عدد رقم 5 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كنيسة لاودكية (1)  

(رؤ3: 14 – 22)

الدور السابع والأخير قبل مجيء الرب للاختطاف

   كل شيء عُهد به إلى الإنسان كمسؤول أخفق فيه تمامًا وفشل.  آدم في الجنة، نوح بعد الطوفان، إسرائيل تحت الناموس، الكهنوت، الأنبياء، الملوك .. الجميع فشلوا في مسؤوليتهم.  والكنيسة لا تُستثنى من هذا الحكم.  ففي لاودكية نرى الحالة الخربة في الدور الأخير للكنيسة كمنارة على الأرض، كما هي في نظر الرب الذي عيناه كلهيب نار، وهو يتمشى وسط المناير السبعة.  وجذور هذه الحالة نراها في أفسس التي تركت محبتها الأولى.  وبالرغم من تدخل الله للشفاء والإنهاض، فإن الانحدار استمر حتى وصل إلى منتهاه في لاودكية.  ولقد أعلن الرب قضاءه على هذه الحالة، ممثلة في ملاك الكنيسة، بعد صبره الطويل، بالقول: «أنا مزمع أن أتقأيك من فمي»، إذ سيرفضها نهائيًا كإناء للشهادة له على الأرض.

   وكما فهمنا في المرات السابقة فإن الأربع كنائس الأخيرة تظهر بالتتابع، وتستمر معًا إلى مجيء الرب.  وهي تشمل نظامين في المسيحية هما البابوية التي تمثلها ثياتيرا، والبروتستانتية التي تمثلها ساردس.  ثم حالتين أدبيتين، وليسا نظامين كنسيين، هما فيلادلفيا التي تمثل أسمى حالة روحية من حيث الاستنارة والطاعة والتكريس للمسيح، مما استدعى سروره ومديحه ومصادقته، حيث لم يوجه لها كلمة لوم واحدة، بل طلب منها أن تتمسك بما عندها حتى يأتي سريعًا لتتمتع بالإكليل، وهذا يدل على مصادقته الكاملة على ما وصل إليها من حق، وهي مستمرة في صورة بقية إلى مجيء الرب.  وعلى النقيض نرى لاودكية التي ظهرت بعد النهضة الفيلادلفية العظيمة.  لقد بدأت في أواخر القرن التاسع عشر، وتبلورت في القرن العشرين، واكتسحت وملأت الساحة في القرن الحادي والعشرين.  وهي تمثل أحط حالة روحية، وأقصى صور الفشل الذي وصلت إليه المسيحية في الدور الأخير قبل مجيء الرب للاختطاف.  كان الانحدار سريعًا، والتحول عن الحق خطيرًا.  إنها تحمل كل ملامح الأيام الأخيرة كما سجلها الروح القدس في رسالة تيموثاوس الثانية وتسالونيكي الثانية وبطرس الثانية ورسالة يهوذا حيث يسود الارتداد.  لهذا يوجه الرب خطابه لها بلهجة التوبيخ الحاد معبرًا عن استيائه الشديد وأنه مزمع أن يتقيأها من فمه، دون أن يوجه كلمة مدح واحدة لهذه الكنيسة.  لقد استبعدته ورفضته، فأخذ مكانه في الخارج واقفًا على الباب يقرع.  وهي لم تشعر بأية خسارة أو ندم، على العكس، فهي تشعر بمنتهى الرضى عن النفس.  ومع ذلك فهو يُقدم نعمته ودعوته الأخيرة للتوبة على مستوى الأفراد، قبل أن تغيب شمس النعمة نهائيًا ويحل الظلام.    

   يقدم الرب نفسه لهذه الكنيسة على النحو التالي: «واكتب إلى ملاك كنيسة اللاودكيين، هذا يقوله الآمين، الشاهد الأمين الصادق، بداءة خليقة الله» (رؤ3: 14).

   لا يذكر الروح القدس أنها كنيسة الله التي في لاودكية، بل «كنيسة اللاودكيين».  وكلمة ”لاودكية“ تعني ”حقوق الشعب“.  إنها تمثل الديمقراطية المسيحية وما يريده الناس بإجماع الآراء.  لقد صار الجميع يطلبون ما هو لأنفسهم، لا ما هو ليسوع المسيح.  كل واحد يبحث عن مكان له، وليس عن مكان للمسيح.  صار كل واحد يعمل ما يحسن في عينيه كأيام حُكم القضاة، دون اعتبار لما يقول الكتاب.  إنهم لا يحتملون التعليم الصحيح، بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم معلمين، مستحكة مسامعهم، فيصرفون مسامعهم عن الحق، وينحرفون إلى الخرافات (2تي4: 3، 4).  وهذا ما نراه حادثًا حولنا حيث يركز اللاهوت الليبرالي على حرية الإنسان وحقوقه، ويُقلِّص تمامًا حقوق الرب وسلطانه في كنيسته.  لقد رفضت لاودكية النور والحق الذي وصل إلى فيلادلفيا واحتقرته، وهو الذي يتمركز حول المسيح ويطلب مجده، وكأنهم ألقوا الحنطة في البحر (أع27).  وهدموا أسوار الانفصال واختلطوا بالأنظمة البشرية، رافضين رئاسة الرب للاجتماع وقيادة الروح القدس، وسعوا بكل وسيلة ليكونوا كسائر الشعوب، كما فعل إسرائيل قديمًا عندما رفضوا الرب وطلبوا ملكًا.  ومثل الأيام الأخيرة في إسرائيل، عندما كان المسيح في وسطهم وحاول أن يطهر الهيكل قائلاً: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» (يو2: 16)، ومرة أخرى قبل الصليب قال لهم: «بيتي بيت الصلاة يُدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مت21: 13).  لكنه أخيرًا قال لهم: «هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا» (مت23: 38).  كذلك هنا نقرأ عن كنيسة اللاودكيين التي استبعدت المسيح وأصبح هدفها الأول والأخير هو إرضاء الناس وتعظيم الإنسان.

   لقدأصبحت شهادة الكنيسة زائفة وليست حقيقية، لذلك فإن الرب يُنحيها، ويُقدم نفسه باعتباره هو «الآمين، الشاهد الأمين».  فالله لا بد أن يحافظ على مجده ويصونه، وهذا يتحقق في المسيح إذا فشلت الكنيسة في هذا الدور.

1-  المسيح هو «الآمين».  وفي 2كو1: 20 نقرأ القول «لأن مهما كانت مواعيد الله، فهو (ابن الله يسوع المسيح) فيه النعم والآمين لمجد الله بواسطتنا».  أي فيه التوكيد والتثبيت لكل ما تكلم به الله.  إنه المنجز والضامن والمحقق لكل مواعيد الله.  وكم سمعناه يقول: «الحق الحق أقول لكم».

2-  «الشاهد الأمين الصادق».  وقد كان كذلك فيما يتعلق بالله والإنسان.  كان ينبغي أن الكنيسة تقوم بهذا الدور باعتبارها منارة في هذا العالم، لكنها فشلت.  فكيف يمكن لجماعة تنسب لنفسها أنها غنية وقد استغنت ولا حاجة لها إلى شيء، أن تشهد عن المسيح الذي عاش في الأرض فقيرًا وليس له أين يسند رأسه؟ كيف تكون التعبير الصادق عنه وهي أبعد ما تكون عن فكره وروحه؟ لقد عاش هو كالغريب السماوي يشهد ضد العالم والعالم أبغضه، أما هي فقد نسيت دعوتها السماوية، وتصالحت مع العالم، ففقدت الشهادة المؤثرة الصادقة، وصارت مثل لوط في سدوم.

3-  «بداءة خليقة الله (الجديدة)».  كان آدم هو بداءة ورأس الخليقة الأولى، لكنه سقط وسقطت معه كل الخليقة.  وفي صليب المسيح وصل الإنسان إلى نهايته أمام الله، فقد قُضي عليه إلى الأبد ونُحي جانبًا، وحل محله بصورة كاملة الإنسان الثاني الرب من السماء، آدم الأخير بعد أن قام من الأموات وصار رأسًا للجنس الجديد وللخليقة الجديدة.  إن المسيح المقام والممجد هو بداءة خليقة الله الجديدة، أي المُنشئ والمُؤسس لها، وهو رأس الجسد الكنيسة.  كان ينبغي أن الكنيسة بالروح القدس الساكن فيها والذي يربطها برأسها المجيد، تُعبر عن هذه الخليقة الجديدة ذات الطابع السماوي.  ولكنها إذ انشغلت بنفسها وبما هو أرضي فما عادت تصلح أن تقوم بهذا الدور.  لذلك فإن كل التعزية تكمن في أن نتطلع إلى فوق لنرى المسيح نفسه هناك رأس الخليقة الجديدة.  هذا هو العلاج ضد كل ما هو مادي وأرضي يرتبط بالخليقة الأولى، وهذا ما تمركزت حوله لاودكية.

   بعد ذلك تأتي حالة لاودكية والحكم الإلهي عليها: «أنا عارف أعمالك أنك لست لاردًا ولا حارًا.  ليتك كنت باردًا أو حارًا.  هكذا لأنك فاتر ولست باردًا ولا حارًا.  أنا مزمع أن أتقيأك من فمي» (رؤ3: 15، 16).

   الرب هو الكاشف والفاحص لحقيقة الحالة ولا يمكن أن يُخدع بالمظاهر، فهو يعرف الأعماق ولا يخفى عليه شيء.  لقد تميزت حالتها باللامبالاة الناشئة عن فتور القلب وعدم تقديره للمسيح.  «لست باردًا ولا حارًا».  فلا هي تنكر المسيح علنًا، ولا هي تحبه بحرارة ونضارة العواطف الصادقة.  لقد أخذت موقف التلطف الزائد مع كل الأفكار والمعتقدات تحت شعار ”قبول الآخر“ طالما هناك محبة وإخلاص، ونادوا بما يُسمى ”لاهوت المحبة“ الذي يجمع كل الديانات دون تفرقة، واعتبروا أن الجميع مقبولون لدى الله، بغض النظر عن المسيح وصليبه، طالما يعيش بالمحبة والمودة ويصنع الخير للآخرين.  فلا توجد غيرة للمسيح ولا كراهية للخطية، لا عداء للمسيح ولا خضوع لكلمته، الاهتمام بالأعمال الخيرية والأنشطة الاجتماعية والرياضية أكثر كثيرًا من بنيان النفوس والرعاية الروحية.  اعتبار أن الكنيسة مؤسسة تساهم في خدمة البيئة وإصلاح المجتمع.  محبة العالم والأشياء التي في العالم، وفي نفس الوقت ممارسات روحية شكلية جذابة وبراقة تُعجب الآخرين دون أن تلمس ضمائرهم.  البحث عن الذات وإرضائها وليس عن مجد المسيح وإكرامه والتضحية لأجله.  صورة التقوى مع إنكار قوتها.  العروج بين الفرقتين ومحاولة التوفيق بين ما هو أرضي وما هو سماوي.  وصار الله وكلمته، المسيح وصليبه، السماء والجحيم، الزمان والأبدية، .. كلها مجرد أفكار وآراء.  ليس الجهل بالحق هو الذي يُنتج هذا الفتور، بل بقاء القلب غير مكترث أومبال بالحق بعد أن أُظهر وأُعلن.

   هكذا كانت حالة لاودكية كما ميزها المسيح بنوره الفاحص الذي لا يخطئ، وكانت مثيرة للاشمئزاز والغثيان، لهذا قرر أن يتقيأها من فمه، وإن كان لم يقل متى سيفعل ذلك؟ لكن الحكم قد صدر بلا رجعة.  ولا نقرأ في كل الكتاب أن الرب استعمل هذا التعبير في أي مكان آخر.  والمعنى أنه سيرفض تمامًا هذه الكنيسة كمنارة وشهادة له في هذا العالم، أعني المسيحية الاسمية، ولن يعود يتعامل معها بعد الاختطاف، وبالطبع هذا لا يتضمن أحدًا من المؤمنين الحقيقيين.  إن لاودكية تضم الأكثرية من ثياتيرا وساردس، وكل الذين انحرفوا عن فيلادلفيا ورفضوا الحق الذي نادوا به.  الجميع سيواجهون نفس القضاء والمصير المحتوم الذي سيقع على المسيحية الاسمية. 

   بعد ذلك يكشف الرب عن السبب في الحالة التي يدينها.  «لأنك تقول إني أنا غني وقد استغنيت ولا حاجة لي إلى شيء؛ ولست تعلم أنك أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان» (رؤ3: 17).

   إن الخطر الذي يتعرض له شعب الرب هو الاكتفاء الذاتي والافتخار بما عندهم والثقة بالنفس والشعور بالقوة والاستقلال والاستغناء عن المسيح.  ولاودكية قد نسيت مصدر غناها ونسبت الكل لنفسها.  إنها تعتبر كل شيء مصدره الإنسان، وتستخدم اسم المسيح فقط لتعظيم ذاتها.  كانت تفتخر ليس بالغنى المادي فقط بل بالمعرفة الكتابية والعلم الذي ينفخ، وبالأعداد الكبيرة والأبنية الفاخرة، وكثرة الأنشطة والمواهب الطبيعية والكارزما الشخصية، وكل ما يحقق مجد الإنسان.  إن لاودكية تمثل المذهب العقلاني والغنوسية الحديثة وادعاء المعرفة الفائقة وعلم اللاهوت الليبرالي، وكل ما يعظم الإنسان ويحد من سلطان الله، وهو الذي ينتشر بسرعة كالنار في الهشيم.  ومعلمي هذه المدرسة المنحرفة بذلوا كل الجهد لاستئصال ومحو الحقائق التي تميز المسيحية وفقًا لكلمة الله.  وصار هدفهم هو إصلاح الإنسان الأول والصورة التي تشوهت (آدم قبل السقوط)، لقد رفضوا الفساد الكلي للإنسان بعد دخول الخطية، ورفضوا وراثة الخطية الأصلية، ورفضوا العجز الكلي للإنسان أن يصل إلى إرضاء الله، وأن الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله، وحاولوا تحسين وتجميل الإنسان الطبيعي.  لقد رفضوا كلمة الله ولجأوا إلى الفلسفات البشرية كمرجعية لهم دون تمييز بين المولود من الله والمولود من الجسد.  مع أن صليب المسيح قد قضى نهائيًا على الإنسان في الجسد ونحاه للأبد، وتدبير الناموس أثبت ذلك بما لا يدع مجالاً للشك.  وهم لا يكلون من المجاهرة بأن إعمال العقل الإنساني ونوره كافيان تمامًا دون الإعلان الإلهي في المكتوب، لإرشادهم وهدايتهم، حتى أنهم يحكمون على كلمة الله بدلاً من أن تحكم هي عليهم.  ووضعوا أقوال الفلاسفة جنبًا إلى جنب مع أقوال الرسل وكتبة الوحي.  وفي الآونة الأخيرة انتشر الهجوم على الإيمان المُسلَّم مرة للقديسين من قادة في المسيحية تابعين أرواحًا مضلة وتعاليم شياطين، يهاجمون الوحي اللفظي لكلمة الله، ويهاجمون التعليم الرمزي، ويهاجمون ذبيحة المسيح وعمله الكفاري كالأساس الوحيد للقبول أمام الله، ينكرون الدينونة الأبدية وأن جهنم حرفية، ينكرون أن آدم شخصية تاريخية، ويعتبرون أحداث سفر التكوين من ص1 - ص11 هي مجرد أساطير!

   لكن ما هو تقييم المسيح الصحيح لهم؟ إنه يقول: «أنت الشقي والبئس وفقير وأعمى وعريان»، والمؤسف أنه لا يعلم أنه في هذه الحالة التعيسة.  إنهم كشمشون بعد حُلقت خصل شعر رأسه، وفارقته قوته، وهو أعمى العينين، «ولم يعلم أن الرب قد فارقه» (قض16).  وما أبعد الفارق بين نظرة المسيح وتقريره عن لاودكية، وبين نظرتها لنفسها.  إنها تتكلم عن نفسها وليس عن المسيح، وتتمركز حول ذاتها: «إني أنا».  وهي تجد متعة بالغة في غناها المزعوم وممتلكاتها «أنا غني وقد استغنيت»، وأيضًا: «لا حاجة لي إلى شيء»، وهذا واضح من عدم وجود اجتماعات صلاة حقيقية وسط زحام الأنشطة الكنسية الأسبوعية.  فالصلاة هي التعبير عن الشعور بالحاجة، لكنها فقدت هذا الشعور.  وبالحق ما يُميز هذا الجيل أنه جيل غير مصلي ولا يعرف أن يتعلق بالرب ويصارع معه في المقادس.  وإهمال اجتماعات الصلاة الكنسية هو أقوى دليل على أننا في حالة لاودكية.  أما الرب فيقول إنها لا تملك شيئًا على الإطلاق! وهذا هو التقرير الإلهي الصادق.  إنه شقي وبئس لأنه تنتظره دينونة، وفقير لأنه لم يمتلك المسيح، والذي عنده أُخذ منه، وأعمى لأنه لم ير المسيح ولا رأى نفسه على حقيقتها، وعريان لأنه لم يكتسِ ببر المسيح، ويا للخزي والعار!

وللحديث بقية إذا شاء الرب

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com