عدد رقم 5 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
اسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ  

                             

«هكَذَا قَالَ الرَّبّ: قِفُوا عَلَى الطُّرُقِ وَانْظُرُوا، وَاسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. َلكِنَّهُمْ قَالُوا: لاَ نَسِيرُ فِيهِ!» (إرميا6: 16).

ذكر الرب هذا التحريض الهام على لسان إرميا ليحمي الشعب من أوبئة أدبية وروحية، تفشت بين الشعب آنذاك، بين الكبار والصغار، بين النبي والكاهن أيضًا! والمأساة تكمن في أن الشعب لم يجدوا القدوة الصالحة في رعاتهم القادة العميان، الذين أعمتهم المكاسب غير المشروعة وحب المظاهر والانغماس في الملذات وحب الذات.  وافتقد الشعب في جيلهم للدليل والمرشد الصحيح.  فانقلبت الموازين واختلطت المفاهيم والمبادئ، وتاه الحق بين المدعين والمخدوعين.

ويمكن أن نلخص تلك الأوبئة في أربعة أشياء:

1-     «لأَنَّهُمْ مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، كُلُّ وَاحِدٍ مُولَعٌ بِالرِّبْحِ» (إر6: 13) ... ومحبة المال هي أصل البلاء.

2-     «وَمِنَ النَّبِيِّ إِلَى الْكَاهِنِ كُلُّ وَاحِدٍ يَعْمَلُ بِالْكَذِبِ» (إر6: 13) ... والتعلل بالدين هو سر الرياء.

3-     «وَيَشْفُونَ كَسْرَ بِنْتِ شَعْبِي عَلَى عَثَمٍ قَائِلِينَ: سَلاَمٌ، سَلاَمٌ، وَلاَ سَلاَمَ» (إر6: 14) ... يشفون الداء على عثم، وبدون توبة حقيقية لا شفاء.

4-     «هَلْ خَزُوا لأَنَّهُمْ عَمِلُوا رِجْسًا؟ بَلْ لَمْ يَخْزُوا خِزْيًا وَلَمْ يَعْرِفُوا الْخَجَلَ.  لِذَلِكَ يَسْقُطُونَ بَيْنَ السَّاقِطِينَ.  فِي وَقْتِ مُعَاقَبَتِهِمْ يَعْثِرُونَ قَالَ الرَّبُّ» (إر6: 15) ... يعملون رجسًا ولا يخزون، والتمادي في الشر يُفقد الحياء.

الأمر المؤسف، الذي أذكره بانكسار قلب، أن هذه الأوبئة الروحية منتشرة اليوم في الأوساط المسيحية.  ففي دوائر كنسية وكيانات مسيحية، قد ضرب الفساد جذوره بشكل مأساوي.

(1) ألا نرى اليوم في مجالات خدمة مسيحية من يقومون بأنشطة غرضها تحقيق أرباح هائلة باسم الدين، ويسعون للربح القبيح، ويحسبون التقوى تجارة ليس أكثر!

(2) ما أكثر صور الرياء والادعاء التي تخفي الحقيقة وارتداء الأقنعة وإطلاق الشعارات الزائفة والاهتمام بالمظهر الروحي المتألق، لكي يكون مقبولاً في أوساط المؤمنين.

(3) آه من الذين يشفون ضربة الفساد على عثم.  أصحاب تيار التكلُّم بالناعمات، تلك الحركة التي يركب أمواجها عشرات الألوف من المخدوعين، الذين وقعوا في براثن أولئك الذين يرددون وعودًا زائفة بالبركة والسلام، دون إدانة الخطية والتوبة عنها، والتلهف وراء بركات الرب دون اعتبار لقداسة ومجد الرب.

(4)  ما أكثر الذين يتهاونون بالمقدسات دون استحياء، وصار محضر الرب المقدس مسرحًا أستحي أن أذكر ما يحدث فيه! هل طريقة الترنيم أم طريقة الجلوس أم طريقة الوعظ؟ لدرجة أن الذي لا يعلم أنها كنيسة يحتاج أن ينتظر طويلاً حتى يُميز الفرق بين أداء العابدين وأداء مرتادي حفلات الرقص والغناء في العالم! لقد صارت كلمة خشوع وتقوى ووقار وحشمة كلمات عتيقة عفا عليها الزمن.

كم نحتاج أن هذه نسمع الصرخة المدوية كصيحة للنهوض:

«قِفُوا عَلَى الطُّرُقِ وَانْظُرُوا، وَاسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ: أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ».

 أولاً : «قِفُوا عَلَى الطُّرُق»:

 إنْ ضرَبتنا قلوبنا ولامتنا ضمائرنا، دعونا نقف على مفارق الطرق، وقفة صادقة ولا نستمر ونضيّع العمر والطاقات في صراع وجدال يجعلنا نتأرجح بين توجهات البشر المتباينة.  دعونا نقف، ونضعهم جانبًا، مهما لمعت أسماؤهم بكل خبراتهم واختباراتهم.  نحن مدعوون أن نقف.  «قِفُوا» معناها: الأمر يستدعي مراجعة وامتحان وفحص دقيق، وليس معناها أن نقف مكتوفي الأيدي ولا نفعل شيئًا.  لكن «قِفُوا» معناها أيضًا أن هناك قرارًا يجب أن يؤخذ، وموقفًا حاسمًا يحدد الانطلاق في الوجهة الصحيحة.

ثانيًا : «انْظُرُوا، وَاسْأَلُوا»  

الأمر يستدعي الاجتهاد والبحث بإخلاص من أجل معرفة التعليم الصحيح، وفعل ما هو مرضي للرب، وليس من أجل إدانة الآخرين.  هذا ما فعله أهل بيرية الذين أكرمهم الروح القدس لأنهم رجعوا إلى السبل القديمة.  رجعوا إلى الكتب وفتشوها ليتحققوا هل هذه الأمور هكذا؟

وفي مزمور143: 10 يصرخ داود قائلاً: «عَلِّمْنِي أَنْ أَعْمَلَ رِضَاكَ، لأَنَّكَ أَنْتَ إِلهِي.  رُوحُكَ الصَّالِحُ يَهْدِينِي فِي أَرْض مُسْتَوِيَةٍ».  من هذه النماذج نتعلم لمن نرجع ونسأل.  أين نجد الجواب الصحيح؟ إلى الرب وإلى كلمة نعمته.

«انْظُرُوا»: البحث الدقيق باجتهاد واهتمام في كلمة الله.

«اسْأَلُوا»: الصلاة للرب وطلب معونة الروح القدس الذي يعلم الطريق التي نسلكها.

 ثالثًا :«وَاسْأَلُوا عَنِ السُّبُلِ الْقَدِيمَةِ:  أَيْنَ هُوَ الطَّرِيقُ الصَّالِحُ؟ وَسِيرُوا فِيهِ»: يقينًا من يسأل الرب في جهاد الصلاة، ويبحث في الكلمة باجتهاد واتضاع سيجد عند الرب جوابًا شافيًا.  وحين يُقنعنا الرب مُشيرًا للطريق الصالح، علينا أن نسلكه مسرعين، مهما كانت آراء الناس وتوجهاتهم، فلا نكون محمولين بكل ريح تعليم، بل ثابتين في الحق وسالكين فيه.

والخطر أن نظل واقفين دون أن ننظر ونسأل، أو نسمع ونعرف دون أن نخضع ونسلك.

 رابعًا: «فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ»: إن الذين يريدون أن يسلكوا بالحق، يكونون مُعذَّبين وهم يعرجون بين أشباه الحقيقة، لكن حالما أعانهم الرب بنعمته وأعلمهم الطريق الصحيح، تمتلئ قلوبهم بالراحة الحقيقية.  راحة في الضمائر وتعزية في القلوب، لا تخطئها النفوس الأمينة التي تريد أن تتصرف حسنًا.  نعم هؤلاء الأمناء لن يسعدوا إن نالوا إعجاب العالم كله وخسروا ابتسامة رضى سيدهم.  العبد الأمين يرضى بما يُرضي سيده، ويُسرّ بما يُسرّ به. 

  ما هي السبل القديمة؟

هذا هو قلب الموضوع ويحتاج منا انتباها شديدًا.  السبل القديمة يمكن أن نراها في الصور التالية:

1-           السبل القديمة يمكننا أن نراها في التعليم الصحيح المؤسس على «مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ» (أف2: 20).  فالروح القدس الذي أعلن لأواني الوحي مرة، وأعطاهم ذلك التعليم المقدس، يعلم أنه يصلح لكل شعب وكل جيل.  وفي ضوء ذلك السراج المنير يمكن أن يُمتحن كل فكر وكل أمر، حتى نُميز بين الثمين والمرذول، وبين الحق والضلال.  بين ما هو من الناس وما هو من الله، بين ما يمجد الرب وما يبتغيه أو يدعيه البشر.

2          - السبل القديمة تُذكّرنا بما قاله العريس للعروس المشتاقة أن تتبع حبيبها من كل قلبها وتريد أن تعرف أين هو؟ وأين يستريح؟ فقال لها: «إِنْ لَمْ تَعْرِفِي أَيَّتُهَا الْجَمِيلَةُ بَيْنَ النِّسَاءِ، فَاخْرُجِي عَلَى آثَارِ الْغَنَمِ، وَارْعَيْ جِدَاءَكِ عِنْدَ مَسَاكِنِ الرُّعَاةِ» (نش1: 8)، ويدعوها أن تتبعه من خلال خروجها على آثار الغنم (أولئك الذين يتبعون الراعي، ويُميزون صوته الذي تدربوا على سماعه، والوجود معه).  إنهم ظاهرون والراعي يثق فيهم، لا من أجل ذواتهم بل لأنه سبق وقادهم واجتذبهم وهو يرى جيدًا آثارهم.   نعم إنهم ليسوا على الطريق لكن آثارهم باقية.  وفي الأصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين نرى قائمة من أبطال الإيمان الذين ساروا وراء سيدهم، وطبعت أقدامهم آثارًا في رحلة الإيمان.  وصادق الرب على تقواهم وتوجهاتهم وصبرهم ومواقفهم التي اتخذوها، وتضحياتهم من أجله وامتدح الرب إيمانهم.  فإن كنا نجتاز في ذات المواقف، ونجد نفس التحديات أو الإغراءات التي هي إلى حد كبير متشابهة في جوهرها، حتى لو اختلفت صورتها من جيل لآخر، عندما نتأمل في المواقف البطولية التي لمع فيها إيمانهم وتقواهم وشجاعتهم، وولائهم التام للرب، فالرب يدعونا أيضًا أن ننظر إلى نهاية سيرة هؤلاء لكي نتمثل بإيمانهم.

ما أحوجنا في هذه الأيام إلى التمسك بصورة التعليم الصحيح في أيام ازدهرت فيها فلسفات البشر وانتشرت هرطقات مَن يدعون أنفسهم علماء في اللاهوت.  كم نحتاج للرجوع الدائم للرب بروح الصلاة والاتضاع ملتمسين إرشاده! مراعين مجده وعمل مرضاته، في كل صغيرة وكبيرة والبحث والاجتهاد في فحص الأمور، في ضوء كلمة الله؛ السراج المنير، وطاعة المكتوب أكثر من الناس.

                                                                              

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com