تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية التي
يتشارك فيها أبطال داود، وعن مقاييس البطولة الروحية الصحيحة، ونواصل في هذا العدد
حديثنا عن:
عاشرًا: الأبطال الروحيون والمحبة
القصوى للمسيح التي لا تتعوَّق بسبب الروابط العائلية الطبيعية (1أخ12: 2، 16،
29):
كان شاول «إِذَا رَأَى رَجُلاً جَبَّارًا أَوْ ذَا
بَأْسٍ ضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ» (1صم14: 52).
على العكس من ذلك، فإن الذين أتوا إلى داود، أتوا من تلقاء أنفسهم، وبدافع
الحب له. وهكذا اليوم، فإن المسيح لا
يُجبِر أحدًا على اتباعه، ولكن أبطاله الحقيقيين يُفضلون الموت على تركه!
وفي 1أخبار 12 نقرأ أن أول مجموعة جاءت «إِلَى دَاوُدَ إِلَى صِقْلَغَ وَهُوَ بَعْدُ مَحْجُوزٌ
عَنْ وَجْهِ شَاوُلَ» كانت «مِنْ إِخْوَةِ شَاوُلَ مِنْ بِنْيَامِينَ» (ع1، 2). وفي
ع16 إشارة إلى آخرين من سبط بنيامين أيضًا تركوا الملك شاول في مرحلة مبكرة،
وجاءوا مع قوم من سبط يهوذا، وانفصلوا إلى داود عندما كان في الحصن. والمرجح أن يكون ذلك إشارة إلى مغارة عدلام. وفي مرحلة لاحقة، عندما مَلَكَ في حبرون، جاء
إليه أيضًا ثلاثة آلاف «مِنْ بَنِي بِنْيَامِينَ إِخْوَةُ شَاوُلَ» (ع29).
وفي كل الحالات، سواء في صِقْلّغ أو الحصن، وفيما بعد في حبرون، فإن
بنيامين لم يُضيّع فرصة واحدة للاعتراف بالملك الحقيقي (ع2، 16، 29). وكان هذا هو عمل الإيمان الذي كان يُميّز
بنيامين، وخاصة إخوة شاول (ع2، 29). مع
أنه كانت هناك من الأسباب التي تتفق مع الطبيعة البشرية لتجعلهم مُتردّدين، وأن
يتأخروا في اتخاذ القرار بعد بقية الأسباط، ولكن إيمانهم تغلَّب على المصاعب، إذ
تحلّوا بالفضيلة والشجاعة الأدبية (2بط1: 5)، ولم يتخلّوا عنها طالما دُعوا للعمل
من أجل مسيح الرب. لقد امتلكوا حماسة
الإيمان في أول الساعات التي سبقت فجر المُلك، بالرغم من أن كل شيء بدا أنه قد ضاع
إلى الأبد من أمام داود مسيح الرب، عندما كان مطرودًا ومرفوضًا من شاول (قارن من
فضلك اعتراف أبيجايل بداود في 1صموئيل 25: 24-31، واعتراف اللص التائب على الصليب
بالمسيح في لوقا 23: 39-43).
إن الإيمان وحده هو الذي قاد البنياميين الأوائل (ع2)، والمثال الذي أعطوه
اتبعته بقية من هذا السبط. وليس مقسومًا
لكل واحد أن يُظهر ذات قوة الإيمان بالروح، ولهذا السبب يقول الرسول بولس: «لاَحِظُوا الَّذِينَ يَسِيرُونَ هَكَذَا كَمَا نَحْنُ
عِنْدَكُمْ قُدْوَةٌ» (في3: 17)، وأمكنه أن يقول للعبرانيين: «اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ ... تَمَثَّلُوا
بِإِيمَانِهِمْ» (عب13: 7).
وفي ع29 نقرأ عن «إِخْوَةُ شَاوُلَ» الذين تحرروا من خدمة شاول. لقد تركوا المراكز العالمية الشرفية، واعتبروها
عديمة القيمة، لكي يشغلوا مكان الكرامة الحقيقية مع داود مسيح الرب «وَمِنْ بَنِي بِنْيَامِينَ إِخْوَةُ شَاوُلَ ثَلاَثَةُ
آلاَفٍ، وَإِلَى هُنَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ يَحْرُسُونَ حِرَاسَةَ بَيْتِ شَاوُلَ». ويرد هذا
العدد في ترجمة داربي هكذا: ”وَمِنْ سِبْطِ بَنْيَامِينَ أَقْرِبَاءِ شَاوُلَ: ثَلاَثَةُ
آلافٍ، أَمَّا أَكْثَرِيَّةُ سِبْطِ بَنْيَامِينَ فَظَلُّوا مُوَالِينَ لِشَاوُلَ حَتَّى
ذَلِكَ الْحِينِ“. وفي كل العصور يقال إن الدم أكثر كثافة من
الماء، للتعبير عن شدة تأثير علاقة الدم العائلية. فحتى بعد موت شاول ظلت الأكثرية من سبط بنيامين
تُساند ابنه ”إِيشْبُوشَث“ في حربه ضد بيت داود
(2صم3). ولكن اعتلاء داود للعرش في حبرون
كان حدثًا كبيرًا، أَوْجَدَ تحولاً لكثير مِنْ رجال بنيامين. ولما انمحت آمال هذا السبط، ألقوا قرعتهم في
النهاية مع داود. والاعتراف بالخطأ يحتاج
طبعًا إلى شجاعة أدبية. ولذلك أصبح هؤلاء
الرجال مستعدين لأن يُقروا بذلك. ورغم أن
أعدادهم تبدو قليلة بالمقارنة مع الآخرين، إلا أننا نضع في أذهاننا أنهم كانوا
سبطًا صغيرًا قليل العدد، ومرة قارب أن يتلاشى بعد خطيتهم المذكورة في قضاة 20،
21.
لم يُظهِر البنيامينيون إعجابهم بداود من بعيد، ولم يُخلصوا له في الخفاء
فقط، بل أعلنوا ولاءهم له جهرًا، وتبعوه بكل قلوبهم ليكونوا مساعدين له. ولم تعِق الروابط العائلية الطبيعية مع شاول
اعتقادهم الثابت بوجوب تحالفهم وارتباطهم وانفصالهم إلى داود واجتماعهم حوله، في
وقت رفضه من الأكثرية. وكما ذكرنا من قبل
أنه كثيرًا ما عرقلت الروابط العائلية التكريس للمسيح، ومن ثم فإن المطلب الصارم
للتلمذة هو أن مَن سيتبعون الرب، عليهم أن ”يُبْغِضُوا“ أعضاء عائلاتهم على اختلاف
تعددهم، فقد قال الرب يسوع: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ
أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَامْرَأَتَهُ وَأَوْلاَدَهُ وَإِخْوَتَهُ وَأَخَوَاتِهِ،
حَتَّى نَفْسَهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا» (لو14: 26).
وهذا لا يعني طبعًا أن نُبْغِض أقاربنا أو نحقد عليهم، بل يعني أن محبتنا
للمسيح يجب أن تكون قوية جدًا، بحيث تبدو كل محبة أخرى وكأنها بغضة، إذا ما قورنت
بها.
فالمقصود من بُغْضة الأب والأم والزوجة والأولاد والإخوة والأخوات، هو رفض
مطالبهم متى تعارضت مع مطاليب الرب، لأن الرب يجب أن يكون له المكان الأول في
القلب، ومطاليبه هي التي يجب أن تُهيمن على القلب، وتحكم الحياة، وفي سبيلها يجب
أن يُضحي تلميذ الرب بكل شيء، حتى بحياته.
ونجد تفسير ذلك في قول الرب: «مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمّاً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ
يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ
يَسْتَحِقُّنِي» (مت10: 37).
لقد كادت العواطف الأسرية أن تكون عائقًا لأليشع لاتباع إيليا (1مل19: 20)،
وهذا ما حدث فعلاً في موقف مماثل لشخص كان من المحتمل أن يتبع المسيح (لو9:
61). فعلينا ألا نسمح للروابط العائلية
الحبية الرقيقة لأقاربنا الأحباء أن تُعرقل التزامنا نحو الرب يسوع. فالقرابة لشاول لم تكن عائقًا لهؤلاء الرجال
الذين من بنيامين أن يتخذوا الاختيار الصائب بالاجتماع تحت راية داود.
ليت كل منا يسأل نفسه بإخلاص في نور حضرة الرب: هل للرب المكان الأول في
قلبي وفي حياتي؟ وهل أحيا له، وأُنفذ
رغباته أكثر من رغبات الذات أو الأهل وأقرب الأقربين إليَّ؟
(يتبع)