عدد رقم 5 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المفهوم الصحيح لتبعية المسيح (7)  


   في هذا المقال سوف نستعرض بمعونة الرب صورة أخرى من صور السطحية في تعامل البعض مع مسألة تبعية المسيح.  إن هذه الصورة تظهر بجلاء في كثير من المناقشات حول الضوابط التي يجب أن يضعها كل مؤمن لنفسه عند اختلاطه بالخطاة في هذا العالم، لا سيما إذا كان الهدف وراء هذا الاختلاط هو توصيل رسالة الإنجيل لهم، وهو الأمر المحبب لكل من تمتع بخلاص الله المجاني.  فإننا إذ نتأمل في حياة الرب يسوع هنا على الأرض وهو قد عاش تحت الناموس وكان حريصًا على ألا ينقضه، نجده قد تصرف في بعض المواقف بطريقة تبدو فيها نوع من المناقضة للناموس، لأننا إذ نطَّلِع على بعض تشريعات الناموس المتعلقة بحفظ اليهودي نفسه من مصادر النجاسة الطقسية، نجد أن المبدأ العام هو أن النجس ينجس المقدس بينما المقدس لا يقدس النجس، أي أن ما هو نجس إذا تلامس مع أي شيء ينجسه حتى لو كان هذا الشيء مقدسًّا، لكن الشيء المقدس لا يمكن له أن ينقل قداسته لأي شيء.  كما أن هذا المبدأ ينطبق ليس فقط على الأشياء بل أيضًا على الأشخاص.  فالإنسان اليهودي يُحسب نجسًا إذا تلامس مع أي شيء نجس لكنه لا يصير مقدسًّا إذا تلامس مع أي شيء مقدس، بل إن هذا اليهودي الذي تنجس لكونه تلامس مع شيء نجس يصبح مصدرًا للنجاسة.  فإذا تلامس معه إنسان آخر يصبح بالتبعية نجس (عد5: 1 - 4)، وقد كانت مصادر النجاسة الطقسية متعددة.

   إن الإشكالية تظهر عندما نقرأ عن ربنا يسوع المسيح أنه تلامس مع الأبرص (مر1: 42-40)، ومع المرأة نازفة الدم (مر5: 25 - 29)، ومع ابنة يايرس بعد موتها (مر5: 42،41).  وجميع هؤلاء كانوا يُحسبون حسب الناموس مصادر للنجاسة (لا13: 3 و 15: 25 و عد19: 11)، وللأسف الشديد قد ذهب البعض  للقول بأن المسيح لم يكن ليعبأ كثيرًا بحفظ الناموس بمعانيه الحرفية أو بجوانبه الطقسية، فقد كان جل اهتمامه أن يسلط الضوء على البعد الأدبي، لكن الحقيقة أننا هنا نرى جانبًا من المجد الأدبي للمسيح، وهو مجد ينفرد به وحده دون سواه.

   هذا المجد نستطيع أن نتبينه عندما نذهب للشريعة الوحيدة في العهد القديم التي تعالج من تنجس ليس لشيء فيه بل لأنه تلامس مع إحدى مصادر النجاسة، وهي جثة الميت.  بالطبع إن الشريعة التي أقصدها هنا هي شريعة البقرة الحمراء، تلك البقرة التي جعل منها الروح القدس رمزًا للمسيح، إذ يقول الكتاب: «لأنه إن كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة (البقرة الحمراء) مرشوش على المنجسين، يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي» (عب9: 14،13)، نعم لقد كانت ذبيحة المسيح الواحدة كافية لتزيح كل ما يمكن أن تنتجه الخطية في الإنسان، ولأن الخطية لها الكثير من النتائج نجد الروح القدس في العهد القديم أعطانا ذبائح كثيرة كانت جميعها ترمز لذبيحة المسيح، حيث كل واحدة منها تخبرنا عن الحل الذي أوجدته ذبيحة المسيح لواحدة من تلك النتائج، ولهذا كان لا بد للروح القدس أن يضع شروطًا واجب توافرها في الذبيحة لتتناسب مع المشكلة التي يسلط عليها الضوء في كل مرة، ولما كانت ذبيحة البقرة الحمراء تعالج النجاسة المنتقلة من مصدر آخر وليست النابعة من داخل الإنسان، كان الشرط اللائق هنا هو أن تكون تلك البقراء الحمراء لم يسبق أن علاها أي نير، أي لم توضع تحت نير من قبل (عد19: 2)، ولأن المعنى الروحي للنير هو المنظومة التي تضع كل من يوجد فيها تحت التزام أدبي بقواعدها، نجد أن المسيح لم يكن تحت نير، الأمر الذي لا يمكن تحقيقه في أي مؤمن في جميع العصور، فلا يمكن أن الله يطالبنا بأن لا نكون تحت نير مطلقًا، لأن هذا غير ممكن، لكن ما يطالبنا به الله هو أن لا نكون تحت نير مع غير المؤمنين.  ومن البديهي أن هذا التحريض يسري فقط على من هم بإمكانهم رفض أو قبول أن يكونوا تحت نير معين، لأن هناك حالات يجد المؤمن نفسه وقد صار تحت نير مع غير المؤمن دون أن يكون هذا باختياره.  فمن آمن بالمسيح وكان أبواه غير مؤمنين، فلا لوم على ضميره في هذا، وإذا قلنا أن كنيسة الله تمثل نير، فإن وُجدتُ في كنيسة قبلت واحدًا من الخطاة أن يكون في الشركة، فأنا إذًا تحت نير واحد مع هذا الشخص، ولا لوم هنا أيضًا على ضميري طالما أن ليس لي يد في وجود هذا الشخص في الشركة الكنسية.

   فإن اتفقنا أن الأسرة هي منظومة لها قواعدها، وأن الوجود ضمن الأسرة يفرض على كل من فيها الالتزام الأدبي بتلك القواعد، والتي يُعد خضوع الأولاد لوالديهم واحد منها، فإن ربنا يسوع لم يكن تحت نير المطوبة مريم ولا يوسف النجار يومًا ما.  وهنا أعلم أن قارئي العزيز قد يستوقفني ويقول لي: إن كلامك هذا يتعارض مع ما قاله الكتاب عن الرب يسوع أنه «كان خاضعًا لهما» (لو2: 51)، وهنا أرد بأنني لا أقصد أبدًا أن الرب يسوع لم يكن خاضعًا لهما، وحاشا له من اتهام كهذا، لكن ما يجب أن نستوضحه هنا هو أن خضوعه لهما لم يكن بسبب ضوابط سبق وأن وضعاها له، لكنه خضع لهما بما يتوافق مع الضوابط التي وضعها هو، تلك الضوابط التي أوجزها في عبارة قصيرة هي: «ألم تعلما أنه ينبغي أن أكون فيما لأبي» (لو2: 49)، إن الشاهد الذي أوردناه والذي يشهد عن خضوعه لهما جاء تاليًا لتلك العبارة، ذلك لأن روح الله وهو الشاهد الرسمي عن أمجاد ابن الله بمختلف أنواعها كان حريصًا وهو يسوق أواني الوحي أن يصون الحق المختص بهذه الأمجاد، وإننا هنا أمام أحد جوانب مجده الأدبي، ذلك الجانب المشار إليه في هذه الشريعة وهو أن البقرة الحمراء يُشترط أن لا يكون قد علاها نير قبل ذلك.

   بالطبع إن أنواع أمجاد المسيح هي الأمجاد الشخصية والأدبية والوظيفية، وهي وإن كانت متميزة بعضها عن بعض، إلا أن هناك خيطًا واحدًا يجمعها.  فالكمال الأدبي الذي ظهر في حياة المسيح هو نابع من مجده الشخصي باعتباره ابن الله القدوس قداسة مطلقة، وكونها مطلقة يعني أنها غير متوقفة على أي شيء آخر، ولا يمكن أن يوجد شيء يؤثر عليها، الأمر الذي لا يمكن أن يتمتع به إنسان، كائنًا من كان، حتى لو كان ممتلئًا من الروح القدس.

   وعلى هذا فإن ربنا يسوع المسيح عندما تقبل أن يتلامس مع الأبرص ونازفة الدم وابنة يايرس لم يكن هذا أبدًا على سبيل عدم الاكتراث بحفظ الناموس وطقوسه وفرائضه، أو حتى على سبيل تفضيله إظاهر محبة الله للخطاة عن حفظ الفرائض الجسدية للناموس، فهو لم يعطِ الأولوية للأولى عن الثانية، لكن هذا كان على سبيل الشهادة عن عصمته المطلقة واستحالة اقتراب الدنس منه لكونه ابن الله، فالوصية بعدم التلامس مع أي مصدر للدنس وُضعت لليهودي لتُعَرِّفه أن الانفصال عن الدنس هو المسلك الوحيد الذي يحفظه من التدنس به.  وإن كان هذا قد وُضع في إطار المفاهيم الطقسية للعهد القديم، إلا أنه كُتب لأجل تعليمنا نحن أيضًا أن الدنس الأدبي والفكري لا سبيل لحفظنا منه سوى بالانفصال عمن يمارسه.  أما ربنا يسوع المسيح فلا يحتاج لمثل هذا التحريض لأن الدنس لا يمكن أن يقترب إليه.

   من كل ما سبق نفهم أننا عندما نتكلم عن تبعيتنا للمسيح يجب أن نضع في اعتبارنا هذا الفارق الجوهري بيننا وبينه، فها هو يهوذا في رسالته حرضنا قائلاً: «وارحموا البعض مميزين، وخلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار، مبغضين حتى الثوب المدنس من الجسد» (يه23،22)، فالرسالة تكلمنا عن طابع المسيحية في أيامها الأخيرة، وهي الأيام التي نستطيع أن نجزم بكل يقين أننا نعيشها الآن، حيث أخبرنا الرسول أن في تلك الأيام سينتشر المعلمون الذين ينادون بأن لا دينونة ولا جهنم، وإن كنا نتجه نحو الخطاة لتقديم إنجيل الله لهم، فعلينا أن نبرز الكلام عن الدينونة وجهنم لفضح الكذب المنادى به في تعاليم هؤلاء المعلمين.  على أن روح الله سيمنحنا التمييز لحالة البعض منهم التي تحتاج أكثر لإبراز الكلام عن رحمة الله.  ونحن إذ نرغب بقوة في اختطافهم من النار علينا ألا نتلامس لا مع أجسادهم فحسب بل حتى مع أثوابهم، أي نُظهر بكل حزم بغضتنا لما يفعلوه وعدم استعدادنا للتفاوض حول ذلك ورفضنا اشتراكنا معهم في أعمالهم تحت أي مُسمى.  فالثياب تكلمنا لا عن الدنس نفسه بل عن المجال الذي من خلاله ينتقل إلينا هذا الدنس، فالخطاة حولنا أكثرية، ونحن غير مطالبين أن نعتزل الحياة بعيدًا عنهم، لكننا مطالبون أن لا نوجد في المجال أو دائرة التأثير التي يصير من خلالها انتقال الدنس منهم إلينا ممكنًا (حج2: 10 - 14).

   إن المبدأ ذاته ينبطق على ما يُسمى «دنس الروح»، حيث ينبغي علينا أن نطهر ذواتنا لا من دنس الجسد فقط بل أيضًا من دنس الروح لنكمل القداسة في خوف الله (2كو7: 1)، فنحن إذ نتكلم مع الخطاة عن المسيح، نجد أن بعضًا منهم تظهر رداءة الخطية فيهم لا في صورة الدنس الأدبي الأخلاقي، لكن أحيانًا في صورة الدنس الفكري الذي يدفع صاحبه للتحرر الفكري من سلطان كلمة الله، وعلينا إذًا ألا نتفاوض في هذا الأمر أيضًا، فليس لدينا ما نتكلم به معهم عن المسيح سوى من كلمة الله.  أما اتباع نفس منهجيتهم في التفكير والتي تُعلي من شأن الفلسفة والعقل على حساب سلطان الكتاب، وهكذا نظن أننا نجحنا في إيجاد أرضية مشتركة معهم، فالنتيجة الحتمية ستكون التنازل عن الحق المتضمن في كلمة الله لاسترضائهم حتى ينجذبوا للمسيح، فإننا في الحقيقة نخدع أنفسنا ونخدعهم أيضًا، لأننا حتمًا سنتأثر بهذه الطريقة الخاطئة في التعامل مع الكتاب، كما أنهم لن يأتوا إلى الله الحي الحقيقي بل إلى ذلك الإله الذي صورناه لهم بعيدًا عن كلمة الله.

   وإنني أصلي لكل الشباب حتى لا تدفعنا رغباتنا المقدسة في توصيل الإنجيل للنفوس البعيدة لعدم الانتباه لهذه التحريضات الثمينة.

                                                                             

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com