عدد رقم 5 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ولادة موسى (خر2)  

من آدم إلى المسيح لم يكن هناك مَن هو أعظم من موسى، فهو واحد من الشخصيات القليلة التي ذُكرت حياتها بالتفصيل منذ طفولته حتى وفاته.  ورغم نيران النقد التي وُجهت إليه على مر أجيال متتالية، فسوف يظل أعظم شخصية قيادية في العالم القديم: في شخصيته، في إيمانه، في موقعه الفريد كوسيط العهد القديم، في إنجازاته.  لقد كانت كل معاملات الله مع إسرائيل تتم عن طريقه.  لقد كان نبيًا ووسيطًا وكاهنًا وملكًا في آن واحد.  لقد جمع بين أعظم وأهم الصفات التي لو وُزعت، فهي تُوّزع على عدد كبير من الأشخاص.

وحياة موسى تحفل بكثير من المتناقضات المُميَّزة: لقد كان طفلاً لجارية، وابنًا لملكة.  وُلد في كوخ، ولكنه عاش وتربى في قصـر.  ورث الفقر، ولكنه تمتع بثروة غير محدودة.  على الرغم من أنه كان قائدًا للجيوش، إلا أنه كان مجرد راعيًا للغنم.  كان محاربًا عسكريًا قديرًا، ولكنه «كَانَ حَلِيمًا جِدًّا أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ الذِينَ عَلى وَجْهِ الأَرْضِ» (عد12: 3).  لقد تعلَّم في البلاط الملكي، ولكنه سكن في الصحراء.  لقد تهذَّب بكل حكمة المصريين، ولكنه كان يملك إيمان طفل.  لقد جُهِّز ليحكم أعظم دولة، ولكنه هام على وجهه في الصحراء.  لقد أغويَّ بكل متع الخطية، لكنه تحمَّل مشقة الفضيلة.  لقد كان بعد سنوات التدريب ثقيل الفم واللسان، لكنه تكلَّم مع الله وجهًا لوجه.  كانت لديه عصا الراعي فقط، لكنه أظهر قوَّة الله غير المحدودة.  كان هاربًا من فرعون، وفي نفس الوقت كان سفيرًا من السماء.  كان مُعطي الناموس، لكنه كان مُخبّرًا بالنعمة.  مات وحيدًا في أرض موآب، لكن الرب هو الذي واراه الثرى، مات قبل أن يدخل أرض كنعان، لكنه ظهر فيها بعد 1500 سنة مع الرب على جبل التجلي.

والأصحاح الثاني من سفر الخروج يُخبرنا في مُلخص شديد عن طفولة موسى.  لقد عقد ملك مصـر العزم على أن يضع حدًا للنمو السريع للعبرانيين:

أولاً: وضعهم تحت رحمة رؤساء التسخير لكي يذلوهم بأثقالهم «وَلَكِنْ بِحَسْبِمَا أَذَلُّوهُمْ هَكَذَا نَمُوا وَامْتَدُّوا» (ع12).

ثانيًا: أعطى فرعون أوامر لقابلتي العبرانيين أن يقتلا الأولاد ويستحيوا البنات «وَلَكِنَّ الْقَابِلَتَيْنِ خَافَتَا اللهَ وَلَمْ تَفْعَلاَ كَمَا كَلَّمَهُمَا مَلِكُ مِصْـرَ، بَلِ اسْتَحْيَتَا الأَوْلاَدَ» (ع17).  وللمرة الثانية يفشل فرعون.

ثالثًا: أمر فرعون جميع شعبه قائلاً: «كُلُّ ابْنٍ يُولَدُ تَطْرَحُونَهُ فِي النَّهْرِ، لَكِنَّ كُلَّ بِنْتٍ تَسْتَحْيُونَهَا» (ع22).  وفي هذا الوقت، وتحت هذه الظروف، وُلد موسى المُخلِّص المستقبلي لشعب الله!

ولادة موسى وإيمان أبويه:

يُرجع بعض الشـراح ما فعلته ”يُوكَابَدُ“ عند ولادة مُوسّى إلى عاطفة الأمومة الطبيعية وإلى جمال الطفل.  ولكن هذا لا يستند على الكتاب المقدس.  فالسبب هنا ليس العاطفة، ولا حتى براءة الطفولة.  ولكن الإيمان كان هو المُحرِك الرئيسي للأحداث.  فالرسالة إلى العبرانيين تُخبرنا «بِالإِيمَانِ مُوسَى، بَعْدَمَا وُلِدَ، أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ثَلاَثَةَ أَشْهُرٍ، لأَنَّهُمَا رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلاً، وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ» (عب11: 23).  ورسالة رومية تُخبرنا «إِذًا الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ (الإيمان بالسمع – ترجمة جيمس)، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ» (رو10: 17)، لذلك نحن نرى هنا أن أبوي موسى قد استقبلوا إعلانًا من الله عن ماذا يجب أن يفعلوا، ولهذا فقد صدقوا ما قاله الله.  وبناءً على إيمانهم فقد تصرفوا.

إذًا الروعة هنا لم تكن عاطفة يُوكَابَدَ، ولا جمال الصبي، ولكن في الإيمان الذي يُصدّق ما لا يُرى «بِالإِيمَانِ ... أَبَوَاهُ ... رَأَيَا الصَّبِيَّ جَمِيلاً (في نظر الله)».  والإيمان هو الذي جعلهم يعصون أمر الملك، سواء بإخفاء الطفل، أو وضعه في سفط البرديِّ.

والحقيقة أنه لكي تنال نعمة فهذا لا يعتمد على عواطفك الطبيعية أو حتى مشاعرك الملتهبة، بل يعتمد فقط على الإيمان.  حين تأتي الأوامر بأن نفعل شيئًا ما، فلا بد أن نُطيع الرب، ولو على حساب مشاعرنا أو ما نميل إليه.  هذا ما فعله إبراهيم حينما دُعيَّ أن يترك أهله وعشيرته وأرض ميلاده، ليذهب إلى أرض لا يعرفها.

والسؤال هنا: أين يمكن أن نرى إيمان أبوي موسى؟  الإجابة بسيطة، وهي في التغلب على خوفهم من فرعون، وثقتهم في الرب أنه القادر على حماية الطفل.  وألم يكن أكبر دليل على قوة إيمانهم في اختيارهم المكان حيث وُضعَ الطفل الصغير؟  بالتأكيد.  لقد أخذ أبويّ موسى الطفل إلى أبعد بقعة يمكن للفكر الإنساني تخيّلها!  لقد وضعته الأم بين الحلفاء على حافة النهر، وهذا المكان كان بالفعل حيث يُلقى الأطفال العبرانيين.  وألم يكن هناك مكان أفضل لكي يُوضع فيه الطفل؟!  لقد آمنا أن هناك قوة تستطيع أن تحفظه من مياه نهر الموت.

ومن الملاحظ أن (عبرانيين11: 23) يتكلَّم عن إيمان كلاً مِن الأبوين «بِالإِيمَانِ مُوسَى ... أَخْفَاهُ أَبَوَاهُ ... وَلَمْ يَخْشَيَا أَمْرَ الْمَلِكِ».  وبينما تُذكر الأم وحدها في خروج 2 فإن الأب يحظى بتنويه خاص من استفانوس في (أعمال7: 20).

موسى والسَّفَطَ:

على الرغم من أن الإيمان ينتصـر على الخوف، إلا أنه لا بد أولاً من استخدام الوسائل المتاحة للتغلب على الخطر.  لقد أخفت يُوكَابَدُ الطفل أولاً لمدة 3 أشهر، وأخيرًا بعد أن نفذت الحلول، استعانت بِسَفَط الْبَرْدِيِّ.  إنه ليس إيمانًا، بل غباءً، أن يُنازل الإنسان الخطر بدون داعٍ.  فالإيمان لا يُجرِّب الرب أبدًا.  والرب يسوع المسيح، على الرغم من أنه يعلم تمام العلم، أن أباه سوف يحفظه سالمًا سالمًا، إلا أنه اجتاز مارًا وسط الذين أرادوا قتله (لو4: 30؛ يو8: 59)، فلم يكن الأمر نقص إيمان بتجنب الخطر بكل الوسائل المُتاحة، فالمسيح لم يكن يستخدم قوته المعجزية حينما كان في الإمكان استخدام الوسائل العادية (مر5: 43).

وفي الآيات الافتتاحية للأصحاح الثاني من سفر الخروج نرى صورة مُحببة لنا تُصوّر خلاصنا؛ فالطفل موسى وُضع على حافة النهر، مكان الموت، في آخر بقعة كنا نتوقعها، ولا يوجد أمل في نجاة.  وبالنسبة لنا، «أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ» (رو6: 23)، ومن هنا لا يمكن الهروب، فلقد كسرنا ناموس الله القدوس، والعدالة الإلهية تطلب توقيع العقوبة.  لقد أُغلق باب الأمل أمامنا، واستعلنت نهايتنا.  آه، عند هذه النقطة اُستعلن لطف الله، فلقد حدث ما لا يُمكن أن نتصوّره أو نتخيّله؛ لقد أتت الحياة إلينا من خلال الموت.  فعلى الرغم من أن موسى قد أُحضِرَ إلى مكان الموت، ولكنه كان آمنًا في السَّفَطَ (الفلك - the ark).  وهذا ما يتحدث لقلوبنا عن شخص المسيح وعمله.  ونلاحظ أن الكلمة العبرية التي اُستُخدِمت لوصف فلك نوح (الرمز الواضح للرب يسوع)، هي نفس الكلمة المُستخدمة هنا لوصف السَّفَطَ.  فالمسيح ذهب إلى الموت لأجلنا.  إن بر الله قد أمر أن تُسدَّد أجرة خطايانا، ولهذا ذهب الابن القدوس إلى الصليب ليوفي العدل الإلهي حقه «فَإِنَّ الْمَسِيحَ أَيْضًا تَأَلَّمَ مَرَّةً وَاحِدَةً مِنْ أَجْلِ الْخَطَايَا، الْبَارُّ مِنْ أَجْلِ الأَثَمَةِ، لِكَيْ يُقَرِّبَنَا إِلَى اللهِ، مُمَاتًا فِي الْجَسَدِ وَلَكِنْ مُحْيىً فِي الرُّوحِ» (1بط3: 18).

وهكذا في المسيح نرى البديل.  لقد كنا في مكان الموت، كما كان موسى.  وكما أن الإيمان هو الذي أحضر موسى إلى مكان الموت، فإن الإيمان أيضًا هو الذي عرَّفنا بالمسيح.  ومرة أخرى، كما أُخذ موسى مِن مكان الموت، فإنه بقيامة المسيح قمنا نحن أيضًا.  وفيما بعد، عندما يدخل موسى إلى قصر فرعون، سوف نرى كيف أن لنا منزلاً عاليًا أُعد لنا في بيت الآب في العلا. 

موسى وابنة فرعون:

لم يكن من قبيل الصدفة أن ابنة فرعون ذهبت إلى النهر في هذا اليوم، لأنه لا توجد صدفة أو حوادث عرضية تحدث في العالم بدون إشراف أعلى من رئيس الحياة «الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ» (عب2: 10).  فالله دائمًا خلف المشهد، يأمر كل صغيرة وكبيرة، مِن أجل إظهار مجده «عَرَفْتُ يَا رَبُّ أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ طَرِيقُهُ. لَيْسَ لإِنْسَانٍ يَمْشـي أَنْ يَهْدِيَ خَطَوَاتِهِ» (إر10: 23)، ولذلك فإن «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ» (رو8: 28).  وبما أن الأبواب الكبيرة تدور على مفاصل صغيرة، فالله لا يتحكم فقط في صعود أو سقوط الإمبراطوريات، ولكنه أيضًا يتحكم في سقوط عصفور صغير.

إنه الله الذي وضع في قلب هذه الأميرة المصرية لكي تذهب إلى النهر، وبالذات إلى تلك البقعة، حيث يرقد «السَّفَطُ بَيْنَ الْحَلْفَاءِ».  وعندما رأت الطفل يبكي، الله هو الذي جعلها تتصرف بهذه الشفقة، بدلاً مما كان مفروضًا بناءً على أوامر والدها.  والله هو الذي جعل ابنة فرعون المتغطرس، تخضع لاقتراح مريم، بدعوة امرأة من العبرانيات لتُرضِع لها الولد، بل أيضًا جعل لديها ميل نحو والدة الطفل، لكي تُرضِعْهُ (خر2: 5-8).  هنا يمكن للعقل أن يسكن في هدوء وسلام «لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ.  لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ» (رو11: 36). 

                                                                             

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com