في هذا المقال أضع أمامكم، أحبائي القراء، بعض المفاهيم الكتابية الصحيحة بخصوص العمل، راجيًا من الرب أن تتجدَّد أذهاننا تجاه هذه القضية الهامة.
أولاً: العمل والسقوط
يربط البعض بين العمل ودخول الخطية في تكوين 3! ويعتبرون أن العمل نتج عن السقوط بناء على قول الرب لآدم «لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لاَ تَأْكُلْ مِنْهَا؛ مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ».
هؤلاء يجهلون أن الارتباط هنا هو بين السقوط والمعاناة في العمل، والمُشار إليها بالعرق، وليس بالعمل نفسه. هذه المعاناة في العمل التي نتجت عن لعنة الأرض بسبب السقوط، أما العمل نفسه فقد كان قد ترتَّب لآدم في تكوين2 قبل دخول الخطية إذ يقول الكتاب: «وَأَخَذَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَوَضَعَهُ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ لِيَعْمَلَهَا وَيَحْفَظَهَا» (تك2: 15).
أي أنه بعد الخلق مباشرة، بل وحتى قبل الزواج، رتب الله لآدم عملين، وليس عملاً واحدًا؛ هما أن يعمل الجنة ويحفظها. والفعل الأول ”يعملها“ هو بالعبري: ”عَبَدَ“، ويعني إخضاع أو استعباد، والمقصود أن يُخضع آدم الأرض ليتمجّد الله فيها. والفعل الثاني ”يحفظها“ هو بالعبري ”شمر“، ويعني يحرس أو يراقب أو يحفظ، والمقصود أن يحرسها من كل ما يتعارض مع وصية الرب له. وهنا من الواضح جدًا أن العمل في الأرض كان هو مجال تمجيد الإنسان لله وإظهار طاعته له، وهذا هو الغرض الأساسي والجوهري من العمل الآن، فهو ليس فقط من أجل لقمة العيش، بل هو أولاً، وقبل كل شيء، أروع مجال لتمجيد الله وإظهار طاعتنا له! فكيف يكون نتج عن السقوط؟!
إذًا المشكلة ليست في العمل، بل في الأرض الملعونة التي فيها نعمل. وكما أن الجسد المادي أصبح مائتًا بسبب دخول الخطية، ومع هذا يأمرنا الكتاب أن نهتم به ونمجد الله فيه، كذلك العمل الزمني أصبح متعِبًا بسبب دخول الخطية، لكن مع هذا يأمرنا الكتاب أن نهتم به ونمجد الله فيه.
العمل الزمني
أصبح متعِبًا بسبب دخول الخطية،
لكن مع هذا يأمرنا الكتاب أن نهتم به ونمجد الله فيه.
ثانيًا: العمل والخلق
هل من المعقول أن الله الذي قال: «نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا» يخلق كائنًا خاملاً كسولاً؟
كثيرون من المفسّرين يقولون لنا إن ”الصورة“ تعني التمثيل الرسمي في الأرض، و”الشبه“ يعني المشابهة الأدبية لله ككائن روحي. وإذا نظرنا بعمق لهاتين الحقيقتين، نجدهما يحتّمان على الإنسان العمل، بل ويمجدانه!
فالتمثيل الرسمي لله على الأرض يعني إخضاع وإدارة الأرض لمجد الله، كل رجل حسب المساحة المتاحة له، والمسؤولية الملقاة على عاتقه، والمواهب الممنوحة له، وعلى زوجته أن تعينه على تحقيق هذه المهمة فهي خُلقت من أجل هذا. أما المشابهة الأدبية لله ككائنات روحية، فهي تحتّم علينا أن نعمل، بل وتعطي بُعدًا جديدًا للعمل، فيه التخيل والابتكار والسعادة بالإنجاز، كل ما يميز الكائن الروحي. فنحن نقرأ عن الرب الإله في تكوين2: 2-3 الآتي: «وَفَرَغَ اللهُ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. فَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ. وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ فِيهِ اسْتَرَاحَ مِنْ جَمِيعِ عَمَلِهِ الَّذِي عَمِلَ اللهُ خَالِقًا».
لاحظ كيف يكرر ثلاث مرات عبارة «عمله الذي عمل»، فالكائن الروحي لا بد أن يعمل. وفي المرة الثالثة يوضِّح نوعية هذا العمل، فيقول «الذي عمل خالقًا»، وعمل الخلق يقتضي، بالإضافة إلى القدرة المطلقة التي تميز الذات الإلهية، التخيل والابتكار والذي يميز الكائنات الروحية فقط، حيث لا يوجد دليل علمي ثابت يؤكد أن الكائنات النفسية فقط، كالحيوانات، لها القدرة على التخيل أو الابتكار أو السعادة بالإنجاز.
كما ترينا هذه العبارات مشاعر الله بعدما فرغ من عمله الذي عمل خالقًا، من خلال كلمة ”استراح“ التي تكرّرت مرتين، وبالطبع لا يمكن فهمها بأن الله كان قد تعب في الأيام الستة من عناء العمل؛ فهذا لا يليق بكلي القدرة، كما أن التعب مرتبط بالخطية التي لم تكن قد دخلت إلى العالم. إذًا هي ليست راحة المُتعَب من عناء العمل، بل راحة وسعادة المبتكر بإنجاز عمله ورؤية ما تخيله مجسَّدًا أمامه. وهذا يجعلني أؤكد أن العمل لازم للإنسان لزوم الماء والهواء، فهو، بالإضافة لكونه مجال إتمام مشيئة الله من وجودنا على الأرض، هو المجال الذي يعبّر فيه الإنسان عن نفسه وفيه يستريح بإنجازه، وهذان الأمران حتميان لكي يكون الإنسان سويًّا روحيًا ونفسيًا. وبسبب هذا أتفق مع إحدى النظريات الحديثة في الطب النفسي التي تؤكد على اعتبار أن موقف الإنسان من العمل هو الذي يحدِّد علاقته بالمرض النفسي، بمعنى أن أهم ما يعتمد عليه الطبيب النفسي في الحكم إن كان هناك مرض نفسي أم لا هو الأداء الوظيفي في العمل.
ثالثًا: الرب يسوع وحرفة النجارة
ألا يحمل لنا معنى عظيم أن رب المجد، عندما أتى إلى خليقته، أتاها عاملاً كنجار!! وإن افترضنا أنه بدأ العمل من سن الثانية عشر، كالمعتاد في ذلك الزمان وفي تلك البلاد، فهذا يعني أن رب المجد قضى ثمانية عشرة سنة من عمره القصير على الأرض كان يعمل فيها كنجار! وهكذا كان السيد يعيش الإنسانية الحقة كما صممها الله وكما أرادها، فهي بشرية عاملة وليست خاملة. لكن من جانب آخر يمكننا القول إن البشر كانوا في شديد الحاجة لخدمته وليس لنجارته!! فلو كان قد قضى الوقت الأطول في الخدمة الروحية والأقل في النجارة، ما كان هذا أثَّرَ سلبًا على حرفة النجارة، بينما كان سيسبب أعظم النفع للناس من الناحية الروحية؛ لكن هذه هي نظرتنا البشرية لأننا نتجاهل أنه، سواء كان في نجارته أو في خدمته، كان أولاً وقبل كل شيء لشبع قلب أبيه بحياته وسلوكياته وطاعته. لقد كان السيد يعمل نجارًا لكي يشبع قلب أبيه بحياة إنسانية سويّة، تظهر كل الجمال في مواقع العمل بين الناس، تمامًا كما أظهرت كل الجمال في مواقع الخدمة بعد ذلك.
لقد كان السيد يعمل نجارًا لكي يشبع قلب أبيه بحياة إنسانية سويّة، تظهر كل الجمال في مواقع العمل بين الناس، تمامًا كما أظهرت كل الجمال في مواقع الخدمة بعد ذلك
رابعًا: الرسول بولس وصناعة الخيام
ربما لم يظهر شخص في كل التاريخ المسيحي كثرت مواهبه الروحية مثلما كثرت مواهب الرسول بولس. وأعتقد أيضًا أنه لم يظهر شخص في كل التاريخ المسيحي خدم الرب أكثر من الرسول بولس. لكن العجيب أنه بينما حالت موهبته دون الزواج إلا أنها لم تحُل دون العمل! ففي مواقع كثيرة في العهد الجديد نقرأ عن عمله وتعبه في صناعة الخيام، لكي ينفق ليس فقط على حاجاته، بل وعلى حاجات الذين معه، بل وعلى الخدمة نفسها!!
وعندما مررت على المواضع التي تكلَّمت عن عمل الرسول بولس في صناعة الخيام، وجدتها تنير ذهني وتحمل الكثير من التعليم والغذاء الروحي لنا. وقد اخترت لك، عزيزي القارئ، بعض هذه المواضع لأشاركك منها بسبعة دروس كانت سبب بركة كبيرة لي.
في أعمال 18، جاء إلى كورنثوس، وهناك طالت مدة إقامته، فأقام سنة وستة أشهر. وكم هو جميل قول الكتاب إذ يقول عنه «وكان يعمل»!!
«وَبَعْدَ هذَا مَضَى بُولُسُ مِنْ أَثِينَا وَجَاءَ إِلَى كُورِنْثُوسَ، فَوَجَدَ يَهُودِيًّا اسْمُهُ أَكِيلاَ، بُنْطِيَّ الْجِنْسِ، كَانَ قَدْ جَاءَ حَدِيثًا مِنْ إِيطَالِيَة، وَبِرِيسْكِلاَّ امْرَأَتَهُ، لأَنَّ كُلُودِيُوسَ كَانَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يَمْضِيَ جَمِيعُ الْيَهُودِ مِنْ رُومِيَةَ، فَجَاءَ إِلَيْهِمَا. وَلِكَوْنِهِ مِنْ صِنَاعَتِهِمَا أَقَامَ عِنْدَهُمَا وَكَانَ يَعْمَلُ، لأَنَّهُمَا كَانَا فِي صِنَاعَتِهِمَا خِيَامِيَّيْنِ».
وما يثير عجبي في هذا الجزء هو ما يقوله الروح القدس بعده مباشرة إذ يقول: «قَالَ الرَّبُّ لِبُولُسَ بِرُؤْيَا فِي اللَّيْلِ: ”لاَ تَخَفْ، بَلْ تَكَلَّمْ وَلاَ تَسْكُتْ، لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، وَلاَ يَقَعُ بِكَ أَحَدٌ لِيُؤْذِيَكَ، لأَنَّ لِي شَعْبًا كَثِيرًا فِي هذِهِ الْمَدِينَةِ“. فَأَقَامَ سَنَةً وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ يُعَلِّمُ بَيْنَهُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ».
فعلى قدر علمي لم يظهر الرب لبولس في أي بلد آخر غير هنا ليخبره بأنه له في هذا البلد شعبًا كثيرًا! ولكي يشجّعه بكل هذه التشجيعات؛ ولا سيما القول ”لأني أنا معك“. وهنا لنا أول درسان:
- أن وجود خدمة متسعة في مدينة كورنثوس، بسبب كثرة الشعب الذي سيأتي به الرب إليه، لم يحتِّم على الرسول بولس أن يتفرغ من عمله الزمني!! بل كان يكِّد ويتعب طوال الأسبوع في صناعة الخيام، وفي التعليم والكرازة بكلمة الله، ثم في السبوت يذهب للمحاجّة في المجامع!!
- أن الرب الذي ظهر له وشجَّعه بكل هذا التشجيع، لم يُمطر له من السماء طعامًا، ولا كلَّف آخرين بإعالته! لكن تركه يعمل ليعول نفسه بل وأخرين معه!!
ثم في 1كورنثوس9: 6، 12، 19 يقول الرسول: «أَمْ أَنَا وَبَرْنَابَا وَحْدَنَا لَيْسَ لَنَا سُلْطَانٌ أَنْ لاَ نَشْتَغِلَ؟... لكِنَّنَا لَمْ نَسْتَعْمِلْ هذَا السُّلْطَانَ، بَلْ نَتَحَمَّلُ كُلَّ شَيْءٍ لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقًا لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ... فَإِنِّي إِذْ كُنْتُ حُرًّا مِنَ الْجَمِيعِ، اسْتَعْبَدْتُ نَفْسِي لِلْجَمِيعِ لأَرْبَحَ الأَكْثَرِينَ».
من هذه العبارات الماخوذة من 1كورنثوس9 (وليت القارئ العزيز يرجع لقراءة هذا الفصل مع الذي يسبقه والذي يليه لكي يفهم الكلام في ضوء قرينته) نستنتج درسين آخرين عن بركات العمل عندما يرتبط بالخدمة وهما:
- أن العمل مع الخدمة يحرِّر الإنجيل من عائق قد يقف في طريقه «لِئَلاَّ نَجْعَلَ عَائِقًا لإِنْجِيلِ الْمَسِيحِ».
- أن العمل مع الخدمة يحرِّر الخادم من التزام معيَّن تجاه من يدفع، حتى استطاع أن يقول: : «كنت حرًّا من الجميع».
وأيضًا يقول الرسول للإخوة في تسالونيكي: «فَإِنَّكُمْ تَذْكُرُونَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ تَعَبَنَا وَكَدَّنَا، إِذْ كُنَّا نَكْرِزُ لَكُمْ بِإِنْجِيلِ اللهِ، وَنَحْنُ عَامِلُونَ لَيْلاً وَنَهَارًا كَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ» (1تس2: 9). و«إِذْ أَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ يُتَمَثَّلَ بِنَا، لأَنَّنَا لَمْ نَسْلُكْ بِلاَ تَرْتِيبٍ بَيْنَكُمْ، وَلاَ أَكَلْنَا خُبْزًا مَجَّانًا مِنْ أَحَدٍ، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلاً وَنَهَارًا، لِكَيْ لاَ نُثَقِّلَ عَلَى أَحَدٍ مِنْكُمْ. لَيْسَ أَنْ لاَ سُلْطَانَ لَنَا، بَلْ لِكَيْ نُعْطِيَكُمْ أَنْفُسَنَا قُدْوَةً حَتَّى تَتَمَثَّلُوا بِنَا» (2تس3: 7-9).
من هذين الجزئين نتعلم ثلاثة دروس هامة:
- مرّتان يشير الرسول إلى حجم العمل الكبير الذي كان يقوم به فيقول: «عاملون ليلاً ونهارًا»، ويقول أيضًا: «نشتغل بتعبٍ وكدٍّ ليلاً ونهارًا»! ومن هذا نستنتج أن العمل الكثير المضني لم يتعارض مع الخدمة الكثيرة والمضنية!! وأعتقد أن هناك الكثير من أولاد الله المجتهدين في مواقع مختلفة يعيشون هذه الخبرة، عمل كثير وخدمة كثيرة، وهم يشهدون أن العمل الكثير لم يعطلهم عن الخدمة طالما أن العمل كان بحسب مشيئة الله، بالإضافة لسعادتهم وهم يعملون إذ يشعرون أن عملهم في حدِّ ذاته خدمة للرب، وطوال وقت عملهم يشعرون أنهم إنما يتمِّمون مشيئة الله من جهتهم، ولذا فهم يعملونه من القلب.
الكثير من أولاد الله المجتهدين في مواقع مختلفة يشهدون أن العمل الكثير لم يعطلهم عن الخدمة طالما أن العمل كان بحسب مشيئة الله.. وطوال وقت عملهم يشعرون أنهم إنما يتمِّمون مشيئة الله من جهتهم، ولذا فهم يعملونه من القلب.
- مرتان يؤكِّد الرسول أن العمل مع الخدمة أعطاه ميزة عدم التثقيل على أحد.
- أن العمل أعطى بولس أن يكون قدوة كاملة في كل النواحي لإخوته؛ ليس فقط بسبب أنه يعمل فصار قدوة لهم في أن يعملوا، لكن أعتقد أيضًا أن العمل أعطاه ميزة التواجد في الواقع الحياتي الطبيعي الذي يعيش فيه إخوته، لكي يعرف ما يعيشون فيه. ولهذا استطاع أن يقول: «لِكَيْ نُعْطِيَكُمْ أَنْفُسَنَا قُدْوَةً حَتَّى تَتَمَثَّلُوا بِنَا».