عدد رقم 2 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أبْطَال وأفْعَال ... ودروسٌ للأجْيَال  

(قراءة في أبْطَال داود)

(2صم23؛ 1أخ11، 12)

(7)

تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية التي يتشارك فيها أبطال داود، وعن مقاييس البطولة الروحية الصحيحة، ونواصل في هذا العدد حديثنا عن:

ثامنًا: الأبطال الروحيون يظهرون في وقت الأزمات والأيام الصعبة ... ولا يحسبون حسابُا للصعوبات التي تقوم وتتجمع ضدهم ... ولا يهابون الموت، بل إنهم يرغبون فيه إذا لزم الأمر: ففي 1أخبار12: 8-15 نقرأ:

«مِنَ الْجَادِيِّينَ انْفَصَلَ إِلَى دَاوُدَ إِلَى الْحِصْنِ فِي الْبَرِّيَّةِ جَبَابِرَةُ الْبَأْسِ رِجَالُ جَيْشٍ لِلْحَرْبِ ... هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَبَرُوا الأُرْدُنَّ فِي الشَّهْرِ الأَوَّلِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ».

هنا نقرأ وصفًا لأبطال داود من الجاديين؛ شخصياتهم وصفاتهم، سلوكهم وتصرفاتهم، تعهداتهم والتزامهم.  ولكي يزداد تقديرنا لموقفهم مع داود مسيح الرب، دعونا نتذكر أولاً انتسابهم وموقف آبائهم، ثم نتأمل في عبورهم الأردن «وَهُوَ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ»، من أجل الانفصال إلى داود، في البرية.

لقد كان الجاديون يسكنون على الجانب الشرقي من نهر الأردن.  فعندما وصل الشعب إلى حدود أرض كنعان، جاء بنو جاد وبنو رأوبين ومعهم نصف سبط منسى، بطلب مؤسف إلى موسى والرؤساء، قائلين: «َلا تُعَبِّرْنَا الأُرْدُنَّ» (عد32: 5).  ولم يكن هذا الطلب بسبب عدم الإيمان والخوف من جبابرة الأرض والمدن الحصينة.  لا، بل أتوا بسبب غير مُنتَظَر، فقالوا عن شرق الأردن: «الأَرْضُ ... هِيَ أَرْضُ مَوَاشٍ، وَلِعَبِيدِكَ مَوَاشٍ» (ع4).  لقد رأوا المراعي الغنية في أرض جلعاد، وصلاحيتها لأن تكون مرعى خصبًا لمواشيهم الكثيرة، فأرادوا أن يبقوا هناك، على حساب التخلي عن نصيبهم داخل الحدود المُعيَّنة لإسرائيل الله.  فكانت مصلحة مواشيهم أهم عندهم من امتلاك كنعان أرض موعدهم.

لقد كانوا رمزًا للمسيحيين الذين يُخفضون مستوى المسيحية، ويجعلون حياة الإيمان قاصرة على الظروف الأرضية التي يجتازون فيها.  فكأن حياتهم تتكون من هذه الأشياء الأرضية «لهُمْ مَوَاشٍ كَثِيرَةٌ وَافِرَةٌ جِدًّا» (عدد32: 1).  لقد انقادوا في تصرفهم وراء اعتبارات عالمية وذاتية حسب مرأى أعينهم، وبدوافع جسدية، إذ جالوا ببصرهم في الأرض، فرأوها «مَكَانُ مَوَاشٍ» (عد32: 1؛ قارن تك13: 10، 11؛ 33: 17-19)، وفضلوها على أرض الموعد نظرًا لمواشيهم الكثيرة ومصالحهم الشخصية.  وذلك كله بدون أن يعملوا حسابًا لمشيئة الله، وسابق تعيينه.  ولو كانت أعينهم بسيطة، ومُتجهة نحوه – تبارك اسمه – لما فكروا قط في اتخاذ ولو شبر واحد من الأرض في عبر الأردن إلى الشرق.

إن كنعان هي الأرض التي ليس لها مثيل في كل العالم؛ إنها «الأَرْضِ الْمُقَدَّسَة» (زك2: 12)، «بِلاَدِ عِمَّانُوئِيل» (إش8: 8)، «أَرْضِ الْمَوْعِدِ» (عب11: 9)، «الأَرْضِ الْبَهِيَّةِ» (دا11: 16)، «أَرْضِ الرَّبِّ» (هو9: 3؛ إش14: 2)، الأرض التي يصفها الرب هكذا: «أَرْضٍ جَيِّدَة، أَرْضِ أَنْهَارٍ مِنْ عُيُونٍ وَغِمَارٍ تَنْبَعُ فِي البِقَاعِ وَالجِبَالِ. أَرْضِ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَكَرْمٍ وَتِينٍ وَرُمَّانٍ. أَرْضِ زَيْتُونِ زَيْتٍ وَعَسَلٍ. أَرْضٌ ليْسَ بِالمَسْكَنَةِ تَأْكُلُ فِيهَا خُبْزًا وَلا يُعْوِزُكَ فِيهَا شَيْءٌ.  أَرْضٌ حِجَارَتُهَا حَدِيدٌ وَمِنْ جِبَالِهَا تَحْفُرُ نُحَاسًا» (تث8: 7-9)؛ وبالجملة «أَرْضٍ جَيِّدَةٍ وَوَاسِعَةٍ ... أَرْضٍ تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلاً» (خر3: 8). 

إن كنعان ترمز إلى ”السَّماويات“، التي هي مناخ القديسين ودائرة تمتعهم ببركاتهم الروحية السَّماوية وهم على الأرض.  ويوجد بلا شك كثيرون من المُخلَّصين محرومون من النظر إلى دعوتهم السماوية، والتمتع بالمركز الذي وصلت إليه الكنيسة.  إلى الآن لم يدخلوا إلى التمتع بالحقائق الخاصة المباركة الواردة في رسالة أفسس، وبالأسف محرومون من التمتع بكامل البركات التي لهم، ولم يصلوا بعد لإدراك مبلغ الشهادة المسيحية الحقَّة.  إن أشياء هذه الأرض تهمهم أكثر من الأمور الأبدية، والسماء لا تهمهم كثيرًا الآن.  إن النقطة الرئيسية في حياتهم المسيحية تدور حول الحاجيات اليومية، واليسر والعسر، والضيق والرخاء.  أو على حد تعبير السبطين: «نَبْنِي حَظَائِرَ غَنَمٍ لِمَوَاشِينَا هَهُنَا وَمُدُنًا لأَطْفَالِنَا» (ع16).  وأرجو أن نُلاحظ الترتيب: أولاً «نَبْنِي حَظَائِرَ غَنَمٍ لِمَوَاشِينَا»، ثم ثانيًا «مُدُنًا لأَطْفَالِنَا» (قارن كلام موسى في ع24).

وهذا يُذكرنا بما اقترحه فرعون على موسى عندما حاول أن يُبقي الأطفال في مصر (خر10: 10، 11)؟  الآن آباؤهم هم الذين يمنعوهم من دخول الأرض!!  في مراعي جلعاد الغنية، كانت المواشي ستجد ما تحتاج إليه، لكن ماذا عن عائلات هذين السبطين؟  التاريخ يُبين أن البقاء هناك كان معناه سقوطهم.  فأيهما أهم لنا؟  النجاح في أشغالنا الزمنية، أن نجاح نفوسنا؟ 

إن هذا الميل لتخفيض مستوى المسيحية أصبح عقيدة يتباهى بها الكثيرون في الوقت الحاضر، وبينما نرى الكثيرين يدّعون القوة، إذ بهم لا يعرفون عن المسيح أكثر من أنه يعتني بهم، ولهذا يثقون فيه وفي رعايته لهم، وتدبيره سائر أمورهم؛ الكبيرة والصغيرة المُتعلّقة بحياتهم اليومية.  وبعبارة أخرى يعرفون المسيح كراعيهم «عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي».  ومع ذلك فما أضعف تقديرهم لمدى عمق ينابيعه التي لا تُستقصى حتى من هذه الوجهة أيضًا! 

وإذا كان المسيح يتنازل لأن يقودنا أثناء مسيرنا في هذا العالم، فليس هذا معناه أنه يُعطينا راحة هنا؛ فالمراعي الخُضر ومياه الراحة ليست هي الحقول المُخصبة ولا صير الغنم ولا مُدن جلعاد، وإنما هي مراعي أرض كنعان الغنية.

ونحن لا نقصد أن نُضعف أو نُقلل من ثقة القديسين في سَيِّدهم ومسيحهم، إذ «مُبَارَكٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الرَّبِّ، وَكَانَ الرَّبُّ مُتَّكَلَهُ» (إر17: 7)، لكن غرضنا في الواقع أن نُوّجه أنظار المؤمنين إلى الفرح المُقدَّس المنبعث من دخولهم بالإيمان إلى الأقداس السماوية حيث يوجد المسيح المُمجَّد، وإلى الفرح الناتج عن انفصالهم عن العالم الحاضر، وعدم مشغوليتهم بمناظره الباطلة، ودخولهم كمَن ماتوا وقاموا مع المسيح إلى كنعان السماوية، وفيها لا نهتم بالمواشي الكثيرة الوافرة جدًا.  ولا تكون هذه المواشي والممتلكات وجهتنا في حياتنا، بل نتقدَّم إلى الأمام، بعد أن نسينا كل ما هو وراء، وطرحنا الذات وشؤون هذه الحياة في أعماق نهر الموت، ونجاهد الجهاد الحسن لنمتلك ونضع أيدينا على جميع الامتيازات التي لنا في المسيح، لنتمتع بهذه الامتيازات فعلاً بالإيمان، ونفرح بها في قوة الروح.      

أيها الأحباء: «إِنْ كُنْتُمْ قَدْ قُمْتُمْ مَعَ الْمَسِيحِ فَاطْلُبُوا مَا فَوْقُ، حَيْثُ الْمَسِيحُ جَالِسٌ عَنْ يَمِينِ اللهِ.  اهْتَمُّوا بِمَا فَوْقُ (الجانب الآخر من الأردن)، لاَ بِمَا عَلَى الأَرْضِ (حيث مراعي البهائم)» (كو3: 1، 2).

وظاهر من سياق تاريخ السبطين ونصف أنهم كانوا من ذوي المبادئ المختلطة، الذين يكفيهم أن يكونوا على الحدود حتى يميلوا إلى أي الجانبين حسب الظروف؛ أناس يطلبون ما لأنفسهم، ولا يطلبون ما هو لله.  ولو كانت قلوبهم مستقيمة أمام الله، بل لو حكّموا الضمير في نور محضر الله، لما استطاعت أية قوة أن تُزحزحهم عن المركز الذي دعاهم إليه الرب، ولما قبلوا أن يكون نصيبهم في غير أرض كنعان.

ولقد عرض بنو رأوبين وجاد أن يتقدموا لمساعدة إخوتهم في حرب أرض كنعان (عد32: 16-19).  فحاولوا بذلك أن يُظهروا أنهم غيورون وشجعان وغير أنانيين.  لكن هذا لم يكن يُعوِّض – في نظر الرب – نقص محبتهم له وللأرض التي أعطاها لهم.  نعم كان رجال الحرب من رأوبين وجاد سيعبرون الأردن ليُساعدوا إخوتهم، وبذلك يعرفون شيئًا عن أرض الموعد.  لكن ماذا عن نسائهم وأطفالهم؟  إنهم لم يروها قط.  وبغلطة الآباء كان الأولاد سيُحرمون من وعد الرب (عد14: 31).

إن الإيمان يستحيل أن يكتفي أو يشبع إلا بالمركز الحقيقي والنصيب الصالح الذي أعطاه الله لشعبه، والعين البسيطة لا ترى سوى الميراث المُعطى من الله، كما أن القلب الأمين لا يشتهي سوى هذا الميراث المُبارك.  لهذا كله نجد موسى لأول وهلة يعترض على رأوبين وجاد ونصف سبط منسى، ولكنه في النهاية عاد، ووافق بشكل ما بسبب الوعد الذي أعطوه لموسى، والعهد الذي ارتبطوا به، وهو أن يعبر الأردن كل مُتَجرِّدٍ للجُنْدِ أمام الرب للحرب (عد32: 27).

أما عن النتائج التي نتجت عن هذا التصرف، فهذا ما نراه واضحًا في يشوع 22 حيث يذكر لنا الوحي النتيجة المُحزنة الأولى التي أدت إليها تصرف السبطين ونصف، فقد رأوا من الضروري أن يبنوا مذبحًا، وفعلاً «بَنَى بَنُو رَأُوبَيْنَ وَبَنُو جَادَ وَنِصْفُ سِبْطِ مَنَسَّى هُنَاكَ مَذْبَحًا عَلَى الأُرْدُنِّ، مَذْبَحًا عَظِيمَ الْمَنْظَرِ» (يش22: 10)، وذلك لئلا يأتي وقت فيه يقع نزاع – كقولهم – بينهم وبين أسباط إسرائيل، فيقول الأخيرون للأولين: ليس لكم قسم في الرب، فيكون المذبح الذي لهم - على زعمهم – شاهدًا بين الطرفين (يش22: 21-29).

ألا يدل هذا كله على أنهم كانوا مُخطئين في اتخاذهم نصيبهم في عبر الأردن إلى الشرق.  فلقد أصبح وكأن السبطين ونصف منفصلان فعلاً عن بقية إسرائيل.  ويكفي أن نلاحظ تأثير بناء المذبح على كل الجماعة، حيث ارتبكت الجماعة كلها وانزعجت بسبب بناء مذبح شرق الأردن، عدا مذبح الرب الإله، الذي هو قدام مسكنه في أرض الموعد.  وقد بدا الأمر للجماعة أنه تمردًا وعصيانًا بينه وبين الحرب قاب قوسين أو أدنى (يش22: 12-19).

ومما لا نزاع فيه، أن كل شخص قد استنار ذهنه الروحي وأمعن النظر في موقف السبطين ونصف، لا بد أن يلومهم لأنهم قصَّروا في عبور نهر الأردن، واتخاذ نصيبهم في أرض كنعان.  ومما يُضيف على الأدلة التي تقدمت دليلاً مُقنعًا آخر، أن السبطين ونصف كانوا أول مَن وقع في قبضة العدو الأشوري (1مل22: 3؛ 2مل15: 29؛ 1أخ5: 26).

أيها الأحباء: إن الفصول التي تتكلَّم عن الجاديين والراؤبيين ونصف سبط منسى تنادينا بصوت مسموع وكلمات جلية جليلة تقول: احذروا من الاكتفاء بأمور الزمان!  احذروا من الاكتفاء بالأشياء المنظورة الموجودة في العالم!  ضعوا قلوبكم على ما لكم في السماويات، ولا تُقصّروا في التمتع بنصيبكم الحقيقي، ومركزكم الذي أوصلتكم إليه نعمة الله!  اعبروا نهر الموت والقيامة، وهما الأردن الحقيقي الروحي، لتأخذوا أرض مُلك الرب التي لكم في السماويات، التي بُوركنا فيها بكل بركة روحية!

وأَليس هذا ما نتعلَّمه روحيًا وأدبيًا من أحفاد الجاديين في أيام داود، لأنه «مِنَ الْجَادِيِّينَ انْفَصَلَ إِلَى دَاوُدَ إِلَى الْحِصْنِ فِي الْبَرِّيَّةِ جَبَابِرَةُ الْبَأْسِ رِجَالُ جَيْشٍ لِلْحَرْبِ ... هَؤُلاَءِ هُمُ الَّذِينَ عَبَرُوا الأُرْدُنَّ فِي الشَّهْرِ الأَوَّلِ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ».  لقد عبروا الأردن ليدخلوا إلى أرض كنعان ليجتمعوا «إِلَى دَاوُدَ». 

أما عن عبورهم «الأُرْدُنَّ وَهُوَ مُمْتَلِئٌ إِلَى جَمِيعِ شُطُوطِهِ»، ومعانيه الروحية، فهذا موضوع حديثنا في العدد القادم، إن شاء الربُّ وعشنا.                       

                                                                              (يتبع)

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com