يقول لي ”أعمله بجودة عالية“، وجزء أخر في قلبي يقول لي ”لا ترهق نفسك كثيرًا فصاحب العمل لا يستحق كل هذا الجهد“، بل على العكس؛ لا أدّخر جهدًا في إخراج أفضل ما عندي، وكأني أعمل هذا العمل للمسيح لكونه يقدِّم شهادة عن حياة المسيح!!
6- العمل ينبغي أن يعمل من القلب كعبيد المسيح! أي بحب، لكونه مشيئة الله. وهذه واحدة من أهم العبارات عن العمل، إذ أنها تغيِّر فكر المؤمن من نحو العمل، من كونه مجرَّد وسيلة لكسب العيش، إلى كونه مجال إتمام مشيئة الله في الحياة، وبالتالي فهو مجال تمجيد الله! ولهذا لا يليق أن يُعمَل لمجرد إرضاء صاحب العمل، أي بخدمة العين، بل يعمل من القلب باعتباره مشيئة الله. وهنا لا يقول ”كما للمسيح“ كما في العبارة السابقة، بل ”كعبيد المسيح“ ليذكِّرنا بموقف المسيح من مشيئة الله عندما كان هنا على الأرض، ولكوننا عبيده علينا أن نعمل مشيئة الله بحب وسرور نظيره.
7- العمل ينبغي أن يعمل بنية صالحة كما للرب، أي برضا، لكون المكافأة من عند الرب. وهنا أيضًا يقدِّم لنا الرسول فكرًا نحتاج إليه بشدة، ولا سيما في بلادنا وفي أيامنا هذه، ألا وهو أن المدير الأعلى الذي يراقب عمل المؤمن هو الرب. وبالتالي، فعلى المؤمن أن يعمل عمله بنية صالحة كما للرب، لاحظ أنه لا يقول ”كما للمسيح“ بل ”كما للرب“، بمعنى أن يعمله بثقة كاملة أنه لن يُظلم في التقدير والمكافأة. فإذا لم يقدِّر المدير الأرضي أو صاحب العمل، فهناك السيد الكبير الذي سيقدِّر وسيكافئ، ولو بعد مرور السنين. ومن هذا المنطلَق، يعمل المؤمن عمله بكل كفاءة، حتى ولو كان المرتب غير مجزٍ، أو كان يلقى الظلم ممن يعمل معهم!
إذا لم يقدِّر المدير الأرضي أو صاحب العمل، فهناك السيد الكبير الذي سيقدِّر وسيكافئ، ولو بعد مرور السنين.
وأخيرًا، أعزائي، من رسالتي تيموثاوس الأولى وتيطس، نستخلص ثلاثة وصايا أخيرة من تعاليم الرسول الكثيرة بخصوص العمل:
«جَمِيعُ الَّذِينَ هُمْ عَبِيدٌ تَحْتَ نِيرٍ فَلْيَحْسِبُوا سَادَتَهُمْ مُسْتَحِقِّينَ كُلَّ إِكْرَامٍ، لِئَلاَّ يُفْتَرَى عَلَى اسْمِ اللهِ وَتَعْلِيمِهِ. وَالَّذِينَ لَهُمْ سَادَةٌ مُؤْمِنُونَ، لاَ يَسْتَهِينُوا بِهِمْ لأَنَّهُمْ إِخْوَةٌ، بَلْ لِيَخْدِمُوهُمْ أَكْثَرَ، لأَنَّ الَّذِينَ يَتَشَارَكُونَ فِي الْفَائِدَةِ هُمْ مُؤْمِنُونَ وَمَحْبُوبُونَ. عَلِّمْ وَعِظْ بِهذَا» (1تي6: 1، 2).
«وَالْعَبِيدَ أَنْ يَخْضَعُوا لِسَادَتِهِمْ، وَيُرْضُوهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ، غَيْرَ مُنَاقِضِينَ، غَيْرَ مُخْتَلِسِينَ، بَلْ مُقَدِّمِينَ كُلَّ أَمَانَةٍ صَالِحَةٍ، لِكَيْ يُزَيِّنُوا تَعْلِيمَ مُخَلِّصِنَا اللهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (تي2: 9، 10).
«صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ. وَأُرِيدُ أَنْ تُقَرِّرَ هذِهِ الأُمُورَ، لِكَيْ يَهْتَمَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً. فَإِنَّ هذِهِ الأُمُورَ هِيَ الْحَسَنَةُ وَالنَّافِعَةُ لِلنَّاسِ» (تي3: 8).
8- الإهمال في العمل يجلب الإفتراء على تعليم الله وعلى اسمه، بينما الأمانة فيه تزين تعليم مخلصنا الله!! كثيرون من المؤمنين لا يدركون أن زملاءهم يراقبون كل تصرف منهم، إما لكي يجدوا علّة لرفض وإهانة تعليم الله، أو على العكس، لكي يجدوا المبرِّر المقنع لقبول هذا التعليم.
9- العمل عند المؤمنين يلزم العاملين عندهم بخدمة أكثر! وهذا على عكس ما يحدث، للأسف، من بعض المؤمنين الذين يشتغلون عند مؤمنين! إذ كثيرًا ما نسمع أصحاب الأعمال المؤمنين يشتكون من العاملين المؤمنين، بسبب الاستهتار واستغلال المحبة الأخوية بطريقة سيئة!
10- العمل ينبغي أن يكون ذو نوعية نافعة للناس. وهنا يجيبنا عن سؤال هام: هل هناك أعمال معينة لا يليق بالمؤمن أن يشتغل فيها؟ والإجابة هي كل ما يسبِّب ضررًا للناس، على المؤمن أن لا يعمل فيه. وهنا يسمِّي الرسول الشغل أعمالاً حسنة، ويطلب من تيطس أن يؤكِّد على أهمية أن يهتم الذين آمنوا بها، بل ويقدِّم لهذا بنفس العبارة التي استخدمها في 1تيموثاوس1: 15عن كون المسيح قد جاء إلى العالم ليخلص الخطاة!
أُصلّي من قلبي أن تلمس هذه الوصايا ضمائرنا، وأن تنير أذهاننا؛ فالوصية مصباح والشريعة نور، وتوبيخات الأدب طريق الحياة. وإنني على يقين أننا لن ننجح في أن نمجِّد الرب ككنيسة في اجتماعاتنا إن كنا لا نمجده أولاً في أعمالنا.