“ما هي طبيعة العلاقة بينك وبين الله؟ كيف تصفها؟ ماذا تعتبرها؟ ما تأثيرها على حياتك اليومية؟”
ما أهم إجابة هذه الأسئلة! فإجابتها الصادقة والحقيقية تشكِّل الحياة كلها، تحكم على مسارها وتحدِّد نهايتها.
فما هو ردَّك قارئي العزيز على هذه الأسئلة؟
أقصد ردك الذي ترد به على نفسك في لحظة إدراكٍ واعٍ وصفاء ذهني وصدق مع النفس.
تعدَّدت الإجابات
تتباين ردود الناس على مثل هذه الاسئلة بشكل واسع:
فهناك من لا يرى الله بالأساس، سواء جاهر بذلك أم لا!! وهناك من يعتبره عدوًا يطَارَد، ومن يراه مستبدًا يظلم. وما أكثر الأفكار السلبية عن الله والتي نتجت من محاولات الشيطان الدؤوبة لتشويه صورة الله في أذهان الناس.
وحتى من لم يروه بصورة سلبية مطلقة، كالأمثلة السابق ذكرها، قد يرى الجانب الإيجابي بشكل مغلوط أو محدود.
البعض قال إنها علاقة المخلوق بالخالق. والأمر كذلك. فقد أبدع الله في خليقته بصفة عامة، وفوق الكل استودع كل فنِّه في الإنسان، الذي اعتبره الله رأس الخليقة، فأخرج هذه التحفة الرائعة: الكيان الإنساني المتميز، روحًا ونفسًا وجسدًا، ذلك الكيان الذي لم يستطِع أحد أن يسبر أغواره إلى الآن. لكن الغالبية تعتبر هذه العلاقة أمرًا في الماضي وكفى!
والكثيرون يرونها علاقة الخاطئ بالقدوس. منهم من يخطئ فهم هذه الحقيقة، فيرى فيها إلهًا يقف بالمرصاد منتظرًا خطأ فريسته ليصبّ عليها جام غضبه. ويفوتهم أنّ الله القدوس نظر إلى هذا الخاطئ نظرة الحب والرحمة؛ فدبَّر له حلاً لمعضلته، حلاً التقى فيه الرحمة والحق، البر والسلام؛ بواسطة صليب المسيح، ليغيِّر الحال مع هذا الخاطئ إذ يخلقه خليقة جديدة.
وهناك من يراها علاقة الضعيف بالقوي. وهذا أيضًا صواب يمكن أن يُساء فهمه. فما أبأس إنسان يعتقد أنه لكون الأمر كذلك، فهو مغلوب على أمره أمام الله القوي الذي يقول ولا أحد يرده، وإذ يضفي عدو الخير على فكر هذا الإنسان أن الله القوي هذا غير مبالٍ به، ولا يهمه إلا تتميم ما يريد، تبدأ شكاية الظلم والقهر. أما الحقيقة، التي اختبرها الذين عرفوا محبة الله المغيِّرة، فهي أن الله يُسَر أن يوظف قوته هذه لصالح أحبائه، فتكفيهم نعمته لأن قوته في الضعف تكمل.
ومنا ما أكثر من يراها علاقة المحتاج بالغني، أو علاقة المُتكِل بالمُتَكَل؛ والأمر بالحقيقة كذلك. فمع عمق الاحتياج لا نجد سواه، ومع مر الزمان نتعلم أنه حتى أمام أصغر احتياجاتنا الروحية والنفسية والجسدية ليس كفوًا لها عداه. لكن الكثيرين ترجموا هذه العلاقة بسطحية شديدة؛ فصاروا لا يأتون إلى الله إلا طالبين، راجين، محتاجين؛ بغضِّ النظر عن كون علاقتهم به حقيقية ومستمرة أم لا.
وما أكثر وجهات النظر في كنه تلك العلاقة، ولكن ما أقل من يجيب، صادقًا، إجابات مثل: علاقة ابن بأبيه، محبوب بمُحبِّه، صديق بصديقة. وكلها حقيقة تخبرنا بها كلمة الله بكل وضوح. سأركز هنا على الأخيرة، وقد يكون لنا عودة للأولى يومًا.
هل هذا ممكن؟
لو لم تخبرنا كلمة الله بذلك فما كان أعسر أن نصدِّق أن الله، العظيم الجليل غير المحدود، يمكن أن يصادق هذا المخلوق الضعيف الترابي الناقص. لكنه أراد ذلك وسعى لإتمامه. فمن البداية، «جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً. وَغَرَسَ الرَّبُّ الإِلهُ جَنَّةً فِي عَدْنٍ شَرْقًا، وَوَضَعَ هُنَاكَ آدَمَ الَّذِي جَبَلَهُ» (تك2: 7، 8). لقد خلق آدم بطريقة متميزة عن باقي المخلوقات التي خُلقت كلها بكلمة. ووضعه في مكان رائع مريح بهيج. ويمكننا استنتاج أن الله هو الذي أسمى آدم، بينما أسمى آدم باقي المخلوقات. ويمكن أن نفهم أن الرب كان يأتيه كل صباح، مع هبوب ريح النهار، ويحادثه مباشرة حديثًا مباشرًا وديًا. كما اهتم بأموره الدقيقة إذ رأى وحدته والضغط النفسي الذي سببته له فقرر أن يصنع له معينًا نظيره. من كل ما تقدَّم، نستطيع أن نرى مودة خاصة من الله تجاه هذا المخلوق. وما انطبق على آدم ينطبق على كل واحد منا.
وحتى بعد السقوط، ومن نسل آدم، تمتع الكثيرون من القديسين بهذه العلاقة الحبية. بل إن بعضًا منهم دُعي صراحة “صديقًا لله”:
فنقرأ القول: «سَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ» (تك5: 22، 24)، والتعبير “سار مع” هنا يعني الرفقة المستمرة في توافق وانسجام، و«هل يسير اثنان معًا إن لم يتواعدا؟» (عا3:3). لقد تحادثا في أمور كثيرة، حتى أن أخنوخ، مما علمه من حديث الخل للخليل، تنبأ في يومه عن أمور تبعد عنه آلاف السنين (يه 14).
كما دُعي إبراهيم صراحة «خليل (صديق) الله»، واستمر اسمه مقترنًا بهذا الامتياز الرائع (يع2: 23؛ 2أخ20: 7 إش 41: 8). ولم تكن مجرد تسمية، بل فعلاً، إذ كان الله يسر بأن يطلع صديقه على فكره، بل ويقبل مناقشته له فيه (تك18: 17-33).
وعن موسى نقرأ «وَيُكَلِّمُ الرَّبُّ مُوسَى وَجْهًا لِوَجْهٍ، كَمَا يُكَلِّمُ الرَّجُلُ صَاحِبَهُ» (خر33: 11). ويكفي متابعة الحوارات التي جرت بين الله وموسى لندرك عمق ودقة هذا التعبير: “كما يُكلِّم الرجل صاحبه”.
في كل الكتاب يمكننا أن نسمع الصوت العذب «وَلَذَّاتِي مَعَ بَنِي آدَمَ» (أم8: 31). بل يتوج هذا الفكر القول الرائع من فم السيد الكريم «لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا (مع أنه شرف أن نكون عبيد الله الحي)، لأَنَّ الْعَبْدَ لاَ يَعْلَمُ مَا يَعْمَلُ سَيِّدُهُ، لكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ (أصدقاء حسب ترجمة داربي) لأَنِّي أَعْلَمْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي» (يو15: 15)، وما أروع ما أخبر تلاميذه به!
يا لروعتها!
يحتاج الإنسان بطبيعته لوجود أصدقاء بالقرب منه، حتى أن الحرمان منهم يعتبر من أعمق الآلام (مز38: 11؛ 88: 11). على أن الكتاب يحذِّر من سوء اختيارهم (1كو15: 33)، أو من الإفراط في البحث عنهم فيقول «اَلْمُكْثِرُ الأَصْحَابِ يُخْرِبُ نَفْسَهُ»، لكنه سرعان ما يردف لافتًا أنظارنا «وَلكِنْ يُوجَدْ مُحِبٌّ (صديق) أَلْزَقُ مِنَ الأَخِ» (أم18: 24). والتعبيران اللذان استُخدما في هذا العدد الواحد يتباينان كثيرًا؛ فالأول “الأصحاب” يعني مجرد رفقة في المكان فحسب، بالمفهوم السطحي، مجرد “ونس” بالعامية. بينما الكلمة الثانية “محب” والتي تُترجَم أيضًا “صديق” ففيها المشاعر العميقة والحس العالي والاستعداد للبذل والعطاء. ومن يكون المحب الألزق من الأخ الحقيقي إلا هذا الإله الصالح، والذي اقترب من الإنسان الضعيف وارتضى أن يصير إنسانًا؟! ذاك الذي بكى لدموع أحبائه متفاعلاً، ثم مد يد العون لهم مقتدرًا (يو11). إنه القريب من أحبائه في الوديان وفي الجبال، في المراعي وفي الصحاري، في القصور والسجون، بل حتى في آتون النار وجب الأسود. إنه لقديسيه أقرب حتى من الهواء الذي يتنفسونه.
ثم اسمع ما يقوله الكتاب عن الصديق الحقيقي «اَلصَّدِيقُ يُحِبُّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، أَمَّا الأَخُ فَلِلشِّدَّةِ يُولَدُ» (أم17: 17). وإلهنا المبارك هو المتاح كل الوقت، كل اليوم، كل الحياة، أما عن وقت الشدة فـ«في الضيقات وُجِدَ شديدًا» (مز46: 1). تفتخر بعض الشركات بأنها متاحة دائمًا (24 / 7)، فهل صَدَقَتْ؟! أتذكَّر صيدلية قريبة من بيتنا تكتب مفتخرة على مطبوعاتها “الصيدلية الوحيدة التي لم تغلق أبوابها لمدة ... سنة”، عندما اشتدت الأحداث الماضية أغلقت أبوابها وامتنعت عن توصيل الدواء!! أما ربي وإلهي، فهو متاح كل الوقت، من البطن إلى الشيب يحمل، وفي الليل قبل النهار يعتني، بل وإن نامت عيون أصدقائه فهو عليهم ساهر.
قد يسدي لي الصديق البشري مشورة حمقاء فيورطني، أو يقف عاجزًا أمام احتياجي فيحبطني، أو أفقد يومًا مشاعره وتعاطفه فيخذلني. أما هذا الصديق الإلهي فهو الحكيم، القدير، المحب. فلن أضل وهو معي، ولن أعجز بقربه، وترتاح رأسي على صدره.
ثم من من الأصدقاء يمكن أن يُقال عنه «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ (وأيضًا تترجم أصدقائه)» (يو15: 13)؟! بالقطع لا أحد.
هل صديق مثله في ذي الربوع؟! لا ليس مثله!
فهل لك نصيب في تلك العلاقة صديقي العزيز؟! لقد دفع ثمنها غاليًا، فهيا اقبله مخلِّصًا وربًا.. وصديقًا!!
ما يفعله أصدقاء الله
في سلسلتنا هذه سنحاول أن نرسم صورة عملية متكاملة لهذه العلاقة الجميلة، من خلال الآيات التي تصف مباشرة علاقة الصداقة مع الله في الشخصيات الثلاث السابقة الذكر. وفيها سنرى:
أخنوخ سائرًا مع الله
إبراهيم سائرًا أمام الله
موسى سائرًا وراء الله
فإلى عدد قريب بمشيئة الله لنستكمل حديثنا.