عدد رقم 2 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المفهوم الصحيح لتبعية المسيح (4)  

التبعية في مفهوم الخدمة

     إن كنا قد تكلمنا في المقالات السابقة عن المفهوم الصحيح لتبعية المسيح باعتبارها مسؤولية كل مؤمن بوجه عام، فإننا في هذا المقال سوف نتكلم عن المفهوم الصحيح لتبعية المسيح في منهجية خدمته للخطاة، وذلك لشيوع بعض المفاهيم الخاطئة لدى كثير من الشباب المخلص والمتحمس لتقديم المسيح للخطاة البائسين في هذا العالم.  لقد انغرس في قلبي مبدأ هام، وأصلي أن ينغرس فيك أيضًا قارئي العزيز، وهو أن الإخلاص وإن كان مطلوبًا لكنه وحده لا يكفي، فكثيرون ضلوا الطريق بل وأضلوا آخرين معهم، والسبب أنهم ارتكنوا على إخلاصهم وحده، ولم يراجعوا توجهاتهم في ضوء كلمة الله، مع أنها كانت مخلصة.  هذا لا يعني أن الله لا يكافئ الإخلاص، إلا أن مكافأته للإخلاص لا تعني بالضرورة عدم خسارة الوقت والجهد اللذين ضاعا في سبيل تحقيق أهداف لم تكن هي فكر الله بالتمام، بل ولا تعني إزالة التأثيرات السلبية على الآخرين.  لذا فالأمر جد خطير، وعلى كل مؤمن أن يتحسس خطواته بتريث ليرى مدى توافقها مع فكر الله المُعلن في كلمته.

المسيح خادم الختان أما بولس فرسول الأمم

   بينما يدرك كل أولاد الله بلا استثناء أن الله الآب أرسل ابنه الوحيد ليخلص به العالم (يو3: 17)، نجد الكثير منهم اكتفى بأن يقف عند هذا المستوى من معرفة مشورات الله وأفكاره الصالحة، ولم يتطلع لمزيد من العمق الروحي في فهم من هو الله.  والشيطان كعادته يصطاد من يجهل فكر الله ليوقعه في فخاخه المتنوعة.  لذلك أطلب برأفة الله من إخوتي الشباب أن يعطوا لأنفسهم الفرصة الكافية لدراسة قضايا عديدة في كلمة الله حتى يتمكنوا من تكوين موقف سليم تجاه كل ما يتعرضون له من مسائل فكرية وإيمانية، بل وما يمكن أن يُعرض عليهم من توجهات في خدمة السيد قبل أن يتبنوا أيًّا منها.  فمع يقيننا بأن المسيح أتى ليخلص العالم، إلا أن هذا يشكل فقط إحدى أهداف إرساليته، لكن هدفًا آخر كان وراء إرسالية المسيح نريد أن نتبينه معًا لنميز بينه وبين ما يتعلق بخلاص العالم.

   قد يظن القارئ العزيز أن اللقب الذي أعطاه الروح القدس للمسيح على لسان الرسول بولس والمشار إليه في عنوان الفقرة، أعني لقب "خادم الختان" حيث يقول الرسول: «وأقول إن يسوع المسيح قد صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يُثَبِّت مواعيد الآباء» (رو15: 8)، يمكننا فهمه في ضوء العبارة القائلة: «إلى خاصته جاء، وخاصته لم تقبله» (يو1: 11)، وهذه الآية الأخيرة تعني أن المسيح جاء إلى إسرائيل باعتبارهم خاصته، ولمَّا رفضته فتح باب القبول للأمم، حتى أن أي من يقبله يصير من أولاد الله.  لكن الرسول بولس عندما ذكر هذا اللقب، فإن قرينة النص تلزمنا بالذهاب لبُعد أعمق في علاقة المسيح بإسرائيل.  وهذا البُعد من شأنه أن يقدم لنا الجانب الآخر من الحق.  فهو يقول إنه صار خادم الختان من أجل صدق الله حتى يُثَبِّت مواعيد الآباء، تلك المواعيد التي قال عنها في الرسالة نفسها إنها بلا ندامة (رو11: 29،28).  إذًا كان المسيح هو واسطة بركة الله لإسرائيل بصفة خاصة، حتى يتمم الله من خلاله المواعيد التي سبق وأعطاها لآبائهم الأوَّلين، تلك المواعيد التي لا يمكن لله بأي حال من الأحوال أن يتراجع عنها لكونه الصادق الأمين.  وإنني أفترض أن القارئ العزيز مدرك أن هذه المواعيد ستتحقق بعد انتهاء فترة وجود الكنيسة على الأرض باختطافها إلى السماء، وتحديدًا في زمان الملك الألفي.

   لهذا السبب كان لا بد للمسيح، لا أن يبرهن فقط على لاهوته، لكن أيضًا على كونه المسيا، الذي سيخلص الشعب من لعنة الناموس ويدخلهم إلى البركة الأرضية.  ولعل القارئ العزيز يلحظ بمنتهى الوضوح أن معجزات المسيح لم تأخذ فقط طابع أنها أعمال خارقة للطبيعة تهدف للشهادة بجلاء عن لاهوته، لكنها أخذت أيضًا طابعًا إضافيًّا، فهي اتسمت بأنها الدليل على ترفقه بهم ومحبته لهم، فشاركهم الإحساس بمعاناتهم فيما قاسوه من شقاء وبؤس، بسبب الأمراض المختلفة التي أصابت الكثيرين.  إن تدخله المباشر في كل مرة كان يؤكد لهم أن هذا هو المخلص الذي سيمتعهم بأمجاد العالم العتيد الذي طالما قرأوا عنه في النبوات فانتظروه بشغف.  فالأتقياء منهم كانوا مدركين أن ليس الرومان هم العائق أمام تحقيق المواعيد، لكن العائق الحقيقي هو تعديهم الناموس، الأمر الذي جلب عليهم اللعنة.  تلك اللعنة الواقعة على كل من لا يثبت في وصايا الناموس ليعمل بها (تث27: 26).  وهي بالفعل صارت تهدد الشعب كله.  إن هذه اللعنة كانت مُرَكَّبة إذ اشتملت في طياتها على كثيرٍ من اللعنات مذكورة جميعها بالتفصيل في (تث28: 15-68)، وإذا دققت النظر قارئي العزيز في هذا الجزء الكتابي ستجد أن الإصابة بالأمراض المختلفة شكلت جزءًا أساسيًّا من هذه اللعنات، فأرجو منك قراءة الأعداد التالية من هذا الجزء الهام (تث28: 21، 22، 27، 28، 35، 58-61).

   من هذا المنطلق يمكننا أن نفهم القضية التي نحن بصددها الآن، إننا نحن كأمم عندما وصلتنا رسالة الإنجيل أخبرتنا أولاً أننا أموات بالذنوب والخطايا (أف2: 1)، ولذا فإن أعظم ما يبين محبة الله لنا هو أنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا، أي أخذ في جسده حكمنا (رو5: 8)، أي كون محبة الله اتجهت لنا ونحن في هذه الحالة، أصبحت هذه الحالة نفسها هي المجال المناسب لبيان سمو محبة الله.  أما اليهود فإن الأمر يختلف معهم تمامًا، إذ لم تكن رسالة الإنجيل هي التي أخبرتهم بأنهم خطاة، فهذه الحقيقة أدركوها وتأكدوا منها لأن لديهم مقياس إلهي يقيسون أنفسهم عليه دائمًا وهو الناموس، بل وتوجد شهادة لديهم على أنهم وقعوا تحت لعنة هذا العهد الذي دخلوا فيه مع الله وحدهم دون سائر شعوب الأرض، وتمثلت هذه الشهادة في إصابتهم بالأمراض.  ولذا فإن احتمال المسيح لحكم الموت نيابة عنهم دون شفاء أمراضهم الجسدية، أولاً: لا يبرهن أمام ذهن اليهودي حقيقة كون المسيح قادر على أن يخلص شعبه من خطاياهم، وثانيًا: لا يصلح وحده ليكون وسيلة الله لبيان محبته لهم، لذا كان لا بد قبل أن يحمل خطاياهم في جسده على الخشبة أن يتلامس مع أمراضهم الناتجة عن وقوعهم تحت لعنة الناموس، ويُظهر محبته لهم في بؤسهم ومعاناتهم، بل ويخبرهم – ليس في كل مرة لكن في غالبية المرات – أن تعدياتهم التي كانت سببًا في هذه الأمراض قد غُفرت (مر2: 5 - 12).  وإنني أتجاسر وأقول إنه لو كان هدف المسيح من الموت فقط خلاص الأمم، كانت أي طريقة للموت تشتمل على سفك الدم تصلح، لكنه اختار أن يُعلَّق على خشبة حتى يكون بالموت مرة واحدة يؤسس خلاصًا لليهود والأمم معًا، لأن اليهودي الذي كان عليه حق الموت لا بد من تعليقه على خشبة شهادة من الله على لعنته له شخصيًّا (تث21: 23،22).  ولما لم يكن على المسيح حق الموت صار تعليقه على خشبة مبررًّا قانونيًّا لافتداء من كانوا تحت لعنة الناموس (غلا3: 13)، وطالما أن ما يقوله الناموس فهو يكلم به الذين في الناموس أي اليهود فقط (رو3: 19)، فإننا نجزم بأن الموت بالصليب كان لأجل تبرير مباركة الله لهم في ملك المسيح العتيد.  على أن المسيح نفسه في كل المرات التي صنع فيها معجزات شفاء كان يضيف التعديات التي سببت تفشي الأمراض بينهم بوجه عام إلى الفاتورة التي سوف يسدد حسابها على الصليب ليتمم افتداؤهم من لعنة الناموس.  ولعل هذا ما قصده النبي حين قال: «لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها» (إش53: 4 والمقتبسة في مت8: 17،16).

  إن السؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة: أين نقرأ عن الرسول بولس أنه صنع معجزات شفاء كتعبير عن محبة الله لمن يصنع معه المعجزة؟ أو أنه قدّم مع الشفاء بركة غفران الخطايا؟ أو أنه تعامل مع موهبة الشفاء الممنوحة له على أنها جزء من رسالة الخلاص التي ينادي بها؟ لم يحدث أي من هذه على الإطلاق، بل إن ما قرأنا عنه مجرد حادثتين كان الغرض منهما إثبات رسوليته أو البرهنة على أن اسم يسوع حي وأنه ما زال يمتلك السلطان (أع14: 8 - 11 و أع19: 12،11).  إننا لم نقرأ قط عن خدمة بولس أنها كانت تهدف لمشاركة الناس في معاناتهم، إن القيم الإنسانية التي كانت وما زالت وراء كل مؤسسة خيرية هي قيم نبيلة ورفيعة حقًّا، ولا جدال حول ذلك، لكن الإنجيل شيء آخر تمامًا، والمسيحية شيء آخر تمامًا، إن المسيحية ليست دعوة تهدف إلى التخفيف عن معاناة الناس أو حتى إرساء القيم الإنسانية الحضارية لإزالة كل أشكال القهر الاجتماعي وترسيخ مبادئ الكرامة الإنسانية.  إن الإنجيل هو رسالة يقدمها الروح القدس للإنسان يصل به من خلالها للاعتراف بأنه فاسد تمامًا وميت روحيًّا وعدو لله بالفكر والأعمال الشريرة، ثم يدعوه للتوبة والإيمان بالمسيح كمخلص شخصي حتى يتصالح مع الله، ثم يعرفه بدينونة الله المرعبة حال رفضه للمسيح.

  هل هذا يعني أن بولس لم يكن يتبع المسيح في هذا الأمر؟ كلا، فكما كان المسيح حريصًا على إظهار من هو الله في كل موقف، هكذا كان بولس أيضًا، مع الوضع في الاعتبار أن المسيح هو ذاته الله الظاهر في الجسد، بينما من المؤكد أن بولس أخفق في ذلك أحيانًا.  لكن منشأ الاختلاف في منهجيهما في الخدمة راجع لاختلاف التدبير، وتحضرني هنا العبارة الشهيرة: ”ميِّز بين التدابير يستقيم لك التفسير“، والحقيقة أنه ليس فقط التفسير هو الذي سيستقيم، بل الحياة كلها ستستقيم، فإنني أصلي من كل قلبي للرب من أجل كل من يقرأ هذه المقالات أن يمتلئ من معرفة مشيئة الله لحياته في كل حكمة وفهم روحي (كو1: 9)، إننا هنا نتكلم عن مشيئة الله العامة لكل مؤمن، تلك المشيئة التي سيخفق كل مؤمن في معرفتها ما لم يكن واضعًا في اعتباره اختلاف التدبير وهو يقرأ كلمة الله.  وما نركز عليه هنا هو تعاملنا مع منهجية خدمة المسيح كإنسان حسبما ذكرَها الروح القدس في البشائر الأربعة، وبصفة خاصة في الأناجيل الثلاثة الإيزائية أي متى ومرقس ولوقا.

  هنا أذَكِّر القارئ العزيز بما قلناه في بداية مقالاتنا، وهو أننا مدعوون كمسيحيين أن نتمثل ببولس، وهكذا نعيش كتابعين للمسيح بالمفهوم الصحيح، فالأصل في تبعيتنا للمسيح هو أن نتمثل به في أشواقه أن يُظهر الله لمن تعامل معهم، لكن لأن التدبير الذي عاش تحته المسيح كان تدبير الناموس (غل4: 4)، وهو تدبير خاص بإسرائيل، والمواعيد التي كان المسيح خادمًا لتحقيقها ستتم في تدبير الملك.  وهو تدبير يحمل بركات خاصة بإسرائيل (أف1: 10)، بينما نحن الآن نعيش تحت التدبير الذي يتوسطهما وهو تدبير نعمة الله (أف3: 2)، فإن اختلاف التدبير ينشأ عنه بالضرورة اختلاف السياسة التي يتَّبِعها الله مع الناس.  لقد كانت حياة المسيح على الأرض جزءًا من مخطط زمني رسمه الله في مقاصده نحو إسرائيل كشعبه الأرضي.  وهذا لم يكن متعارضًا مع حقيقة أن موت وقيامة المسيح كانت حجر الأساس لكل مشروعات الله.  لكن لأنه في حياته التزم بضوابط هذا المخطط فكان لا بد له أن يُظهر من هو الله بالنسبة لإسرائيل.  بينما كانت إرسالية بولس تخدم مخططًا مختلفًا تمامًا، هذا المخطط خارج حسابات الزمن والنبوة، وهو الكنيسة السماوية التي كانت سرًّا لم يكشفه الله لأحد إلا للرسول بولس (أف3: 3 – 6)، وكان لا بد للمسيح نفسه بعد صعوده وإرسال الروح القدس أن يعلن لبولس الإنجيل المتفِق مع هذا المخطط، ذلك الإنجيل الذي لم يعرفه أحد من الاثني عشر رسولاً إذ لم يسمعوه ولا تعلموه من المسيح (غل1: 12،11).

  إذًا تمثُلنا ببولس ليس متعارضًا مع تمثلنا بالمسيح، لكن تمثلنا بالمسيح يستمد مفهومه الصحيح من تمثلنا ببولس.

  عند هذا النقطة أقف معك قارئي العزيز لنستكمل كلامنا في المقال القادم بمعونة الرب.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com