عدد رقم 6 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
نعم .. أنت مُتميِّزٌ جدًا!  

ونحن نعيش في زمن اختلت موازينه، قد يتبادر إلى أذهان البعض أننا قد صرنا مجالاً للاحتقار والاستهزاء، وهدفًا سهلاً لمن يبغي إيزاءنا، وكأن الله يقف بعيدًا لا يبالي بنا، وما عاد يسمع لنا ويستجيب تضرعاتنا ويحامي عنا.  وفي هذا الجو المشوَّش قد نرتبك في حقيقة قيمتنا، فنصغر في أعين أنفسنا وفي أعين من حولنا، وينتابنا كثير من الفشل والإحباط.  غير أننا بذلك نتجاهل أهم نظرة، وهي نظرة الله لنا.  فليست العبرة كيف أرى وأُقيِّم نفسي، وليس كيف يراني ويُقيمني الناس، بل كيف يراني ويُقيمني الله نفسه.

لو كان غيرك سيدي                  لو كان بي يتحكم

من أين كنت سأرحم                  فأنت وحدك ترحم

لو كان غيرك سيدي                  لو كنت منه  أُقيَّم

من أين كنت سأُرفع                  وبذا  المقام  أُكرم

عندما وقف مفيبوشث الأعرج أمام داود الملك، قال له: «من هو عبدك حتى تلتفت إلى كلب ميت مثلي؟» (2صم9: 8)، وداود نفسه عندما كان تائهًا في البراري مطارَدًا من الملك شاول، قال: «وراء من خرج ملك إسرائيل؟ وراء من أنت مُطارِدٌ؟ وراء كلب ميت؟ وراء برغوث واحد؟» (1صم24: 14)، وهكذا كانت نظرة وتقدير العشرة جواسيس لأنفسهم إزاء الشعب الساكن في الأرض التي وعدهم الرب أن يمتلكوها، فنسمعهم يقولون: «كُنَّا في أعيننا كالجراد، وهكذا كنا في أعينهم» (عد13: 33).

ولكن هل حقًّا نحن كذلك؟ هل نحن لا قيمة لنا؟ هل نحن لقمة سائغة لكل من يريد أن ينال منَّا أو يفترسنا؟ وهنا نستعيد كلمات داود الرائعة وهو يُدرك مكانة الشعب ليس في عيني نفسه، ولا في عيني الناس بل في عيني الرب: «وَأَيَّةُ أُمَّةٍ عَلَى الأَرْضِ مِثْلُ شَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ الَّذِي سَارَ اللَّهُ لِيَفْتَدِيَهُ لِنَفْسِهِ شَعْبًا!» (2صم7: 23).

لقد رأى داود تَميُّز وتفرُّد الشعب عن سائر شعوب الأرض، ذلك التَميُّز الذي نقرأ عنه كثيرًا في كلمة الله، حيث نقرأ عن حيثيات عديدة ومتنوعة تُبرِز تميُّز هذا الشعب بصورة فريدة ورائعة، فقد قال موسى: «بماذا يُعلَم أني وجدت نعمة في عينيك أنا وشعبك؟ أليس بمسيرك معنا؟ فنمتاز أنا وشعبك عن جميع الشعوب الذين على الأرض» (خر16:33)، وفي نهاية الرحلة قال: «ليس مثل الله يا يشورون، يركب السماء في معونتك، والغمام في عظمته ... من مثلك يا شعبًا منصورًا بالرب؟ تُرس عونك وسيف عظمتك» (تث26:33-29).  وها داود هنا يُبرز إحدى هذه الحيثيات، حينما يتساءل: أية أمة على الأرض نظير شعبه حظي بأن الله نفسه يسير إليه ليفتديه؟

وأول فكرة تصدم الفكر البشري هي أن الذي أخذ زمام المبادرة هو الله، فنحن لم نسر إلى الله بل هو الذي سار إلينا!   

وهناك فكرتان عند البشر عكس بعضهما، الأولى أن الإنسان عليه محاولة الوصول إلى الله بمجهوده وأسلوبه هو، وأول رائد في هذا الطريق هو قايين، الذي حاول أن يقترب إلى الله ويتلمَّس رضاه، وبكل أسف خاب ظنه، وسقط وجهه.  ومع ذلك نجد إلى يومنا هذا الكثيرين الذين ما زالوا يسيرون في طريقه، وهذا ما يؤكده يهوذا في رسالته: «ويلٌ لهم لأنهم سلكوا طريق قايين» (يه11).

والفكر الآخر هو أن الله بعيدٌ جدًّا عن الإنسان.  إنه يسكن في السماء، ولا يشعر بمعاناة البشر وشقائهم.  إنه منعزل وحده، ولا يبالي بخلائقه الضعيفة البائسة!

وكم نتعجب أن هذا الفكر المغلوط عن الله، والذي يصفه بالقسوة واللامبالاة لاقى ترحيبًا وإعجابًا عند البشر، حتى أن كاتبًا مصريًّا كبيرًا حصل على جائزة “نوبل” العالمية، على رواية كتبها صوَّر فيها الله، بشخصية “الجبلاوي”، يعيش بمفرده بمعزل عن الناس أعلى الجبل، في قصر كبير وفخم لا يشاركه فيه أحد، وهو يمتلك جميع الأراضي المحيطة بالجبل، وفي كل حي من أحيائه هناك من يفرض سطوته على أفراد الحي ويُحصِّل منهم إيجار الأرض لصالح الجبلاوي، الذي لم يره أحد من الناس قط، بل فقط يسمعون عن عظمته وجبروته، وعن فخامة قصره وجمال حدائقه وكثرة حاشيته!!  إنه يعيش في نعيم مترفٍ، أما هم فيعانون من الفقر المتقع، ومن بطش وظلم رجاله، ولا يستطيعون أن يُسمِّعوا صوتهم أو شكواهم إليه.  فكيف لهم أن يصلوا إليه، وهم لا يعرفونه ولم يروه على الإطلاق؟!

لكن هل حقًّا الله هكذا؟ هل الله كما صوَّره فكر الإنسان المريض يعيش في قصر من عاج مترفِّعًا عن خلائقه لا يبالي بهم، ولا يكترث بشقائهم؟

إن ما شاهده موسى، وما سمعه من فم الرب نفسه يدحض هذا الفكر تمامًا:

 فلقد شاهد عُليقة تتوقد بالنار ولا تحترق، وما أبلغ هذا المشهد فالنار تمسك بالعليقة ولكنها لا تتأثر بذلك ولا تحترق، وهكذا كان حال الشعب، فكل الاضطهادات التي تعرض لها من يد فرعون لم تؤثر في نموهم وازدهارهم، وهكذا نقرأ: «ولكن بحسبما أذلوهم هكذا نموا وامتدوا!» (خر1: 12).

 وسمع كلمات من الرب نطق بها من وسط العليقة ما أروعها: «إني قد رأيت مذلة شعبي ... وسمعت صراخهم ... إني علمت أوجاعهم، فنزلت لأنقذهم» (خر3: 7، 8).

نعم الله يرى معاناتهم وشقاءهم، يشعر بهم وبأناتهم وأنينهم، يسمع صراخهم، ويدرك كم التعاسة التي هم فيها.  وليس ذلك فقط، بل ها هو يعلن لموسى صراحة أنه “ينزل” لينقذهم!!

فإن كان فرعون استهان بالشعب واحتقره (خر5: 7-11)، وإن كان الشعب صَغُر في عيني نفسه (خر6: 9)، إلا أن الله عبَّر عن اهتمامه وتقديره لهم! وها هو ينزل بنفسه لينقذهم!

وإن كان هذا هو تقدير الرب لشعبه في القديم، فكم يكون تقديره لنا في تدبير النعمة؟ كم يكون تقدير الرب لكنيسته؟ نعم لقد نزل الرب في القديم لينقذ شعبه، لكنه نزل في صورة رمزية، في الشكينة؛ سحابة المجد، ولكن الأمر يختلف معنا تمامًا، وهذا ما يوضحه الرسول.  فمن أجل أن يخلصنا الرب وينقذنا «أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة» (غل4: 4).  وهكذا لنا أن نُردد مع الرسول: «بالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد» (1تي3: 16).  إنه ليس الجبلاوي المعتزل عن شعبه والذي لم يره أحد، بل أعلن نفسه لنا في ابنه «الله لم يره أحد قط (هذا حق) الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبَّر (وهذا هو التميُّز)».

ولكي يحرر الرب شعبه في القديم من سطوة فرعون أنزل على أرض مصر ضربات عظيمة، واستعلن لفرعون بقوته وجبروته.  لقد خلَّص شعبه بيد شديدة وصنع آيات وعجائب عظيمة في أرض مصر (تث6: 21، 22).  ولكن عندما أراد أن يخلص كنيسته؛ عروسه لم يُستعلَن بالقوة بل بالضعف! لقد ارتضى تبارك اسمه أن يأخذ صورتنا البشرية، ويوضع قليلاً عن الملائكة لكي «يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد» (عب2: 9).  «الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس، وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب» (في2: 6-8).

فإن كان داود يعتبر أنه لا نظير لبني إسرائيل الذي سار الرب ليفتديه، فماذا نقول نحن إزاء تقدير الرب لنا.  إنه التاجر الذي يطلب لآلئ حسنة، وعندما وجد لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن مضى وباع كل ما كان له واشتراها» (مت13: 45، 46)، وما كان الذي باعه أقل من حياته التي قدمها على الصليب! وما كانت تلك اللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن سوى الكنيسة! نعم .. لقد خصَّنا بمحبة متميزة فائقة المعرفة، إذ «أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها» (أف5: 25)، لهذا جدير بنا أن نفخر ونعتز بإلهنا الذي نظر إلينا بكل محبة وتقدير.

نعم لا نظير لنا.  لقد حظينا باهتمام الله .. بمحبة الله .. بتقدير الله.  لقد ميَّزنا عن كل ما عدانا.  ولنا أن نردد بثقة وباعتزاز: «الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟» (رو8: 32).  صار المسيح لنا، فصرنا نملك كل شيء، وقريبًا جدًّا سوف يُستعلن المسيح بمجده، وسوف نُستعلن نحن معه بالمجد، ويتم قول الرب: «وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني» (يو17).

 فلماذا أنت منزعج وقلق؟ لماذا تشعر وكأن مصيرك في يد كل من تسول له نفسه أن يعبث به؟ لا ليست الأمور هكذا.  أنت مُتميِّز جدًا ولك كل التقدير عند الرب الذي أحبك وفداك، ووعد أن يسير معك ولا يتركك.  إننا قطيعه وهو راعينا، ولقد صرنا أعضاء جسده، من ومن عظامه، والذي قال: «من يمسكم يمس حدقة عينه» (زك2: 8)، هو الذي قال لشاول الطرسوسي في يوم لاحق: «لماذا تضطهدني .. صعب عليك أن ترفس مناخس» (أع4:9،5).  فدعنا نشكر الرب على ما ميَّزنا به، ونهدئ نفوسنا أمامه، ونردد ما قاله داود: «بسلامة أضطجع، بل أيضًا أنام، لأنك أنت يا رب منفردًا في طمأنينة تُسكنني» (مز4: 8).                                                                       

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com