عدد رقم 2 لسنة 2015
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
جيل الثورة أم جيل النهضة 4  


   سنتكلم في هذا المقال عن أثر رابع من آثار الموجة الثانية للثورة على الأوساط المسيحية، وهو أثر خطير، ليت الرب يكشف أمامنا مخاطره المؤثرة.

رابعًا: القيمة الروحية للفن

   في الفترة التي كان فيها التيار المتطرف في سدة الحكم في مصر، بدأ قادة هذا التيار في عملية هجوم شرس على الأدباء والفنانين متهمين إياهم بعدم الاكتراث بأمور الدين، وإذ لم يكن لتلك الفئة شيئًا من القوة للرد عليهم فقرروا أن يردوا عليهم بالطريقة التي اعتادوا عليها وهي الأعمال الفنية.  فمن خلال تلك الأعمال كشفوا رياءهم واستخدامهم للدين في الوصول للسلطة، ثم عندما قامت الموجة الثانية للثورة كان للأعمال الفنية نصيب وافر في عملية توحيد صفوف الشعب ضد التيارات المتطرفة، بل ونشر الحب والسلام بين أبناء الوطن برغم اختلاف الدين.  وهكذا بدا لشبابنا أن تلك الأعمال، وإن لم تأخذ شكلاً مسيحيًا، إلا أنها في كثير من الأحيان لم تبتعد عن الروح المسيحية.

  في وقت سابق للثورة كنا نسمع بعضًا من الأصوات المسيحية تُضفي للأعمال الفنية الراقية قيمة روحية، وتدعو لمحاولة التشبه بهم بدعوى أن هذا سيؤدي لإصلاح مجتمع الشباب أخلاقيًا، بل وذهب البعض – تأثرًا بالسمو الأخلاقي فيما يدعون إليه في بعض أعمالهم وأقوالهم – بأنهم وُلدوا من الله رغم أنهم لم يؤمنوا بالمسيح، وربما هذه الأصوات لم تجد لها صدى في الأوساط المسيحية آنذاك، لكنها استطاعت أن تجد لنفسها مساحة أوسع الآن لاسيما بين الشباب، ذلك لأنها تزامنت مع تلك الآثار التي تكلمت عنها في المقال رقم 2، أعني رفض الدين والميل إلى الوسطية.

   ومن هنا بدأ يأخذ هذا الأمر نصيبًا وافرًا من الجدل الدائر بين الشباب المسيحي، فظهرت تساؤلات عدة في هذا الشأن مثل: لماذا تحكمون على الذين يعملون في الأوساط الفنية بأنهم غير مؤمنين مع أن أعمالهم الفنية أضافت العديد من القيم الأخلاقية الراقية لا تتوفر لدى كثير من رواد الكنائس؟، وعليه فلماذا ينظر الخدام والوعاظ للشاب الذي يسمع الأغاني أو يستمتع بمثل هذه الأعمال الفنية على أنه غير مؤمن؟ ألا ترون أنكم شابهتم كثيرًا أولئك المتطرفين في أفكارهم؟

   ولكي نصل لإجابة لهذه التساؤلات فإني أرى في قايين ونسله توضيحًا قاطعًا لمنهج العالم في استقلاله عن الله.  فبمجرد مقتل هابيل على يد قايين صار الفصل واضحًا بين منهج الله ومنهج العالم، فصار شيث ونسله يمثلون منهج الله بينما قايين ونسله منهج العالم، وإذا ذهبنا لقايين ونسله (أرجو قراءة تك4: 17-24) لن نجد أن كل ما ظهر منهم كان شرًّا وفسادًا أدبيًا فقط، بالطبع ظهرت هذه الأمور عندما كسر لامك قانون الله في الزواج وأنشأ فكرة تعدد الزوجات، بل وظهر الشر في شكله العنيف إذ تكلم عن القتل.  لكن فيما عدا ذلك نجد أن الذي ظهر من نسل قايين كانت أمورًا طبيعية لا نجد فيها أي شر، فبنى قايين مدينة، أي كان مهتمًا بالمدنية وتحسين أماكن المعيشة، ويوبال وتوبال قايين كانا أول من اهتم بالأعمال الفنية كالموسيقى.  إذًا الارتقاء العلمي والذوق الفني هما من العناصر الأساسية المكونة لأخلاقيات العالم التي يستطيع أن يقدمها لمن يجدون فيها متعتهم، وهي وُضعت جنبًا إلى جنب مع مبدأ إشباع الشهوة أولاً بغض النظر عن أي شيء، ومبدأ البقاء للأقوى الذي تم إرساؤه بواسطة الإرهاب والقتل، وهي مبادئ يقدمها العالم.  لكن هذا كله أُطلق عليه "طريق قايين": "ويل لهم لأنهم سلكوا طريق قايين" (يه11).  إن الشيطان دائمًا يتربص بنا منتظرًا أن يجدنا نيامًا ليستطيع أن يتسلل بأفكاره ومبادئه إلينا ليبعدنا عن الله وعن كلمته.  لقد وجد أنه من السهل استمالتنا نحو العالم إذا وجدنا فيما يقدمه مادة تخدم بعضًا من النواحي الأخلاقية الراقية.  إن العالم لا يعرف الروح القدس (يو14: 17) والإنسان الطبيعي لا يقبل ما يقدمه الروح القدس لأنه يعتبره جهالة (1كو2: 14)، وعلى هذا فالعالم لا يُقدم أخلاقياته من خلال كلمة الله، لكنه يقدمها من خلال أي شيء كالأعمال الفنية أو بعض العلوم الإنسانية.  إن المسيحي الحقيقي ليس عليه فقط أن ينفصل عن المبادئ العالمية التي يبدو فيها الشر واضحًا، لكن عليه أيضًا أن يرفض كل فكر يقدمه العالم متعلق بالحياة الروحية حتى لو لم يظهر فيه أي خطأ لمجرد أنه لم يأتِ من المصدر الوحيد الصحيح والنقي الذي يستطيع المسيحي أن يضع كل ثقته فيه، أعني الكتاب المقدس.  عندما تكلم المسيح عن الرجل العاقل حدد أنه يبني حياته على كلمة الله، فالمؤمن ينمو في علاقته بالله بالاتصال بكلمة الله سواء بشكل مباشر أو من خلال كتاب أو عظة لا تتخذ شيئًا آخر غير الكتاب مرجعًا.

   إن ثمة ثلاث نقاط هامة يجب أن نلقي الضوء عليها قبل أن ننهي مقالنا.  

أولاً: نحن لا نستطيع أن ننكر وجود الانجذاب الطبيعي للفن بداخلنا لأن هذا مرتبط بكوننا بشر، وأن هذا الانجذاب يتفاوت مقداره من شخص لآخر، لكننا هنا نتكلم عن خطورة التجاوب الدائم مع هذا الانجذاب، لأن الخطر الذي ينتظر من انغمس في الإشباع النفسي عن طريق الفن دون البنيان الروحي بكلمة الله – علمًا بأن الأمرين لا يمكن أن يحدثا معًا لأن هذا منهج العالم وذاك منهج الله –   هو مشاكلة هذا الدهر مما سيؤدي إلى حرمانه من اختبار إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة في حياته (رو12: 2).  فأن تصبح طريقة تفكير المسيحي، وطريقة حُكمه على الأمور، وطريقة خدمته لسيده متأثرة بمبادئ العالم حتى لو كانت أخلاقية وراقية لهو من الخطورة التي تفقده قوته الروحية، بل وسيفقده مصداقية انتمائه للدولة السماوية التي صار هو سفيرًا لها إذا كان مؤمنًا حقيقيًا.  إن سعيه كسفير عن المسيح ينتج عنه أنه يخبر أهل العالم بأنهم في موقف العداوة لله، ومن ثم يطلب عن المسيح قائلاً: "تصالحوا مع الله" (2كو5: 18-20).  إن حياتي وخدمتي والمبادئ التي أنادي بها وأتشبث بها إذا لم تقنع العالم، حتى في وجهه الأخلاقي الجميل، أنه في موقف العدو لله، فإني لا أكون أمينًا في سفارتي عن المسيح بل ويُشك في كوني مولودًا من الله. إن العالم بمختلف أطيافه الجميل منها والرديء لم يجد أفضل من الصليب ليقدمه لابن الله، ذلك الصليب الذي أصبح الفاصل بيننا وبين العالم (غل6: 14).

 ثانيًا: إنه ليس تعذيبًا لأولاد الله أن يكون فيهم انجذابًا نحو الفن ثم يطالبهم الله بعدم التجاوب مع هذا الانجذاب، فإن هناك شيئًا دخيلاً على طبيعتنا البشرية لم يخلقه الله فينا، أعني الخطية، تلك الطبيعة التي ستجد في الفن مصدرًا تعويضيًا للإشباع بديلاً عما فقدته النفس من إشباع بسبب ضياع العلاقة مع الله، ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن الإنسان لجأ لهذه الأمور بعد السقوط وليس قبله. ثالثًا: مما سبق يتضح أننا لا نشبه أولئك المتطرفين في أفكارهم، فنحن لا نرفض الفن، لكننا نرفضه كعنصر مؤثر في العلاقة مع الله أو في الحياة الروحية والخدمة المسيحية، لكننا نتعامل معه كما نتعامل مع باقي العلوم، فنستعملها خلال انتظارنا لمجيء الرب، عالمين أن الذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه (1كو7: 31)، أي أننا نستعمله إذا كان بغرض تسديد احتياجنا المعيشي، أما ما هو غير ذلك فإننا يمكننا أن لا نستعمله لأن لنا في العلاقة الروحية مع الله تسديدًا لاحتياجاتنا الروحية وبالتالي احتياجاتنا النفسية.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com