عدد رقم 4 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أَبْشَالُوم والثورة ... ودروس هامة (2صم15-18)  

المشهد الرابع: في مصعد جبل الزيتون 
(2صم15: 23-29)

«وَأَمَّا دَاوُدُ فَصَعِدَ فِي مَصْعَدِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ.  كَانَ يَصْعَدُ بَاكِيًا وَرَأْسُهُ مُغَطَّى وَيَمْشِي حَافِيًا، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ مَعَهُ غَطُّوا كُلُّ وَاحِدٍ رَأْسَهُ، وَكَانُوا يَصْعَدُونَ وَهُمْ يَبْكُونَ.  وَأُخْبِرَ دَاوُدُ وَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَخِيتُوفَلَ بَيْنَ الْفَاتِنِينَ مَعَ أَبْشَالُومَ، فَقَالَ دَاوُدُ: حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 30، 31)
يا له من مشهد مؤلم! داود يصعد في مَصْعَدِ جبل الزيتون – في طريقه إلى القمة – باكيًا ورأسه مُغطى ويمشي حافيًا، علامة الحزن الشديد (قارن من فضلك إشعياء 20: 2، 4؛ حزقيال 24: 17).  لا شك أن هذا كان حزنًا بحسب مشيئة الله يُنشئُ توبةً لخلاصٍ بلا ندامةٍ (2كو7: 10).  وكان كل هذا ثمرًا يليق بالتوبة والندم على الحزن الذي سبَّبه لنفسه، ولعائلته، ولشعبه.  وكان كل شيء كاملاً وفي وقته.
ورغم صمته تجاه ”شَمْعِي بْنُ جِيرَا“ الذي سَبَّه (2صم16: 5-14)، إلا أن داود – بالروح – يعتبر أن مِن حقه أن يتوسل إلى الرب ضد ”أَخِيتُوفَل“ حيث يقول: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 31).  وقد سمع الرب لهذه الطلبة، واستجاب بأن أبطل سريعًا مشورة هذا المشير الشرير، كما سنرى فيما بعد.  

ولنا بعض الملاحظات على مشهد مَصْعَدِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ:
أولاً: كم هو مؤثر منظر داود وهو في وسط قلة من الأمناء يصعدون معه جبل الزيتون، وهم جميعًا يبكون.  وبعد ألف سنة، عبر ابن داود العظيم؛ ربنا يسوع المسيح، البقعة عينها (يو18: 1)، مع تلاميذ قلائل، ودخل إلى بستان الأحزان ”جَثْسَيْمَانِي“ (مت26: 36).  هناك كان ”رَجُل الأوْجَاع“ (إش53: 3) «فِي جِهَادٍ» (لو22: 44)، وهناك «قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ لِلْقَادِرِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنَ الْمَوْتِ» (عب5: 7).
وأما أحزان داود فكانت نتيجة أخطائه الشخصية، بخلاف ربنا يسوع الذي «أَحْزَانَنَا حَمَلَهَا وَأَوْجَاعَنَا تَحَمَّلَهَا» (إش53: 4).  ولا يمكن أن نُقارن أحزان داود بأحزان الرب يسوع المسيح التي قاساها بسبب خطايانا، ولو أننا بتأملنا فيها نستطيع أن نفهم شيئًا مما اجتاز فيه مُخلصنا المُبارك، الذي في حزن نفسه حتى الموت، فإنه سكب دموعًا أكثر من داود، وكان عَرَقُهُ يتصبَّب «كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ» (لو22: 44).

ثانيًا: كم تأثر بعمق رجال داود الأوفياء بأحزان مليكهم المحبوب، فشاركوه الحزن والبكاء «وَجَمِيعُ الشَّعْبِ الَّذِينَ مَعَهُ غَطُّوا كُلُّ وَاحِدٍ رَأْسَهُ (علامة الحزن الشديد)، وَكَانُوا يَصْعَدُونَ وَهُمْ يَبْكُونَ» (2صم15: 30).

ومع أن تلاميذ الرب يسوع الذين صاحبوه إلى ”جَثْسَيْمَانِي“ ناموا، وما قدروا أن يسهروا معه ساعة واحدة (مت26: 40)، ولكن الكتاب يُسجل عنهم أنهم كانوا «نِيَامًا مِنَ الْحُزْنِ» (لو22: 45).
والكتاب المقدس يُحرّضنا: «فَرَحًا مَعَ الْفَرِحِينَ وَبُكَاءً مَعَ الْبَاكِينَ» (رو12: 15).  فالتعاطف مُهمّ، وهو القدرة على المشاركة بشعور الآخرين وانفعالاتهم.  فالجسد فينا يجعل ميلنا الطبيعي أن نغار عندما يفرح الآخرون، وأن نتغاضى عنهم في حزنهم.  أما طريقة الرب فهي أن ندخل أفراح الذين حولنا وأحزانهم.  ويا ليتنا جميعًا هكذا!

ثالثًا: وفي ”مَصْعَد جَبَلِ الزَّيْتُونِ“ عرف داود بخيانة ”أَخِيتُوفَل“ مُشيره السابق (ومعنى اسمه ”أبو الجهل“ أو ”أبو الحمق“ أو ”أبو التفاهة“)، وهناك أيضًا جاء ”يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ“ مع الجُند وخُدَّام من عند رُؤَسَاءِ الكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لكي يمسكوا الرب يسوع (يو18: 3).  وفي حزن داود الشديد سجَّل اختباره الحزين: «لأَنَّهُ لَيْسَ عَدُوٌّ يُعَيِّرُنِي فَأَحْتَمِلَ.  لَيْسَ مُبْغِضِي تَعَظَّمَ عَلَيَّ فَأَخْتَبِئَ مِنْهُ.  بَلْ أَنْتَ إِنْسَانٌ عَدِيلِي، إِلْفِي وَصَدِيقِي (My familiar friend)، الَّذِي مَعَهُ كَانَتْ تَحْلُو لَنَا الْعِشْرَةُ.  إِلَى بَيْتِ اللهِ كُنَّا نَذْهَبُ فِي الْجُمْهُورِ» (مز55: 13، 14).  وبحزن أشد قال الرب يسوع لتلميذه الخائن: «يَا صَاحِبُ (My friend)، لِمَاذَا جِئْتَ؟» (مت26: 50).

ومن المرجح أن ”أَخِيتُوفَل“ أراد أن ينتقم لشرف العائلة الذي تعدى عليه داود، لأنه كان جد ”بَثْشَبَعَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ“ (قارن من فضلك 2صموئيل 11: 3 مع 2صموئيل 23: 34)، ومن المُتوقَّع أن تكون مشاعره تجاه داود هي نفس مشاعر أبشالوم تجاه أمنون.  أما الرب يسوع فماذا وجد ”يَهُوذَا الإِسْخَرْيُوطِيَّ“ الخائن فيه؟! ولعل هذا معنى سؤال الرب له: «يَا صَاحِبُ، لِمَاذَا جِئْتَ؟» (مت26: 50).

رابعًا: وباستثناء عصيان وتطاول ابنه أبشالوم عليه، كانت خيانة ”أَخِيتُوفَل“ هي أمرّ مكونات كأس الآلام التي كان على داود أن يتجرعها.  كان ”أَخِيتُوفَل“ مِن ألصق أصدقائه؛ رجل رفقته، والذي أظهر داود له كثيرًا من المحبة، وكانت له شركة عميقة معه في الأمور الروحية (مز55: 14).
وفي مزمور 41 يُسجل داود أناته وتوجعات قلبه أثناء هذه اللحظات، وبعد أن يُعدّد الأحزان والشرور التي تُحيط به (ع4-8)، ينتهي في ع9 بذكر أكثر ما آلمه؛ اسمعه يئن قائلاً: «أَيْضًا رَجُلُ سَلاَمَتِي، الَّذِي وَثَقْتُ بِهِ، آكِلُ خُبْزِي، رَفَعَ عَلَيَّ عَقِبَهُ!».  ويا للصورة التي ترسمها ريشة داود!  صورة الفارس الذي طرحه حصانه من على ظهره، ولم يكتفِ بذلك، بل رفع قدمه - وبكل قسوة وعنف – رفسه!
ويا لها أيضًا من ضربة قاسية مُحبطة لداود؛ فقد «كَانَتْ مَشُورَةُ أَخِيتُوفَلَ الَّتِي كَانَ يُشِيرُ بِهَا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ كَمَنْ يَسْأَلُ بِكَلاَمِ اللهِ.  هَكَذَا كُلُّ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ عَلَى دَاوُدَ وَعَلَى أَبْشَالُومَ جَمِيعًا» (2صم16: 23).

ومن الواضح أن داود كان خائفًا من مشورة أَخِيتُوفَلَ وحكمته وحُنكته السياسية، أكثر من خوفه من جرأة وجسارة وقساوة واندفاع وتهور أبشالوم. 
وإذ قيل لداود: «إِنَّ أَخِيتُوفَلَ بَيْنَ الْفَاتِنِينَ مَعَ أَبْشَالُومَ»، يُسحق قلب الملك المسكين بهذا.  وهكذا جفت كل المصادر البشرية للمعونة بخلاف المصدر الوحيد الذي كان كافيًا له تمامًا، ولم يجد داود سبيلاً إلا اللجوء إلى الصلاة والتضرع إلى الله على رجاء أن يرحمه ويُنجيه من انتقام أَخِيتُوفَل.  ومع أنه لم يدَّعِِ أي حقٍّ في معونة الله له، ورغم استعداده لتقبل كل ما يأتي عليه مهما كان سيئًا، علمًا منه بأنه لن يكون أسوأ مما يستحق، فإنه ترجَّى أن يكون لدى الله بعدُ سبيل إلى إظهار رحمته نحوه.  فلما بلغه أن ”أَخِيتُوفَل“ انضم إلى أبشالوم الثائر ضده، صلى قائلاً: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 31).
كان داود – رغم كل شيء – هو رجل الإيمان؛ الرجل الذي حَسَبَ قلب الله.  لقد عرف الرب، وعرف مخازن نعمته التي لا تُحدّ.  لقد كان يعرف ويُدرك ما قاله أيوب عن الرب: «عِنْدَهُ الْحِكْمَةُ وَالْقُدْرَةُ.  لَهُ الْمَشُورَةُ وَالْفِطْنَةُ ... عِنْدَهُ الْعِزُّ وَالْفَهْمُ.  لَهُ الْمُضِلُّ وَالْمُضَلُّ.  يَذْهَبُ بِالْمُشِيرِينَ أَسْرَى، وَيُحَمِّقُ الْقُضَاةَ ... يَنْزِعُ عُقُولَ رُؤَسَاءِ شَعْبِ الأَرْضِ، وَيُضِلُّهُمْ فِي تِيهٍ بِلاَ طَرِيقٍ» (أي12: 13-24).

خامسًا: وفي أثناء هربه، لم تكن الفرصة سانحة لداود ليقضي وقتًا طويلاً في الصلاة لله.  ولكن الصلاة الحقيقية لا تُقاس بطولها، بل بعمقها.  وهكذا سكب داود ذوب قلبه في صلاة قصيرة عميقة: «حَمِّقْ يَا رَبُّ مَشُورَةَ أَخِيتُوفَلَ» (2صم15: 31؛ قارن من فضلك نحميا 2: 4؛ متى 14: 30).

«Then said David, Jehovah, I pray thee, turn the counsel of Ahithophel into foolishness». 
ويا له من مثال مُبارك ومُشجع للصلاة يتركه لنا داود هنا! ويا للصلاة القصيرة العميقة التي سُمِعَت في الأعالي، واستُجيبت في حينها! ويا للتشجيع الذي لنا في هذه الاستجابة! لقد استُجيبت الصلاة في الحال بوصول ”حُوشَايَ الأَرْكِيِّ“ الذي سيستخدمه الرب في ”إِبْطَالِ مَشُورَةِ أَخِيتُوفَلَ الصَّالِحَةِ لِيُنْزِلَ الشَّرَّ بِأَبْشَالُومَ“ (2صم15: 32-37؛ 16: 15-17: 14).  حقًا إن «طِلْبَةُ الْبَارِّ تَقْتَدِرُ كَثِيرًا فِي فِعْلِهَا» (يع5: 16).

مرة أخرى يتبرهن لنا أن الصلاة هي قوة الضعفاء، وسلاح العُزَّل، ودفاع مَن لا سند أو عضد له.  ولو كانت الكنيسة – في أوقات المحن والكروب والاضطهادات – حفظت لنفسها هذا السلاح الوحيد المسموح لها به، لكانت أشد بأسًا وأقوى سلطانًا.  ولو تذكرنا هذا الدرس البليغ لخرجنا من المنطقة المُظلمة التي يُخيم عليها اليأس والحيرة – التي تعبر بها بلادنا في هذه الأيام - إلى منطقة الرجاء المتوهجة بنور الوعود الإلهية وسناء المجد.
ويا له من تشجيع رائع وراسخ الأساس! إن داود في طريقه للنهوض من أعمق أعماق الشقاء الإنساني ليصل إلى الله، وإلى موارده التي لا تنضب.  فالإيمان يعرف أن الله فيه كل الكفاية لمواجهة احتياج الإنسان، وعجز الإنسان، وفشل الإنسان، وخطية الإنسان.  فالله فوق الكل، وراء الكل، وفي الكل.  والقلب الذي يدرك هذا حتمًا سيرتفع فوق تجارب ومصاعب الطريق.

وهكذا كان داود في طريقه إلى القمة؛ إلى قمة جبل الزيتون، وإلى قمة من قمم حالته الروحية.  وهو ما سنراه في عددنا القادم، إن شَاءَ الربُّ وعِشْنَا.   
                                                                         (يتبع)
                           

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com