المشهد الثاني: عند البيت الأبعد في أورشليم
(2صم15: 17-22)
«وَخَرَجَ الْمَلِكُ وَكُلُّ الشَّعْبِ فِي أَثَرِهِ وَوَقَفُوا عَُِنْدَ الْبَيْتِ الأَبْعَدِ. وَجَمِيعُ عَبِيدِهِ كَانُوا يَعْبُرُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ جَمِيعِ الْجَلاَّدِينَ وَالسُّعَاةِ وَجَمِيعُ الْجَتِّيِّينَ، سِتُّ مِئَةِ رَجُلٍ أَتُوا وَرَاءَهُ مِنْ جَتَّ، وَكَانُوا يَعْبُرُونَ بَيْنَ يَدَيِ الْمَلِكِ» (2صم15: 17، 18).
”الْبَيْتِ الأَبْعَدِ“(The Remote House or The Last House) هو آخر القصور الملكية التي كانت تقطنها زوجات وأبناء وسراري داود في أورشليم. ويبدو أنه كان آخر المنازل التي مرَّ عليها ليأخذ منها عائلته وذويه، وكان يقع في ضاحية على أطراف المدينة أورشليم.
تقدّم ركب داود والذين قرروا أن يهربوا معه، وعند ”الْبَيْتِ الأَبْعَدِ“ توقف الركب، وتمهل داود لفترة، ليُشرف بنفسه على عبور بعض الذين معه إلى خارج أورشليم، وليُشجع الآخرين على الرجوع مِن وراءه، مُمتحنًا دوافعهم وصدق محبتهم، لكي لا يكون خيرهم كأنه على سبيل الاضطرار، بل على سبيل الاختيار (قارن من فضلك راعوث 1: 6-8؛ فليمون 14)، ولكي يعفيهم مِن الشّدة والضيق، ومِن الأخطار والمضايقات التي سوف يتعرضون لها في حالة تبعيته.
كما أنه – باتضاع التائب الحقيقي – ينحني تحت التأديب الإلهي، ويرفض إلا أن يكون وحده في الأحزان، وكأن لسان حاله، كما قال هو أيضًا في موقف لاحق: «أَ لَسْتُ أَنَا هُوَ الَّذِي أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الشَّعْبِ؟ وَأَنَا هُوَ الَّذِي أَخْطَأَ وَأَسَاءَ، وَأَمَّا هَؤُلاَءِ الْخِرَافُ فَمَاذَا عَمِلُوا؟ فَأَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهِي لِتَكُنْ يَدُكَ عَلَيَّ وَعَلَى بَيْتِ أَبِي لاَ عَلَى شَعْبِكَ لِضَرْبِهِمْ» (1أخ21: 17).
وأتاح داود لحرسه الخاص - الْجَلاَّدِينَ وَالسُّعَاةِ وَالْجَتِّيِّينَ – فرصة فك ارتباطهم بالنزاع العائلي الناشب في أسرته. كان قد تيسر له في شبابه المُبكر أن يختبر الصداقة الحقيقية مع يوناثان، وها هو الآن يُبدي رغبته في إخلاء أصدقائه لئلا يورطهم في عواقب أفعاله الخاطئة. ولكن رجاله ظلوا معه، والتصقوا به، بدافع مِن محبتهم واحترامهم وتكريسهم له.
ومما يُلفت النظر أنه بينما «اسْتَرَقَ أَبْشَالُومُ قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ» (2صم15: 6)، فإن الجزء الأكبر مِن المجموعة الموالية - الوفيّة والمُخلصة – لداود، والتي قررت وصمَّمت أن تصحبه في هروبه من أورشليم، كانوا مِن الأُمَم الذين كانوا قَبْلاً «بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ» (أف2: 12). ويا له مِن رمز جميل للرب يسوع المسيح، الذي في يوم احتقار ورفض أُمّته له، فإن نعمة الله اختارت الكثيرين مِن الأمم، الذين لم يخجلوا بصليبه ولا بموته، بل – طواعية واختيارًا، وبكل سرور وسماحة القلب – التصقوا به، وتبعوه في زمان رفضه وإهانته مِن شعبه.
وباعتبار أن داود في هذا الموقف يرمز إلى الرب يسوع المسيح في زمان رفضه واحتقاره من أُمَّتِهِ، لنا هنا درسان من الشخصيات التي تعامل معها داود عند ”الْبَيْتِ الأَبْعَدِ“:
الدرس الأول: الْجَلاَّدُون وَالسُّعَاة وَالْجَتِّيِّيون ... وقوة تأثير الرب ونعمته.
الدرس الثاني: إِتَّاي الْجَتِّيِّ ... وروعة تبعية الرب وخدمته.
أو بكلمات أخرى يُمكننا أن نقول:
أولاً: نعمة الله المُطلقة مُتجهة إلى اليهود والأمم بالسوية.
ثانيًا: التكريس والاتحاد بالرب ضرورة حتمية.
الدرس الأول: الْجَلاَّدُون وَالسُّعَاة وَالْجَتِّيِّيون ... وقوة تأثير الرب ونعمته
نعمة الله المُطلقة مُتجهة إلى اليهود والأمم بالسوية
العبارة ”الْجَلاَّدُون وَالسُّعَاة“ في العبرية وكذلك في الإنجليزية هي ”الكريتيون والفاليتيون“ أو ”الكريتيون والفاليثيون“ (قارن من فضلك حزقيال 25: 16؛ صفنيا 2: 5). وهم يُذكرون سابقًا في 2صموئيل 8: 18، ويُذكرون أيضًا لاحقًا في 2صموئيل 20: 7، 23. لقد كانوا أممًا غرباء عن رعوية إسرائيل ولم يكونوا من شعب الله. ومن الأرجح أنهم كانوا الحرس الملكي الخاص للملك داود، وكانت مهمتهم الأساسية الدفاع عن الملك (قارن مِن فضلك 2صموئيل 21: 19). ولقد أصبح قائدهم فيما بعد ”بَنَايَا بْنُ يَهُويَادَاعَ“ (2صم8: 18؛ 20: 23؛ 1مل1: 44).
أما ”الْجَتِّيِّيون“ (The Gittites)، فهم سكان مدينة ”جَتّ“ وهي مدينة ”جُلْيَاتَ الْجَتِّيَّ“ (2صم21: 19). وهؤلاء لم يكونوا يتبعون داود حديثًا، فيبدوا أنهم قد ارتبطوا به، وألقوا قرعتهم معه، عندما كان غريبًا مختبئًا من شاول في أرض الفلسطينيين، ثم تبعوه فيما بعد عندما رجع إلى أرض إسرائيل «سِتُّ مِئَةِ رَجُلٍ أَتُوا وَرَاءَهُ مِنْ جَتَّ» (2صم15: 18). لقد تبعوا داود ربما بسبب جاذبيته الشخصية، ولأنهم آمنوا بإلهه (قارن من فضلك راعوث 1: 6-18).
وهكذا فأثناء تمرد الشعب، فإن ملك إسرائيل الحقيقي يُصبح مرفوضًا ومرذولاً وغريبًا عن شعبه. ولكن كم كانت له الكرامة، وكم كان ثمينًا وغاليًا في نظر هؤلاء الغرباء الذين ارتبطوا بمسيح الرب، والذين لم يعد لأحد سلطانٌ عليهم غير داود؛ مسيح الرب، الذي أصبح بالنسبة لهم كالبوصلة التي توجّههم مِن ذلك الوقت فصاعدًا.
كل هذا يُحدثنا عن المسيح؛ المرفوض مِن إسرائيل في الوقت الحاضر، والذي أصبح في مركز الجاذبية، وغرض الولاء، والرأس والرئيس، بالنسبة لنا نحن الأُمَم الذين آمنا به، والذين يصفنا الرسول بولس بالقول: «إنَّكُمْ كُنْتُمْ ... بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ، وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ. وَلَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ، صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الاثْنَيْنِ وَاحِدًا، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَانًا وَاحِدًا جَدِيدًا، صَانِعاً سَلاَمًا، وَيُصَالِحَ الاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ ... فَلَسْتُمْ إِذًا بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ» (أف2: 11-19). فيا لنعمة إلهنا! يا لغناها! يا لسموها!
”لقد أَتَينا إِلَيهِ، بِاعْتِبَارِهِ الحَجَرَ الحَيَّ الَّذِي رَفَضَهُ النَّاسُ، وَاخْتَارَهُ اللهُ، وَهُوَ ثَمِينٌ فِي نَظَرِهِ ... وهَذَا الْحَجَرَ هُوَ ثَمِينٌ فِي نَظَرِنا نحن أيضًا الْمُؤْمِنِينَ بِهِ“ (1بط2: 4-7 - ترجمة إنجيل الحياة). وما عدنا نجد الآمان إلا في ذاك المجيد الذي هو الآن مرفوض من العالم، ولكننا نعرف أن زمان رفضه سيبلغ نهايته قريبًا، وأن هؤلاء الذين يُشاركونه في آلامه وضيقاته، سيُشاركونه في مجده وملكه.
نعم، إن الرب يسوع المسيح المجيد، الذي لا يزال يحمل صفة الغريب والمُحتقر مِن العالم، بل ومِن أمته وشعبه القديم، هو مركز كل شيء لنا، وهو النموذج الذي نتبعه، وهو غرض حديثنا. ونحن نُسر أن نُحيط به، وأن ننجذب إليه. وهو غرض اجتماعاتنا وشهادتنا. ويا لها مِن شهادة مباركة!
(يتبع)