عدد رقم 6 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
مؤتي الأغاني في الليل (أي10:35)  
نعم ترنَّمت الزوجة!

   أُصدِّق أنه «عند المساء يبيتُ البكاء وفي الصباح ترنم» (مز5:30).  فالمساء يتكلَّم عن الأحزان والتجارب والأزمات، والصباح يتكلَّم عن الانفراجة والراحة والبركات.  ولكني لم أكن أتوقع أنه حتى وسط أحزان الليل الثقيلة يمكن للمؤمن أن يترنم ويجد عزاءه وسلامه وهدوءه وفرحه في الرب، بعيدًا عن الظروف التي يمكن أن تسحق أي إنسان يسلك بالعيان وليس بالإيمان.  وذلك ليس لبطولة في الإنسان وإنما بعمل إلهي في النفس، هو في الحقيقة معجزة بكل المقاييس أقوى من أي معجزة شفاء لمريض عانى طويلاً.  وكنت أتساءل: هل بالحقيقة يستطيع الرب الذي «يُحصي عدد الكواكب ويدعو كلها بأسماء»، أن «يشفي منكسري القلوب ويجبر كسرهم» (مز3:147،4)؟! هذا ما حدث أمام عيوننا عندما ترنمت الزوجة الصغيرة الأرملة في الوقت الذي فيه ينوح ويندب ويرفض ويطلب الموت لنفسه، غيرها، ممن لا يعرفون عظمة إلهنا، أو من لهم آلهة لا تضمن لمن يعبدونها غير اللا مضمون والقدرية والغيب والشكوك، معتمدة علي جهاد وصلاح أعمال الشخص ذاته في تحديد مستقبله الأبدي.  هؤلاء لا رجاء لهم.  

   نعم ترنمت الزوجة في مشهد الموت والفراق والألم والدموع، حيث كان يعتصرنا جميعًا الشعور بالحزن العميق، نحن الذين كنا بصحبتها في الطريق لمدفن زوجها الشاب الوديع الرقيق اللطيف (جون)، والذي احتل مكانًا كبيرًا في قلوبنا، وترك أثرًا عميقًا لدى كل من احتك به.  لقد كانت مختلفة في أحزانها.  ورغم الدموع التي فاضت بها العيون، فقد ملأت الترنيمات الحافلة التي كانت تقلنا لمسافة 400 كيلومترًا في رحلة الوداع الأخيرة، طول الوقت.  ولم يكن هذا هروبًا من الواقع الأليم إلى الوهم، أو من الحقيقة المُرة إلى الخيال، كلا مطلقًا، وإنما هو الإيمان الذي يعرف الله ويتشدد به، ويتقبَّل مشيئته.  وبالحقيقة إن البطولة الروحية لا تظهر في الخدمة والنشاط بقدر ما تظهر في الصبر والاحتمال والتسليم.

   قبيل رحيله بأيام، وفي فترة مرضه القصيرة، حضرا معًا اجتماعًا للصلاة.  وعندما دخلا القاعة كان الحاضرون يرنمون وهم واقفون الترنيمة التي تقول: "عن قريب سوف أمضي إلى موطن الخلود .. حيث لا الدمعُ يسيلُ .. لا ولا الموتُ يسود".  لحظتها شعرتْ الزوجة، كما قالت بعد ذلك، بوخزة ألم شديدة لم تستطع معها الوقوف، فجلست متحيرة متسائلة: سيدي: هل يمكن أن يحدث هذا؟ ونظرتْ إلى زوجها وإذا هو في عالمٍ آخر، يتطلع إلى فوق ووجهه يشرق بلمعان، وقد انطبعت عليه ابتسامة هادئة.

   نعم لقد ترنمت الزوجة في مشهد الوداع الأخير، وهي ترفع عينيها إلى فوق وترى، خلال ستار من الدموع، من أحبته وارتبطت به على الأرض، في حضن من أحبه وارتبط به في السماء. 

   إنها تعرف وتوقن بأنه لا الصعاب ولا الضيق ولا العصف الشديد ولا الحزن العميق يقدرون جميعًا أن يغلبوا من وضعت إيمانها ورجاءها فيه، ولا شيء يفصلها عن محبته.  كذلك وثقت أنه لا شيء يحدث بالصدفة أو يخرج عن حدود سيطرته.  فهو بالحكمة يمسك زمام الأمر، وهو الصخر الثابت الذي يبقى كمحط آمال النفس وملجأها، ويتعلق به الإيمان وسط العواصف الكاسحة والأمواج العاتية، لهذا ترنمت: "ليس من صعب أو ضيق لا يغلبه .. ليس من عصف شديد لا يسكته .. ليس  من سؤل  بعيد لا يملكه .. ليس من دمع سكيب لا يمسحه .. إن كان حزننا قد حمل على الصليب فإنه سوف يحملك".

   ثم نظرت للتجربة من خلال مراحم الماضي، وإلى أحجار المعونة عبر السنين فرنمت: "تمر السنين وتفضل أمين ... في وقت الجروح والخوف والطروح ... بنجيلك يا غالي ألمنا يروح".  هذه الزوجة الشابة التي انكسرت بمنطق كل البشر وتحطمت كل أحلامها، عندما فارق الدنيا زوجها العزيز في التاسعة والعشرين من عمره، بعد زواج دام سنتين فقط، في أقصر رحلة مع السرطان رأيتها في حياتي، لم تتعدَ ثلاثة أسابيع!! وكانا معًا مثالاً للحب والوفاق والنجاح الأسري السعيد.
 هذه الزوجة استطاعت أن ترنم من قلبها، مع أحبائها الذين وقفوا بجوارها بكل مشاعر الحب والوفاء، في ساعة الشدة، مُعبرين عن حقيقة الجسد الواحد والإحساس الواحد، وقد استخدمهم الرب عزاءً وعونًا لها في محنتها وكربتها، وكان هذا المنظر أمامنا أقوى من أي عظة، فهذه هي المسيحية العملية وليس مجرد الوعظ النظري
.
 لقد انحنت للغاية وبكت أمام هول التجربة ولكنها لم تشك لحظة في صلاح الله، رغم استجابته لصلاتها، وصلاة الآلاف معها، بما لم تكن تتمناه وبما سبب الإحباط.  وبالطبع فإن أفكاره ليست كأفكارنا ولا طرقه كطرقنا.  فمن عرف فكره أو من صار له مشيرًا؟! لهذا فإنها في بساطة الإيمان الذي يُسلِّم ويستريح، ويخضع ويصبر للحكم الصحيح، استطاعت أن ترنم: "تعلو الحياة بي أو ربما تهوي .. لكنك في قلبي لا تتأثرُ .. في قلبي كما أنت .. لا يعتريك سيدي تغييرٌ البتة .. ستبقى شامخًا في قلبي .. حُبي سندي".  نعم لم يتغير موقفها من قدرته ومحبته وعنايته وحكمته.  فقالت في حديث سُجِّل لها: كان في مقدور الرب أن يصنع معجزة ويشفيه، أو يصنع المعجزة فينا فنحتمل التجربة، وهو في حكمته اختار الاختيار الثاني.  وقد وثقت في صلاح خطته،  فعادت ورنمت: "إنت ليك قصد في حياتي .. ليَّ ضامن إنه يكمل .. إنت راسم  ليَّ سكة وخطة صالحة مش هتفشل".
  هذه الزوجة الضعيفة قد تواضعت وخضعت ووضعت رجاءها في الله الحي الذي يبقى عندما يمضي كل شيء، كما قال المرنم: "إن مضى الأهلُ ستبقى أنت لي تضمني".  وأيضًا: "ستبقى لي يا سيدي .. خلاً على مر الزمان .. ستبقى حُبًا كاملاً بل رائعًا يُحي الكيان .. ستبقى لي خلي الوفي .. طمان قلبي وضامني .. قيثارتي في وحدتي .. ترنيمتي في غربتي .. ففيك لي يا سيدي أنشودةٌ لا تنتهي".  

   إنها تعبد هذا الإله العطوف، الحنان والرحيم، عاضد الساقطين ومُقوِّم المنحنين.  إنه يحول المرارة إلى ترنيمات، والحزن إلى فرح، والظلمة إلى نور.  نعم فهو هو الذي قهر الموت بالقيامة، وهو من سيمهد الصعاب والهضاب، ويضمن المستقبل، فترنمت: "الله أنت خلاصي فأطمئن ... مستقبلي في يدك .. مُؤَمَّنٌ لي عندك .. على الآتي أشكرك ففيك ثقتي".  وأيضًا: "واثق لا أُنسَى منك مهما ضاق بي الزمان".

  ثم عادت لتشهد عن رحمته مُرنمةً رغم الألم والفراق: "ما فارقنيش أبدًا أبدًا إحسانك دا ما فارقنيش .. الرحمة شالتني وما سابتنيش".  لقد عرفت أنه رجاء المساكين وعزاء النائحين وبلسان المتألمين وسلام الخائفين ونور الحائرين وراحة المتعبين، فترنمت: "ما لناش غيرك إنت إلهنا الحي بنترجاك".

   كما أنها عرفت وتيقنت من حقيقة الرجاء وقرب اللقاء، عندما يأتي الرب لاختطافنا، وأن الافتراق إلى حين وسنتقابل مرة أخرى مع الرب في الهواء، وسنسعد معًا طول الأبدية في السماء، حيث لا الدمع يسيل لا ولا الموت يسود.

   إنها لم تكن مُغيَّبة، كما أنها لم تختزل التجربة أو تهرب من الكارثة، بل إنها تعي حجم التجربة وعمق الجرح وألم الفراق وقسوة الشعور بالوحدة والحرمان، لكنها أسندت رأسها الكليل المُتعَب على صدره الحنان، وانفتحت عيناها لترى ذراعه تحيط بها، وصدره يضمها، وشخصه يعتني بها.  نعم إنها قناعة وليست قناعًا، إنه الرجاء في الله الحي الكلي المحبة والحنان.  

   قل لي ماذا تتوقع وكيف تتخيل مستقبل هذه الزوجة الأرملة الصغيرة المؤمنة؟ إنها بإيمانها وثقتها وتثبيت نظرها على الرب بعينيها الدامعتين، قد أجبرته أن يريها ويرينا معها مجده في حياة مختلفة تعكس معية وقدرة وسلطان ومحبة وصلاح وسلام الله الذي يفوق كل عقل، ليس كما تعودناها أو رأيناها من قبل، بل في شكل جديد مُتميِّز، تنطبق عليها الكلمات: «من هذه الطالعة من البرية كأعمدة من دخان، مُعطرة بالمر واللبان وبكل أذرة التاجر» (نش6:3).  وبالحق إن الرب لا يكسر إلا لكي يبارك، ودائمًا إن رأيت شخصًا تفيح منه رائحة عطرة، فاعلم أن ثمة شيء قد كُسر في حياته.  وهذه هي مكافأة الإيمان والتسليم، إنها الثقة التي لها المجازاة العظيمة.

   عزيزي ضع مشكلتك أو تجربتك أمام عينيك وحاول أن تتعامل معها بمفردك، وأنا أضمن لك الانهيار والانكسار والمرار، ولكن إذا نظرت لها من خلال الآب السماوي المحب سترى حجمها الحقيقي، ستراها في بُعدها الأبوي وبُعدها الأبدي، وقتها فقط ستدرك أن هذا السواد القاتم لهو جزء صغير جدًا من لوحة عملاقة جميلة يرسمها مبدع الكون القدير ستلمع فيها محبته وقدرته وحكمته.                   
                                                                   

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com