عدد رقم 4 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أصدقاء الله!! (2)  

الرجل الذي سار مع الله
(تك5: 18-24؛ عب11: 5؛ يه 14)

يُعَدّ تكوين 5 أطول أصحاحات الكتاب المقدس من حيث المدة الزمنية التي يغطيّها تأريخًا؛ فهو يشمل تاريخ حوالي 1600 سنة من آدم إلى نوح.  وتميَّز هذا الأصحاح بأنه سار كله على نحو واحد، حتى يمكننا تلخيصه هكذا: “وَعَاشَ (أ) (س) سِنِة، وَوَلَدَ (ب).  وَعَاشَ (أ) بَعْدَ مَا وَلَدَ (ب) (ص) سِنِة، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.  فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ (أ) (س+ص) سَنَةً، وَمَاتَ”، مع تغيير (أ) و(ب) بأسماء مختلفة، و(س) و(ص) بفترات زمنية مختلفة، لكن تبقى الخلاصة هي: “عاش.. وَلَد.. مات”.  لم يخرج عن هذا النسق في طول الأصحاح، أي في طول 1600 سنة، سوى ع1، 2 اللذان ذكرا “خلق آدم وحواء” كفاتحة للتاريخ البشري، والأعداد 22-24 التي تميَّزت بهذا السرد المجيد: «وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ بَعْدَ مَا وَلَدَ مَتُوشَالَحَ ثَلاَثَ مِئَةِ سَنَةٍ، وَوَلَدَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ.  فَكَانَتْ كُلُّ أَيَّامِ أَخْنُوخَ ثَلاَثَ مِئَةٍ وَخَمْسًا وَسِتِّينَ سَنَةً.  وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ».

من الغريب أن نلمح من هذه الأعداد أن أخنوخ كان هو الأقصر عمرًا في كل هذه القائمة الطويلة ممتدة الأعمار؛ فقد اختفى من المشهد وعمره 365 سنة (أي أقل من ربع زمان الأصحاح)، في زمن كانت الأعمار تتجاوز 900 سنة، بل لقد عاش 5 من أجداده بعده (لاحظ الرسم)!!  يمكننا أن نعتبره، حسب متوسط أعمار اليوم، في العشرينيات من عمره، لقد اختفى “في عز شبابه”!  لكن ليس هذا ما ميَّزه عند الله، بل ما تكرر ذِكره: «سَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ».  

المعنى
فما معنى “السير مع الله” إذًا؟!  معناه ببساطة لخَّصه المرنِّم قائلاً:

نمشي معًا إلى مدى الدهور
نحكي معًا كأفضل الرفاق

تفنى الدُنى مع سائر الأمور
أما أنا والرب لا افتراق

سار أخنوخ مع الله سير الأصدقاء، سير مُتَحِدي القصد، من يحلو بينهم الحديث ويطول بينهم الكلام، يتكلمون لغة واحدة ويهتمون اهتمامًا واحدًا.  ومن متابعة الأجزاء القليلة التي ذُكر فيها أخنوخ، والمذكورة في صدر المقال، يمكننا أن ندرك أن الحديث بين أخنوخ وإلهه شمل الكثير.  فكما سنرى عرف الله معرفة شخصية، وفَهِم عالمه، بل وعَلِم ما لم يتم بعد، كما نفهم من رسالة يهوذا!  لا بد أن الكلام بينهما كان يشمل كل شيء.
هذا هو الدرس الذي نحتاج أن نتعلَّمه: أن نتحدث مع إلهنا، ويطول الحديث.  ليس أن “نصلي” بالمفهوم الذي تعارف عليه الناس، بل أن يحلو بين المؤمن وربِّه الحديث بلا حدود.  

عندنا طلبات؛ لنرفعها له فهو يسمع لنا.  في قلبنا تشكّرات؛ لنُكثر منها فهو جدير بها.  إن أُعجبنا بمناظر الطبيعة، أفلا يستحق خالقها كلمات تقدير؟!  وعندما نكتشف شيئًا من جماله وجلاله، أليس من الواجب أن نسبِّحه؟!  وسط ظروفنا، ليكن هو الملجأ الوحيد.  في مخاوفنا، لنتعلم أن يكون أول من نقول له “يا رب نجّنا”.  وعندما تميِّز عيوننا، من بين سطور الأحداث، أنه العلي المتسلط في مملكة الناس، فهل نقف صامتين؟!  أليس لدينا تساؤلات؟!  أم لا نحتاج لأن نطلب منه أن يفتح أذهاننا ويكشف عن عيوننا لنفهم كلمته؟!  ماذا عن سر الرب الذي لخائفيه؟!  إخفاقاتنا وزلاتنا، ألا نحتاج لأن نتحاجج معه بشأنها؟!  ألا يمكننا أن نشاركه الحديث عن عمله وأموره؟!  ماذا عن أقارب لنا لم يختبروه بعد؟!  وشهادتنا له وسط هذا العالم؟!  ومجده وسط الكنيسة؟!  أوَلا نعبِّر له عن أشواقنا للقاء الأبدي؟! ...

بعد كل هذا هل نسأل عن محتوى الحديث بين أخنوخ والله؟  أو نشتكي أننا لا نجد ما نقوله وقت الصلاة؟!
ولتكتمل الصورة، أود أن أوضح أن كل ما تقدَّم هو منهج حياة، ليس مجرد دقائق - ولا حتى ساعات - نقضيها في وقت “صلاة” أو “خلوة” أو “أداء” شيء ما أو طقس.  لنتعلم أن نتكلم معه في خلوتنا كما ونحن وسط الألوف.  لنحادثه ونحن في طرقنا، وعملنا، واجتماعاتنا.  في صحونا وفي وقت الأرق، ونحن نستيقظ ونحن نأوي لفراشنا.  في الضيق ووقت الفرج، في المعركة وعند النصرة، في الحاجة وبعد انقضائها.  باختصار، ليكن الله حاضرًا في كل الحياة، ففي حضوره البركة في ملئها، وتلك هي حياة الشركة.  

التوقيت
يقول الكتاب إن أخنوخ سار مع الله «بَعْدَ مَا وَلَدَ...».  لقد اختبر معنى الأبوة، وفهم ما يكنّه الأب لأولاده، وبالتأكيد استخدم الله ذلك ليُعلن له أبوّته.  أدرك أن قلب الله ملآن من نحوه بالحب والجود، الرأفة والصلاح.  فبدأ يخاطبه بما في قلبه، يحكي له وهو يعلم أن أباه يحسن الاستماع إليه ويفهم دواخل قلبه كابن.  امتلأ يقينًا أنه يتعامل مع شخص هو الأقرب إليه من الكل، والأحن، والأكثر استعدادًا ورغبة وقدرة للعطاء.  فلنعلم أنه إن كنا، بالإيمان بالمسيح، مِنَ «الَّذِينَ قَبِلُوهُ» فقد تم فينا القول «أَعْطَاهُمْ سُلْطَانًا أَنْ يَصِيرُوا أَوْلاَدَ اللهِ» (يو1: 12).  ولندرك، بناءً على ذلك، أنه من حقنا أن نهتف بدالة البنين «يَا أَبَا الآبُ» (رو8: 15) بعد أن أخذنا روح التبني.  لنا أن نتمتع بحنان قلب آبٍ أعطى في جوده حتى مسرة قلبه.  لكن، من الجانب الآخر، علينا ألا ننسى أنه «إِنْ كُنْتُمْ تَدْعُونَ أَبًا الَّذِي يَحْكُمُ بِغَيْرِ مُحَابَاةٍ حَسَبَ عَمَلِ كُلِّ وَاحِدٍ، فَسِيرُوا زَمَانَ غُرْبَتِكُمْ بِخَوْفٍ» (1بط1: 17).  وإدراكنا لأبوة الله بشقيها، يؤهلنا عمليًا للسير مع الله كأخنوخ.

الحافز
أسمى أخنوخ ابنه «مَتُوشَالَحَ» والذي يعني “مات فأرسل“!!  اختيار غريب!  ويزداد تعجبنا حينما نتابع الأعمار المذكورة في تكوين 5 بالمقارنة مع الأصحاحات التالية (انظر الرسم)، فندرك أن السنة التي مات فيها متوشالح هذا كانت هي السنة التي أرسل الله فيها الطوفان على الأرض.  هل كان اسم متوشالح أول نبوة لأخنوخ؟!  ربما!  لكن الواضح أنه، بشكل أو بآخر، أعلن الله له أن العالم الذي يعيش فيه إنما هو إلى الزوال.  فأدرك ما أُعلن لنا نحن بوضوح أن «هَيْئَةَ هذَا الْعَالَمِ تَزُولُ» (1كو7: 31)، و«أن هذه كلها تنحل» (2بط11:3).  وهل يُشبع الزائل القلب؟!  وهل يمسك العاقل بالريح؟!
ولقد قَبِلَ أخنوخ، بالإيمان، هذا الأمر، فعاشه.  فضَّ يده من هذا العالم، وخلا قلبه من محبته.  وهكذا أصبح قلبه مهيّأً للشركة مع الله.  إن أردنا العيش في هذا الجو العطر الودي الجميل، فعلينا أن نعي ونوقن أن علينا الاستماع للقول «لاَ تُحِبُّوا الْعَالَمَ وَلاَ الأَشْيَاءَ الَّتِي فِي الْعَالَمِ.  (والسبب) إِنْ أَحَبَّ أَحَدٌ الْعَالَمَ فَلَيْسَتْ فِيهِ مَحَبَّةُ الآبِ» (1يو2: 15).  إن انشغالنا بأمور العالم، وجرينا وراء مسراته وملذاته، وامتلاء عيوننا ببريقه والانبهار به؛ كلها أمور تفقدنا الشهية الروحية والقابلية للشركة الحبية مع إلهنا الكريم.  فيا للعجب أن نتمسك بمثل هذه الأمور مع علمنا بزوالها، ونفرِّط في النصيب الصالح الذي لا يُنزع!!
وإن أضفنا معنى اسم “أخنوخ”، وهو “مكرَّس”، تكتمل الصورة؛ لقد أصبح يتعامل مع الأمور على اعتبار أنه يخص الله وحده دون سواه.  لقد ترك الزائل ليمسك بالباقي، ونعم النصيب.

التقرير
يقولون“العبرة بالنهاية“؛ إذًا فلنسمع في الختام تقريرًا إلهيًا عن هذا الرجل: «بِالإِيمَانِ نُقِلَ أَخْنُوخُ لِكَيْ لاَ يَرَى الْمَوْتَ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ نَقَلَهُ. إِذْ قَبْلَ نَقْلِهِ شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ» (عب11: 5).  إنه “لم يرَ الموت”، لم يواجه ملك الأهوال ولا لثانية واحدة، أُعفي من السير في وادي ظل الموت!  والله نفسه هو من “نَقَلَه”، لم يوكل مهمة “توصيل” صديقه المقرَّب لغيره، بل كما سارا معًا على هذه الأرض، رافقه إلى رحلة السماء.  وإن نسينا ما سبق، يكفي أخنوخ شرفًا هذا القول الذي يلمع أكثر من كل ذهب وحجارة كريمة «شُهِدَ لَهُ بِأَنَّهُ قَدْ أَرْضَى اللهَ».  لقد نال أسمى شهادة يمكن أن ينالها مؤمن: رضا الله.  فهل نغار للحسنى؟!  ليتنا نفعل!!
وإلى لقاء قريب مع صديق آخر من أصدقاء الله.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com