(2صم15-18)
نهاية
الثورة وركض أخيمعص بن صادوق
(2صم18:
19-33)
انتهت الثورة
عندما مات أبشالوم. وكان داود جالسًا في
باب مدينة محنايم مترقبًا الأخبار. ولدينا ملاحظتين عن هذا المشهد:
أولاً: أَخِيمَعَصُ بْنُ صَادُوقَ والْجِهَاد الْمَوْضُوع أَمَامَنَا:
هنا نتقابل للمرة
الثانية مع ”أَخِيمَعَص بْنُ صَادُوقَ“ الذي كان من بين الموالين لداود عندما تمرد
عليه أبشالوم. وكان معروفًا بأنه عداء
ماهر. ففي صموئيل الثاني 18: 27 يُذكر بأن
الرقيب عرف من بعيد جريه كجري ”أَخِيمَعَص بْنُ صَادُوقَ“. كم هو جميل لو أن المرء يعرفنا من بعيد كمن نحن
عداؤو يسوع المسيح المهرة!
نجد أولاً ”أَخِيمَعَص
بْنُ صَادُوقَ“ مرتبطًا مع ”يُونَاثَانُ بْنُ أَبِيَاثَارَ“ كرسولين في عمل
هام. كان عليهما أن ينقلا كل ما يسمعانه
من حوشاي الأركي من بيت أبشالوم إلى داود (2صم15: 36). وعليهما توقف أساسًا معرفة ما إذا كانت مشورة
أخيتوفل قد أُبطلت فعلاً أم لا. وقد أثبت
كلاهما جدارة في العمل؛ لقد جريا رغم كل الأخطار (1صم17: 15-22). وقد حفظهما الرب وأنقذ داود وكل أتباعه.
وها هو أَخِيمَعَصُ
يريد الآن أن يكون أول مَن يجري ليُبشر داود الملك بأخبار الانتصار. لقد خاطر بحياته قبلاً ليُحذره من خطر وشيك
الحدوث، والآن لا يُريد أن يدع أحدًا آخر يصبح له امتياز إعلان الملك بانتصاره. ورغم العقبات، ورغم معارضة يوآب، فأَخِيمَعَص لا
يريد أن يتعوّق في سعيه. وكيفما كانت
النتيجة فقد أراد أن يكون الأول، ويسجد أمام الملك، للاعتراف بكرامة الملك التي
عادت إليه ثانية. هذا هو مركز وسر قوته،
إذ يرتبط بداود بقلب كامل. وربما كان يفكر
أيضًا في أن يُخفف ويُليّن من عاصفة موت أبشالوم التي ستؤذي قلب سَيِّده المحبوب. ولكن الأمر المؤكد هو أنه كان أمامه فقط مجد
داود.
لقد قال أَخِيمَعَصُ
ليوآب: «دَعْنِي أَجْرِ فَأُبَشِّرَ الْمَلِكَ، لأَنَّ اللهَ
قَدِ انْتَقَمَ لَهُ مِنْ أَعْدَائِهِ» (2صم18: 19). ولاحظ كلمات أَخِيمَعَص وهو يُنسب الفضل كله
لله، دون أي كلمات مجاملة أو تملق ليوآب قائد الجيش. إن تعلق قلب أَخِيمَعَص بداود دفعه إلى حمل هذه
البشارة السارة إليه، إلا أن يوآب لم يوافق على ذهابه، وأمر كُوشِي أن يذهب، فركض
(ع21). لكن أَخِيمَعَص عاد فطلب من يوآب
أن يجري هو أيضًا، فأذن له، فركض الاثنان (ع22).
لكن ما أبعد الفرق! الواحد جرى
بناءً على أمر، الآخر من تلقاء الذات بقلب ملتهب.
أَخِيمَعَصُ تغلب على المصاعب والعوائق من أجل السرور الموضوع أمامه، ليقف
أمام داود كالشاهد لانتصاره. ولا عجب أن
يسبق أَخِيمَعَصُ كُوشِي في الركض ليظهر أولاً أمام الملك.
ليتنا نجري مثل أَخِيمَعَص! ليتنا نجري لنُصبح أول مَن يأتي عند قدميّ ربنا
المنتصر، ولا نسمح لأحد أن يسبقنا! قال أَخِيمَعَصُ:
«مَهْمَا كَانَ أَجْرِي ... فَجَرَى أَخِيمَعَصُ فِي
طَرِيقِ الْغَوْرِ وَسَبَقَ كُوشِيَ». ألا نقتدي بعبد داود هذا، حتى لا يسبقنا أحد في
الجهاد! والرب يعلم هل في محبتنا له
واشتياقنا إليه نركض في الميدان، أم أننا نركض لأنه الطريق المفروض علينا! «لِذَلِكَ نَحْنُ أَيْضًا ... لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ، وَالْخَطِيَّةَ
الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ
الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا، نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ
يَسُوعَ» (عب12: 1، 2)
إن صورة الركض أو
الجهاد (السباق) يتكرر استعمالها في الكتاب.
فالرسول بولس في 1كورنثوس 9: 24 يتكلم عن «أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَِيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ
وَلَكِنَّ وَاحِدًا (فقط) يَأْخُذُ
الْجَعَالَةَ؟». ولكن
في جهادنا الروحي يستطيع الكل أن يصلوا إلى الغرض، والمكافأة هي نصيب كل واحد، ولن
يخرج أحد صفر اليدين. لكن إن كان طريق
المؤمن هو الجهاد، فإن عليه أن يُكمل الجهاد بنجاح. ولذلك يُحرضنا الرسول بالقول: «هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا».
قبل كل شيء، يجب
أن يكون الذي يركض غير مُثقل بأي حمل على كتفه يعوقه عن الركض؛ على سبيل المثال:
الهموم بسبب الظروف والإعواز التي تحنينا، لذلك يقول الرسول بطرس: «مُلْقِينَ
كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ» (1بط5: 7). فضلاً عن ذلك يوجد الكثير الذي نثقل به أنفسنا،
فهناك أشياء تبدو غير ضارة وليس فيها شر، لكنها تُعوّق إظهار القوة الروحية،
وتمنعنا من الركض؛ الكفاح للوصول إلى وظيفة مرموقة، التلهف على الغنى والشهرة، الانغماس
في النشاط الرياضي والهوايات، ألا تُعوّق هذه كلها تكريس كل قوانا للرب؟ التوسع في المشروعات التجارية مع كون المؤمن في
رغد من العيش، أو قبول عمل إضافي ليس هو مجبر عليه، هي أثقال تُعوّق المؤمن عن
الجهاد. إن النظر إلى الرب يسوع المسيح «رَئِيسِ
الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ»، يُحررنا من مثل هذه الأثقال.
إنه لشيء رديء أن
يحاول المؤمن أن يجد كل الأعذار الممكنة ليُبرر حمل هذه الأثقال لأنه لا يريد أن
يطرحها. قد تكون هذه من متع الحياة
البريئة، ولكن بها يكون العدو قد وصل إلى غايته في أن يُضعف المؤمن روحيًا دون أن
يدري. «وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ» هي فخ خداع، بمجرد وقوع
الرجل فيه، تعثر وتسقط ولا تقوى على السير بعد أن تكون القوة سُلبت والفرح
سُلب. إن شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم
المعيشة هي أشراك الوقوع فيها سهل للغاية.
إذًا «اِسْهَرُوا وَصَلُّوا!» (مت26: 41).
لقد سبق يوحنا بطرس في الركض (يو20: 4) لأن بطرس كان قد ضعف وأنكر
الرب. ولكن ما أسعدنا بالرب شفيعنا الظاهر
الآن أمام وجه الله لأجلنا؛ إنه – تبارك اسمه – يُقيمنا عندما نسقط، ونحن موضوع
عنايته، وهو يغسل أرجلنا دون توقف! «إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ
أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ
إِثْمٍ» (1يو1: 9).
ينبغي علينا أن «نُحَاضِرْ
بِالصَّبْرِ» بمثابرة ودون توقف عن الركض.
لقد ابتدأ البعض بداية حسنة، لكنه لم يُكمل السعي. والرسول بولس يشكو متألمًا «دِيمَاسَ قَدْ
تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِر» (2تي4: 10). ويا لها من خسارة لمن كان مرة في الميدان! ويا ليتنا نقتدي بالرسول المغبوط الذي كان لسان
حاله دائمًا «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا
لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ.
وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ
وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ
جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في3: 13، 14).
ثانيًا: داود وحزنه الشديد على أبشالوم:
لم يفرح داود
بأخبار النصرة التي أُحرزت، فما هي قيمة العرش، بل ما قيمة الحياة عينها، بعد أن
مات ابنه أبشالوم! وبعد الانتصار لم يكن
ممكنًا أن يكون هناك لحن أو ترنيمة في قلب داود أو على لسانه؛ لقد مات ابنه، وكان
دم أوريا الحثي يصرخ من الأرض من جديد في أذني داود، لذلك لم يكن مناسبًا أن يفرح
ويُسرّ. لقد كان النصر بالنسبة له هزيمة،
والحياة كانت موتًا. إن طريقه لا يزال هو
الطريق الكامل للشخص التائب المنكسر القلب والمنسحق الروح. وهكذا نراه منزعجًا يصعد إلى عِلِّيَّتهِ قبلما
يصعد إلى بيت الرب أو يصعد إلى عرشه. كيف
يستطيع أن يدخل أبواب بيت الرب ويُسبح الرب؟
إن تلك الأبواب مفتوحة فقط للأمة البارة الحافظة الأمانة (إش26: 1،
2). لذلك كان داود صامتًا لأنه قد أخطأ ضد
الرب.
لقد اخترقت
الأخبار المحزنة قلب الأب المسكين، شاعرًا بأنه شريك أساسي في ما حدث لأبشالوم،
فخرجت منه تلك الصرخة المفزعة، والتي تُعتبر أشد الصرخات مدعاة للحزن والأسى في كل
الكتاب المقدس: «يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا
ابْنِي، يَا ابْنِي! أَبْشَالُومُ! يَا
لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضًا عَنْكَ! يَا
أَبْشَالُومُ ابْنِي، يَا ابْنِي» (2صم18: 33).
هل كانت الصرخة
بسبب الشعور بالندم لأنه قصر أبلغ التقصير في تربية أولاده؟ أم هو الشعور بالذنب القاسي ولذعة الضمير، إذ
لم تكن القصة - من أولها إلى آخرها – إلا امتدادًا للعبارة القائلة: «أَنْتَ هُوَ
الرَّجُلُ!» (2صم12: 7). وها هو يرى
القضاء الموَّقع عليه بفم ناثان النبي وقد اكتمل، وتأكد صدق الله. فإذا كان هناك من سبب لكل ما جرى، فإنه هو وليس
غيره هذا السبب! وهو يصرخ متمنيًا لو كان
هو – وليس ابنه أو أحد غيره من الناس – هو الضحية المُعاقبة.
«يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا ابْنِي، يَا ابْنِي! أَبْشَالُومُ! يَا لَيْتَنِي مُتُّ عِوَضًا عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ ابْنِي، يَا ابْنِي»؛ إنها صرخة كافية لتملأ قلوب الآباء المسيحيين بالأسى، كم أنها تُعبِّر عن
افتراق أبدي كامل. كم كان هذا مختلفًا عن
موت طفل بثشبع الصغير! فبدلاً من الحزن
هنا، أظهر داود تأكُّده من التقابل معه في القيامة «أَنَا ذَاهِبٌ إِلَيْهِ وَأَمَّا
هُوَ فَلاَ يَرْجِعُ إِلَيَّ» (2صم12: 23)، أما بالنسبة لأبشالوم، فينطبق عليه ما
قيل عن يهوذا الإسخريوطي: «كَانَ خَيْرًا لِذَلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!»
(مت26: 24).
وداود لم يستطع
أن يفعل ما قاله «يَا ابْنِي أَبْشَالُومُ، يَا
ابْنِي، يَا ابْنِي! أَبْشَالُومُ! يَا لَيْتَنِي
مُتُّ عِوَضًا عَنْكَ! يَا أَبْشَالُومُ
ابْنِي، يَا ابْنِي»؛ فهذا الأمر كان محفوظًا لشخص واحد فقط يُمكنه
أن يموت عن الفاجر، وهو الوحيد الذي حُسب بين الآثمين، وقد حمل خطية كثيرين «لأَنَّ الْمَسِيحَ، إِذْ كُنَّا بَعْدُ ضُعَفَاءَ، مَاتَ فِي الْوَقْتِ
الْمُعَيَّنِ لأَجْلِ الْفُجَّارِ.
فَإِنَّهُ بِالْجَهْدِ يَمُوتُ أَحَدٌ لأَجْلِ بَارٍّ. رُبَّمَا لأَجْلِ الصَّالِحِ يَجْسُرُ أَحَدٌ
أَيْضاً أَنْ يَمُوتَ. وَلَكِنَّ اللهَ
بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ
لأَجْلِنَا» (رو5: 6-8؛ إش53: 12).
(يتبع)