تأملنا فيما سبق في الأحداث التي مهدت لثورة أَبْشَالُوم على داود أبيه، وتحدثنا عن بعض الدروس الأدبية الهامة التي تعلمناها من فترة ما قبل الثورة، فذكرنا:
أولاً: حذار من النير المتخالف ...
ثانيًا: الخطية لها عقاب ... والزرع له حصاد ...
ثالثًا: خطورة تعدي وصايا الرب ...
رابعًا: بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ ...
خامسًا: حذار من الطلاء الديني الخادع ... ومن الكاريزما الشخصية المُزيفة ...
وننتقل في هذا العدد إلى التأمل في أحداث الثورة نفسها، والتي بدأت بإتيان الخبر إلى داود «إِنَّ قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ صَارَتْ وَرَاءَ أَبْشَالُومَ» (2صم15: 13)، وحتى المعركة التي قُتل فيها أَبْشَالُوم (2صم18: 1-18). ويا لها من رحلة آلام ودموع ومعاناة، كان على داود وعلى رجاله الأمناء أن يقطعوها! هذه الرحلة بدأت من أورشليم وانتهت بالوصول إلى البرية. وطبقًا للترتيب الزمني والجغرافي لأحداثها، وطبقًا للأماكن التي توقفت فيها الرحلة، نستطيع أن نقسم هذه الرحلة إلى تسع محطات أو تسعة مشاهد:
المشهد الأول: في القصر الملكي في أورشليم (2صم15: 13-16).
المشهد الثاني: عند البيت الأبعد في أورشليم (2صم15: 17-22).
المشهد الثالث: في وادي قدرون (2صم15: 23-29).
المشهد الرابع: في مصعد جبل الزيتون (2صم15: 30، 31).
المشهد الخامس: على قمة جبل الزيتون (2صم15: 32-37).
المشهد السادس: قليلاً عن قمة جبل الزيتون (2صم16: 1-4).
المشهد السابع: في بَحُورِيم (2صم16: 5-14).
المشهد الثامن: في أورشليم مرة أخرى (2صم16: 15 - 17: 23).
المشهد التاسع: في مَحَنَايِم (2صم17: 24-29).
ودعونا – أيها الأحباء – نتوقف لنتعلَّم من كل مشهد من هذه المشاهد، ومن الشخصيات التي تعامل معها داود في كل محطة من هذه المحطات؛ سواء كانوا أصدقاء أمناء أو غير أمناء، وهو ما أظهرته المحنة التي مرَّ بها داود.
المشهد الأول: في القصر الملكي في أورشليم
(2صم15: 13-16)
لم يكن داود قد تجاوز عامه الستين إلا بسنوات قليلة، ولم يكن ابنه سليمان قد جاوز سن العاشرة بكثير، عندما بدأت السحب السوداء تتجمع، ثم انفجرت العاصفة وهبَّت فوق رأسه، وبدأت أحداث الفتنة عندما أَتَى مُخَبِّرٌ إِلَى دَاوُدَ بتقرير – لم يكن داود متلهفًا لسماعه، وإن كان يتوقعه – وكان فحواه: «إِنَّ قُلُوبَ رِجَالِ إِسْرَائِيلَ صَارَتْ وَرَاءَ أَبْشَالُومَ» (2صم15: 13). ولم يشك داود أو يجادل فيما جاء في التقرير. وبالرغم من أن التقرير لم يتضمن أن أحدًا سمع صوت البوق قائلاً: «قَدْ مَلَكَ أَبْشَالُومُ فِي حَبْرُونَ» (2صم15: 10)، ولا أن أبشالوم ورجاله في طريقهم إلى أورشليم، إلا أن داود أصدر أوامره لمن معه بالإسراع بالهرب وترك أورشليم!
وبالرغم من أن رجال داود الأوفياء كانوا على أهبة الاستعداد لإظهار ولائهم وإخلاصهم وتكريسهم العميق لسَيِّدهم، وللدفاع عنه وعن عرشه، وعن أورشليم، ضد هجوم أبشالوم «فَقَالَ عَبِيدُ الْمَلِكِ لِلْمَلِكِ: حَسَبَ كُلِّ مَا يَخْتَارُهُ سَيِّدُنَا الْمَلِكُ نَحْنُ عَبِيدُهُ» (2صم15: 15)، بالرغم من هذا نُفاجأ بأن داود الذي – في شبابه المُبكر – واجه بمفرده الأسد والدب، والذي صمم على مواجهة جليات الجبار، عندما لم يكن أحد آخر راغب في أن يفعل ذلك، ولم يثنه عن ذلك تقريع أخيه الكبير وقسوته في التعيير والتعبير، ولم يتزحزح قط عما قرره في قلبه، والذي ترنم فيما بعد قائلاً: «اَلرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي، مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي، مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ ... إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذَلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ» (مز27: 1-3)، داود هذا نراه هنا لا يتردد في أن يهرب بدلاً من أن يُحارب، مُتغاضيًا عن استعداد رجاله لتلقي أوامره، وتنفيذها كيفما كانت! وبدلاً من أن يصدر أوامره لرجاله بالاستعداد للمعركة والدفاع عن أورشليم، إذ به يصدر أوامره للاستعداد بالإسراع بالهرب وترك أورشليم «فَخَرَجَ الْمَلِكُ وَجَمِيعُ بَيْتِهِ وَرَاءَهُ. وَتَرَكَ الْمَلِكُ عَشَرَ نِسَاءٍ سَرَارِيَّ لِحِفْظِ الْبَيْتِ» (2صم15: 16).
ولدينا من موقف داود هذا بعض الدروس الأدبية الهامة:
أولاً: «انْظُرْ الَى الْخِدْمَةِ الَّتِي قَبِلْتَهَا فِي الرَّبِّ لِكَيْ تُتَمِّمَهَا» (كو4: 17) ...
الأمر الأول الذي يجب أن نفهمه أن هروب داود من أورشليم لم يكن يعني تنحيه أو تنازله عن العرش، وإلا ما كان قد «تَرَكَ عَشَرَ نِسَاءٍ سَرَارِيَّ لِحِفْظِ الْبَيْتِ». إنه يترك المدينة، ولكنه لا يتنحى عن مُلكه. إن أبشالوم قد يستولي على المُلك، ويضع يده على العرش، ولكن ليس لأن داود قد استقال أو تنحى أو تخلى. والسَرَارِيّ لحفظ البيت رمزٌ لاستمرار سيادة داود ومُلكه على إسرائيل. إنه فقط يتراجع ليتأمل الموقف، ويُعيد الحسابات، وينتظر تدخل الرب في الوقت المناسب، وبالطريقة المناسبة، وهو ما عبَّر عنه فيما بعد لِصَادُوقَ: «فَقَالَ الْمَلِكُ لِصَادُوقَ: أَرْجِعْ تَابُوتَ اللَّهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُرْجِعُنِي وَيُرِينِي إِيَّاهُ وَمَسْكَنَهُ. وَإِنْ قَالَ: إِنِّي لَمْ أُسَرَّ بِكَ، فَهَأَنَذَا، فَلْيَفْعَلْ بِي حَسَبَمَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ» (2صم15: 25، 26).
أيها الأحباء: إن مَن اختاره الرب وأقامه لِِخدمتة، وأرسله لإتمامها، ليس له الحرية ولا الحق أن يستعفي أو يتنحى أو يتوقف في منتصف الطريق، ولا أن يختار الطريقة ولا التوقيت لإنهاء هذه الخدمة، بل لا بد له من مواصلة الركض حتى نهاية الشوط (1مل19؛ يون1). وداود – الرجل الذي حسب قلب الله – الذي انتخبه الرب لنفسه، وأمره أن يترأس على شعبه (1صم13: 14)، والذي أخذه الرب من حظائر الغنم، ومن خلف المرضعات أتى به، ليرعى يعقوب شعبه، وإسرائيل ميراثه (مز78: 70، 71)؛ داود هذا لم يكن له الحق في التنحي وترك خدمته.
إن هذا يُذكّرني بالرسول بولس المغبوط، الذي قال في يومه: «الرُّوحَ الْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقًا وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي. وَلَكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ، وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي، حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ، لأَشْهَدَ بِبِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أع20: 23-25). وقد حرض القديسين في كولوسي لكي يُنبهوا ”أَرْخِبُّس“ ويقولوا له: «انْظُرْ الَى الْخِدْمَةِ الَّتِي قَبِلْتَهَا فِي الرَّبِّ لِكَيْ تُتَمِّمَهَا» (كو4: 17).
ولكن هناك عدة أسباب تُبرر لنا قرار داود بالهروب من أورشليم بالرغم من عدم تخليه عن عرشه وعن مسؤولياته سنتناولها الآن.
ثانيًا: «تَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ» (1بط5: 6) ...
لقد أدرك داود أن السيف الذي خرج عليه لم يكن سيف أبشالوم؛ لقد كان سيف الله نفسه، لأنه هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: «الآنَ لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ ... هَأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ» (2صم12: 10، 11). ومهما كانت الأسباب الظاهرية أو البشرية، فما هي إلا أسباب ثانوية، أدرك داود اليد الحقيقية خلفها جميعًا؛ يد الله!
وهكذا فهم داود أن عصيان أبشالوم هو جزء من التأديب الإلهي عليه. فهل يحتقر تأديب الرب ليُقاوم هذه الثورة؟! إنه إذا قاوم هذه الفتنة فكأنه يُقاوم الله نفسه! وهكذا يخضع داود لله (يع4: 7)، ويترك أورشليم، ويحني رأسه خاضعًا للتأديب الإلهي، مُتدربًا به، منتظرًا تدخل الرب في الأمر أخيرًا، مُدركًا أن «كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ» (عب12: 11)، وراجيًا تتميم وعد الرب «تَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ» (1بط5: 6).
ثالثًا: «لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا» (في2: 4) ...
لم يكن هروب داود جُبنًا من جانبه؛ إنه الإيمان. والإيمان لا يتبع طريق الإنسان الطبيعي الذي يختاره. ومن في تلك اللحظة لا يُقاوم الخيانة والمؤامرة من رفاقه، بجيش مُدرَّب، ورجال جبابرة بأس، ويتحمل صعوبات الحرب؟! ومَن الذي لا يلجأ على الأقل إلى الأسلحة، طالما كانت أورشليم كلها مع الملك الشرعي؟
إن أغلب القادة الذين يواجهون مأزقًا كالذي واجهه داود، نجدهم نازعين إلى قمع التمرد بالقوة، وهم إما غاضبون أو خائفون. ولو كانوا في مكان داود لربما حاولوا القصاص من المتمردين عليهم حتى ولو سالت الدماء أنهارًا؛ دماء الأعداء، ودماء الأوفياء! ولكن لأن داود – الرجل الذي حسب قلب الله – لا يفكر في نفسه، بل يفكر في شعب الرب، وفي أورشليم مدينة الرب، ويرغب في أن يعفيهما من التجربة أو الخراب، حيث أن المقاومة من جانبه ستجلب عليهما ذلك بالتأكيد. وهو لا يشاء أن تتحول أورشليم ساحة حرب، وهي مدينة الله التي بناها داود بيده، فأي تحرك لاستعادة عرشه كان ينبغي ألا يورّط المدينة أو أهلها ما دام هو المذنب، وخاصة أننا نفهم من مزمور 51 - الذي كتبه داود إبان هذه الفترة – أن أسوار أورشليم لم تكن كاملة في هذا الوقت، مما يجعل الدفاع عنها صعبًا جدًا «أَحْسِنْ بِرِضَاكَ إِلَى صِهْيَوْنَ. ابْنِ أَسْوَارَ أُورُشَلِيمَ» (مز51: 18). وهكذا قرر داود أن يحتمل بصبر يد الله في ما كان جاريًا آنذاك، ويُفضل الهروب على المقاومة.
رابعًا: «ليْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ، وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَلْ يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟» (عد23: 19) ...
«فَخَرَجَ الْمَلِكُ وَجَمِيعُ بَيْتِهِ وَرَاءَهُ. وَتَرَكَ الْمَلِكُ عَشَرَ نِسَاءٍ سَرَارِيَّ لِحِفْظِ الْبَيْتِ» (2صم15: 16). ظاهريًا تصرَّف داود بحرية تامة عندما رتَّب هذا الأمر المنزلي لحفظ القصر الملكي في ترتيب ونظافة حتى عودته مرة ثانية. ولكن في الحقيقة كانت يد الرب الصائبة المتحكمة والتي لا تُرَدّ وراء هذا الترتيب، لكي يُتمم الرب ما سبق ونطق به.
لقد كان جزء من القضاء الموَّقع على داود «هَكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هَأَنَذَا أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ، وَآخُذُ نِسَاءَكَ أَمَامَ عَيْنَيْكَ وَأُعْطِيهِنَّ لِقَرِيبِكَ، فَيَضْطَجِعُ مَعَ نِسَائِكَ فِي عَيْنِ هَذِهِ الشَّمْسِ. لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ» (2صم12: 11، 12). وتنفيذ هذا الحكم تمَّ عندما «نَصَبُوا لأَبْشَالُومَ الْخَيْمَةَ عَلَى السَّطْحِ، وَدَخَلَ أَبْشَالُومُ إِلَى سَرَارِيِّ أَبِيهِ أَمَامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ» (2صم16: 22).
فمن جانبه ترك داود سراريه لغرض حفظ البيت، ومن الجانب الإلهي كان ترك السراري في البيت لغرض تتميم كلمة الله التي لا يمكن أن تسقط أبدًا (قارن من فضلك يش6: 26 مع 1مل16: 34). لأن الذي يزرعه الإنسان إياه يحصد أيضًا.
أيها الأحباء: إن الله ليس فقط يصنع الأحداث، ولكنه أيضًا يتحكم في الأشخاص وفي أفعالهم التي هي تحت التحكم والسيطرة المباشرة له تعالى «لأَنَّ مِنْهُ وَبِهِ وَلَهُ كُلَّ الأَشْيَاءِ. لَهُ الْمَجْدُ إِلَى الأَبَدِ. آمِينَ» (رو11: 36). وطبعًا ليس معنى هذا أن الله هو صانع الشر، أو أن الإنسان غير مسؤول عن تصرفاته. فالله بار في كل طرقه، والإنسان مسؤول عن كل تصرفاته. ولقد تصرَّف داود بحرية كاملة وبإرادة حرة، عندما ترك سراريه في البيت، ومع ذلك فإن الله كان مسيطرًا على الأحداث ليُتمم غرضه.
ولنا ملاحظة أخيرة عن قرار داود بالهروب من أورشليم، بالرغم من عدم تخليه عن عرشه وعن مسؤولياته. كان أبشالوم راغبًا في قتل داود أبيه، وقتل آخرين إذا لزم الأمر. ولكن داود لم يكن راغبًا في قتل أبشالوم. فكلنا نعرف كم كان داود يُحبّ أبشالوم ابنه. وهو يتفادى الدخول في معركة معه، لأنه لا يُريد أن يُقتل ابنه المارد والمعاند، بل إنه يُشفق عليه (2صم18: 5). فلماذا يبدأ معركة هو ليس راغبًا في أن يكسبها؟! وهكذا اختار داود الهرب بدلاً من الحرب، ولم يدخل معركة مع ابنه إلا بعد أن أجبره ابنه على ذلك. وهذا ما سنراه فيما بعد.