عدد رقم 2 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
كنيسة ساردس (2) (رؤ3: 1 – 6)  

البروتستانتية بعد نهضة الإصلاح

(تابع ما قبله)

   «فاذكر كيف أخذت وسمعت واحفظ وتب» (رؤ3: 3).  تميَّز زمن الإصلاح بنور الكتاب المفتوح، وتحركت كل أوربا بهذه النهضة، وكان الناس يحتشدون في القاعات يسمعون كلمة الله لمدة 4 – 5 ساعات يوميًا.  وكان الكتاب كله هو المرجعية الوحيدة لهم.  لكن بالأسف هذه النهضة أخذت في الانحدار بسرعة، وما عاد الكتاب المقدس مُقدَّرًا في الكنائس البروتستانتية كما في البداءة.  لهذا يدعوها الرب للتوبة والرجوع.  لقد تحولوا إلى اللاهوت العصري المتحرر، ولم يعودوا يؤمنون بوحي الكتاب اللفظي، وبأنه كلمة الله المعصومة، وأصحاب النقد العالي نصَّبوا أنفسهم حُكَّامًا فوق الكتاب المقدس، واعتُبرتْ الحقائق الثمينة بقايا عهد غابر، وأقوال الله أصبحت مجرد أفكار وآراء، ووُضِعتْ جنبًا إلى جنب مع أقوال الفلاسفة.  وطعنوا في ناسوت المسيح الخالي من الخطية، واعتبروا أن الصليب هو مجرد قصة حب وتضحية، وليس كفارة عن الخطية وحتمية لإرضاء الله وتبرير الإنسان.  واعتبروا أن الإنسان الطبيعي مليء بالمحاسن والأخلاقيات، ومشكلته تكمن في الظروف المحيطة به، وليس أنه مشوه بالخطية وليس فيه شيء صالح.  ومع السنين زاد الانحراف ونادوا بأن المرأة تُعلِّم وتقود في الكنيسة مثل الرجل تمامًا، ورفضوا التعليم الخاص بغطاء الرأس للمرأة وهي تصلي، بل وسمحوا بتعيينها شيخة وقسيسة في الكنيسة، مناقضين كلمة الله.  واعتبروا أن ما كتبه بولس (1كو11، 14؛ 1تي2) هو رأي بولس وليس كلمة الله، وأن ما كتبه لكنيسة كورنثوس يخص كورنثوس فقط لظروف خاصة مرتبطة بالخلفية التاريخية والثقافية لهذه المدينة.  ووصلوا إلى القول بأن الكتاب المقدس نفسه قد كُتب لزمانه ومكانه فقط، ويجب تطوير الخطاب الديني بما يناسب العصر.  ونادوا بالوسطية باعتبار أن الحق نسبي.  وسمحوا بالطلاق والزواج الثاني أو الثالث.  ورفضوا التعليم الرمزي في كلمة الله، كذلك رفضوا التعليم التدبيري، واعتبروا أن الكنيسة هي امتداد لإسرائيل.  وسخروا من حقيقة الاختطاف والضيقة والظهور ومُلك المسيح الألفي.  وغير ذلك الكثير من التعاليم المنحرفة عن تعليم الرسل والإيمان المُسلَّم مرة للقديسين.  وكان عليهم أن يقيسوا أنفسهم بمعيار الحق الذي سمعوه في البداءة والنور الذي وصل إليهم من رجال الإصلاح.  لهذا يخاطب الرب ملاك كنيسة ساردس قائلاً: «اذكر كيف أخذت وسمعت واحفظ وتب» (ع3).  

   ومع انتشار اللاهوت الليبرالي المنحرف ظهرت في المقابل الحركات الكاريزماتية المتطرفة والتعليم بالمواهب المعجزية والشفاء والألسنة وإخراج الشياطين وإقامة الموتى، ومنهم من نادى بإنجيل الصحة والثروة وبأن المؤمن لا يمرض ولا يتعرض للفقر أو أية مشكلة، ومن علَّم بالإعلانات والرؤى وادَّعَى النبوة.  ومنهم من نادى بيوم خمسين جديد وانسكاب آخر للروح القدس.  وغير ذلك الكثير من البدع التي لا تتوقف حتى اليوم، والناس تنبهر بكل جديد.  كل هذا وأكثر حدث في ساردس عبر القرون التي تلت عصر النهضة ورجال الإصلاح.  ويا لهول التحول عن الحق!  لهذا كان خطاب الروح لهذه الكنيسة موبخًا ومحذرًا.  وكل هذا التحذير نحتاجه نحن أيضًا لنتذكر كيف أخذنا وسمعنا ولنحفظ ونتب.  حيث أن ما أخذناه من تعليم هو أكثر كثيرًا مما وصل إليهم في زمن الإصلاح.  ومن يعرف الكثير يُطالَب بأكثر.  فعلينا أن نسلك بحسب النور الذي وصل إلينا من كلمة الله.  كم من خدمات كثيرة ثمينة استمعنا إليها، فهل قدرنا حق الله الذي عرفناه، وهل حفظناه وتمسكنا به وطبقناه في حياتنا؟

   «فإني إن لم تسهر أُقدم عليك كلص، ولا تعلم أية ساعة أُقدم عليك» (رؤ3:3).  لقد أعطاها الرب فرصة للتوبة، فإذا لم تستفد من إمهال الله فإنه سيتعامل معها بحسب ما تستحقه من دينونة باعتبارها إناء للشهادة ومستودع للحق ومنارة مسؤولة عن النور وسط ظلمة هذا العالم.  إنهم مُهدَّدون أن يُقطعوا بالدينونة إن لم يسهروا ويتوبوا، وهو سيأتي إليهم كلصٍ غير متوقع.  وهذا شيء خطير لأن الرب سيأتي إلى العالم كلصٍ في الليل للدينونة (1تس5: 2).  وهو أمر محزن أن الكنيسة الاسمية تنزل في تقدير الله وحُكمه إلى مستوى العالم الرافض للمسيح.

   أما للمؤمنين الحقيقيين الذين يتوقعون مجيء الرب كالعريس، فسيأتي ككوكب الصبح المنير (رؤ22: 16).  ولكن للعالم وللكنيسة الاسمية التي لا تعرف المسيح ولا تتوقع أو تنتظر مجيئه ثانية، فسيأتي كلصٍ في الليل بالهلاك والقضاء المباغت.  وكلمات الرب إلى ساردس عن مجيئه تبين أنهم لم يكونوا يتوقعون مجيئه ثانية، وهذا حقيقي في يومنا الحاضر بالنسبة إلى البروتستانتية بشكل عام، وأيضًا بالنسبة إلى العالم.  فهم غير متوقعين أو منتظرين مجيء الرب، ومجيئه سيكون غير مرغوب فيه، كلصٍ في الليل، يوم الرب، عندما يمارس أعماله القضائية الرهيبة عند ظهوره وملكوته.  وبالأسف فإن هناك قادة مُعتَبَرين في هذا النظام ينكرون علنًا حقيقة الاختطاف، وأن مجيء الرب قد اقترب، إنهم يقولون: أين هو موعد مجيئه؟ ويعتبرون أن الموت هو تحقيق الوعد «آتي أيضًا وآخذكم إليَّ» (يو14: 3)، وقلما تسمع عظة عن مجيء الرب في كنائسهم، والشعب لا يرحب بهذا أو يفرح به.  فهم لا يعرفون الدعوة السماوية ولا الرجاء المسيحي السماوي، بل يفتكرون في الأرضيات ويطلبون المجد العالمي والراحة هنا.  هذه هي الحالة التعيسة التي وصلت إليها ساردس.  وبينما يقولون سلام وأمان سيُفاجئهم هلاك بغتة كالمخاض للحُبلى فلا ينجون (1تس5: 3).  هكذا ستكون دينونة ذاك الذي له اسم أنه حي وهو ميت.  أما بالنسبة للمؤمنين الحقيقيين فيقول الرسول: «أما أنتم أيها الإخوة فلستم في ظلمة حتى يدرككم ذلك اليوم كلص.  جميعكم أبناء نور» (1تس5: 4، 5).

   «عندك أسماء قليلة في ساردس لم ينجسوا ثيابهم، فسيمشون معي في ثياب بيض لأنهم مستحقون» (رؤ3: 4).  كما كان في ثياتيرا بقية أمينة أشار إليها الرب، كذلك هنا في ساردس أفراد أمناء ميَّزهم الرب عن الكتلة الاسمية، كمن هم سبب سرور لنفسه.  وكلمة أسماء تدل على أشخاص معروفين جيدًا لدى الرب، وفي نفس الوقت تدل على قلة عددهم.  هؤلاء لم ينجسوا ثيابهم بشرور العالم كما فعل الأغلبية في ساردس، حيث انتشرت بينهم الخطايا الأخلاقية المشينة، ولكنهم حفظوا أنفسهم بلا دنس من العالم (يع1: 27)، ومن الشرور الأدبية داخل دائرة الاعتراف المسيحي.  ورغم أنهم كانوا قليلين وغير مقبولين هنا، لكنهم كانوا معروفين ومُقدَّرين من الرب ومستحقين أن يمشوا معه في ثياب بيض.  هذا الوعد يُبين كيف يُقدر الرب هذه الأمانة والحياة المقدسة، والجزاء والمكافأة على ذلك هو الشركة الأكثر قربًا، والوحدة مع شخصه، «فسيمشون معي».  ليت هذه الكلمات تشجع كل المؤمنين على السير بالانفصال عن كل ما لا يرضي الرب في جو القداسة والطهارة العملية التي تليق به.  ونلاحظ أن البقية في ثياتيرا كانت أكثر عددًا من البقية في ساردس، فهنا «أسماء قليلة» لكنها كريمة في عيني الرب.  وبالطبع عبارة «لأنهم مستحقون» تعني أنهم حُفظوا بقوته الإلهية، ومع ذلك فهو بالنعمة ينسب لهم هذا الاستحقاق. 

المثل الخامس في متى 13 يقابل الكنيسة الخامسة (ساردس).  «يشبه ملكوت السموات كنزًا مُخفى في حقل، وجده إنسان.  ومن فرحه مضى وباع كل ما كان له واشترى ذلك الحقل».  وهذا المثل يصور الرب يسوع المسيح وقد ضحى بكل شيء واشترى العالم، وذلك لكي يحصل على الكنز المُخفى هناك (القديسين أفرادًا)، ووجه الشبه مع ساردس هو في الكنز المُخفى في الحقل.  ففي وسط هذه الكتلة الكبيرة الاسمية في البروتستانتية التي سارت مع العالم كان هناك هؤلاء الأفراد المختبئين القلائل. 

الوعد الثلاثي للغالب: «من يغلب فذلك سيلبس ثيابًا بيضًا، ولن أمحو اسمه من سفر الحياة، وسأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته» (رؤ3: 5).  والغالبون هنا هم الذين يذكرون كيف سمعوا وأخذوا، وحفظوا وتابوا، ولم ينجسوا ثيابهم، فسيظهرون كغالبين، ويوضعون في مرتبة البقية الأمينة الذين سيمشون مع الرب في ثياب بيض.  أما الثياب البيض التي يعد الرب أن يلبسها الغالب فهي اعتراف الرب العلني ومصادقته على طهارة سلوكه هنا.  وفي رؤ19 تُرى العروس امرأة الخروف مزينة ولابسة بزًا نقيًا بهيًا وأبيض، والبز هو تبررات القديسين. 

   الجزء الثاني من الوعد: «لن أمحو اسمه من سفر الحياة».  ما هو سفر الحياة؟ وهل يمكن أن يُمحَى اسم شخص منه؟ بالدراسة الدقيقة يمكننا أن نرى تميزًا وفرقًا بين سفر الحياة المذكور هنا وسفر حياة الخروف الذي يتكلم عنه رؤ13: 8، ورؤ21: 7.  هذان هما سفران أو سجلان مختلفان.  ويبدو أن سفر الحياة هو سجل عام للاعتراف حيث يمكن أن يدون اسم شخص وعند الفحص يثبت بطلان أحقيته في تسجيل اسمه، وعندئذ يُمحَى اسمه.  وفي ساردس هناك من له اسم أنه حي وفي الحقيقة هو ميت.  فهذا سيُمحَى اسمه من سجل الأحياء.  وفي القديم ظهرت فكرة إمكانية المحو من كتاب الله.  فموسى في لحظة شفاعة جميلة لأجل إسرائيل المُخطئ قال للرب: «والآن إن غفرت خطيتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت».  وردًا على تضرعه أجاب الرب قائلاً: «من أخطأ إليَّ أمحوه من كتابي» (خر32: 32، 33).  وفي مز69: 28 يطلب داود لأجل أعداء الرب قائلاً: «ليمحو من سفر الأحياء، ومع الصديقين لا يكتبوا».  وكذلك في رؤ22: 19 نجد التحذير: «وإن كان أحد يحذف من أقوال كتاب هذه النبوة يحذف الله نصيبه من سفر الحياة ومن المدينة المقدسة».  كل هذه الآيات تبين إمكانية أن يمحو الرب اسم شخص من سفر الحياة الذي هو كتاب عام للاعتراف بالحياة الإلهية.  إن الله يأخذ الناس حسب اعترافهم، ويعتبرهم مسؤولين طبقًا لهذا الاعتراف، وعندما يثبت أن بعض الأشخاص غير متصفين بهذه الحياة الإلهية ولكنهم أموات، كما كانت الأغلبية في ساردس، تُمحَى أسماؤهم كغير جديرين بهذا السجل. 

   أما سفر حياة الخروف فيحتوي على أسماء كتبت فيه قبل تأسيس العالم كما يخبرنا رؤ13: 8، 17: 8، إذ نقرأ التعبير: «ليست أسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذُبح».  هذا هو كتاب مشورات الله ومقاصده الذي يعرف النهاية من البداية.  هناك كتب أولئك الذين تم اختيارهم في المسيح قبل تأسيس العالم (أف1: 4).  هؤلاء هم المؤمنون الحقيقيون بالمسيح.  فسفر حياة الخروف هو كتاب الحقيقة ولن يُمحَى أي اسم من هذا الكتاب.

   الجزء الثالث من الوعد للغالب: «سأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته».  إنه كقائد في الجيش يعطي تقريرًا للقيادة ويذكر بفخر أولئك البارزين في أداء واجبهم، وهذه الأسماء تُذكر للتكريم والشرف والمكافأة.  والجندي الذي صمد في مكانه في المعركة، وقاتل ببسالة، كم هو مفرح له أن يُذكَر اسمه أمام رؤسائه والقائد الأعلى.  ليتنا نقدر استحسان الرب هذا واعترافه ووعده بالمكافأة والشرف، ونكتفي بأن نكون مستترين هنا ونثبت كغالبين للمسيح.  ربما يبدو للقديس الآن أنه أمر زهيد أن يحافظ على مركز الانفصال، ويقاوم بنجاح كل الإغراءات التي تعرَّض لها بإلحاح لكي ينهار تحت وطأة العادات والممارسات التي حوله في دائرة الاعتراف المسيحي، لكن حينما سينطق الرب باسم هذا القديس أمام الآب وأمام كل الأجناد السماوية، فلن يوجد واحد في هذا الحشد الذي لا يُعد سوف لا يُقدر هذه العلامة الواضحة لاستحسان الرب ومصادقته كأعظم تكريم يمكن أن يمتلكه أي شخص على الإطلاق.

   «من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس» (رؤ3: 6).  هذه الدعوة تظهر حنين الرب وشوقه الشديد إلى أن كلماته تجد مكانًا في قلوب قديسيه وتنتج استجابة تامة لمحبته الأمينة.  ونلاحظ أنه لا يقول ما يقوله الروح للكنيسة، الموجه إليها الخطاب، ولكن للكنائس.  فما يقوله الرب لكل كنيسة كان على الأذن السامعة في كل الكنائس أن تصغي إليه.  فلا يوجد في الكتاب المقدس شيء يُسمى استقلال الكنائس المحلية، بل ما يقوله الروح لكنيسة إنما يقوله لكل الكنائس في كل العصور.                      

                                                                                 

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com